صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ كتاب صالح الحاجّة ‘لعنة الصحافة في تونس’…أو هذه حكاية حلم حياتي..

كتب: نوفل سلامة  

سي صالح، عم صالح، الأستاذ صالح، الجريدي المشاكس، الصحفي الذي لا يتكلم كثيرا أو الصحفي الحزين المهموم…هي كلها أوصاف يمنحها الكثير من الناس لشخص واحد معروف في تونس هو صالح الحاجّة صاحب جريدة الصريح أو صاحب “صالون” الصريح هكذا عُرف وهكذا ينادونه وهي تسمية محببة إلى قلبي…

حتى أنا فقد كان كل من يعترضني أو التقي به يقول لي “موش أنت إلي تكتب في صالون الصريح”.. هذا الرجل الذي يعدّ مع أسماء أخرى أحد أباطرة الصحافة التونسية في الزمن الراهن وأحد الأسماء التي ستظل بارزة في تاريخ الصحافة رغم من يحقد عليه وكل من لا يتفق معه، قد أصدر منذ أيام قليلة كتابا مهما للغاية عبارة عن شهادة على عصر ولى وانتهى…

عصر كانت فيه الجريدة مقلقة لرجل السياسة وزمن كانت تحتل فيه الصحافة مكانة متقدمة في تشكيل الوعي وإيقاظ الهمم وتحريك الضمائر والتأثير في الجمهور وتوجيهه وحتى احتوائه…شهادة على عصر كانت فيه الجريدة الورقية مجال تثقيف ووسيلة للمعرفة والفهم وتحريك السواكن في قضايا عديدة كثيرا ما كان السياسي يتحرج منها…

كتاب مثير..

كتاب لعنة الصحافة في تونس هو كتاب صغير في حجمه ولكنه مثير في مضمونه يقدم صاحبه شهادة على مرحلة كاملة كانت فيها الصحافة سلطة نافذة كلمتها مهابة ومسموعة وسلطة رابعة لا تقل قيمة عن باقي السلط الأخرى ولكنها اليوم تغادر الميدان لتترك مكانها لغيرها من منتجات العصر ومفرزات التقدم التكنولوجي…كتاب يحيلك على معنى غير محبّب وعلى مفهوم ديني مستهجن يقابله الدعاء بالشر والسؤال كيف تحوّل حلم طفل صغير ‘جريدي’ من أبناء الجنوب الحالم بالمجد والشهرة والتفوق والتألق، إلى رجل حزين وشخصية مهمومة…
وكيف تحول حلمه الجنيني إلى لعنة رافقته إلى اليوم ولا زالت ترافقه رغم تركه لها…كتاب يحيلك على كتاب هالة الوردي ‘الخلفاء الملعونون’ وما حصل لصحابة رسول الله صلى الله عليه سلم من الخلفاء الراشدين خلال ممارسة الحكم من مآس وما جلبته الصحافة من مشاق ومتاعب على أصحابها وما جلب العشق الجنوني والولع المفرط بالصحافة على صالح الحاجّة وغيره من ‘المعتوهين المجانين’ من مكاره ومصائب إلى درجة أننا نخال أن لعنة قد أصابته…

تجربة مريرة

حكاية هذا الكتاب ليست حكاية صالح الحاجّة لوحده مع مهنة المتاعب وإن كانت كذلك وهي ليست شهادة على تجربة مريرة ومرّة رافقت مسيرته في هذا العالم المجنون الذي يسميه الصحافة وإنما الكتاب مع كل ذلك حكاية شكوى وحلم وبكاء وعويل وندب حظ أوصل صاحبه إلى هذا الطريق الملعون الذي جلب له المتاعب والمزيد من المتاعب .. حكاية عشق وعاشق احترق بنار معشوقته واكتوى بخيانة محبوبته  .. حكاية غرام بدأت بالانتقام وانتهت بالهزيمة والانسحاب في صمت حزين.
كتاب يحكي قصة صالح الحاجة مع لوثة الصحافة وسردية صحفي مع مهنة العذاب والعذوبة وقصة مهنة تأكل أبناءها الصحفي فيها لا هو مشكور ولا هو مذموم وإنما حاله كما تقول المعتزلة في مرتكب الكبيرة أنه في منزلة بين المنزلتين .. قصة زمرة من المجانين المساكين الذين تورطوا في حب الورق وحب الكلمة وحب الكتابة وحب الجريدة في بلد لا يعترف بالحلم لأبنائه.. في بلد لا معنى ولا اعتراف فيه بالحلم ..فالحلم في هذا البلد ينتهي بصاحبه إما إلى الجنون وإما إلى الحبس وإما إلى الانتحار…

سفر دون عودة!

هذه هي قصة صالح الحاجة مع الصحافة وقصة صاحبة الجلالة معه وهذه حكاية أيامه الأولى و الأخيرة مع الجريدة أياما جعلته يتورط في طريق من دون قدرة على الرجوع وسفر في عالم الورق والمطابع والكتابة بلا عودة بالرغم من أنه يعلم أنه طريق متعب وشاق وخطير وموحش .. قصة مهنة تعلّم كيف يحب المرء العذاب وهو يعلم أن ما يقوم به سوف يجلب له العذاب .. مهنة تعلّم صاحبها كيف يكون جبانا ومع ذلك لا يقدر أن يهرب ويبحث له عن مهنة أخرى فالصحفي رغم كل ذلك يولد صحفيا ويموت صحفيا…
الكتاب شهادة صادقة من رجل خبر الصحافة والتصق بخباياها وخفاياها وعاشر المؤثرين فيها وخبر مداخلها ومخارجها…وقصة رجل اتعبته الصحافة وأتعبها حينما أصر على مقاومتها أو قل مقاومة المكينة التي تتحكم فيها و’السيستام’ الذي يقودها والمحيط الذي يكبلها فلم يفلح وخسر المعركة رغم أنه مسالم حاول تطويعها فطوعته حتى أنهكته .. الكتاب سردية رجل بحث عن السعادة المفقودة في حياته عله يجدها عند صاحبة الجلالة فترفعه إلى السماء أو يعثر على جنيّ القنديل السحري عله يحقق له أمنية واحدة  فقط..قصة صحفي كان يصارع طواحين الهواء كما صارعها ” دون كيشوت ” وخاض حربا متوهمة غير موجودة ومتخيلة معركة أوجدها في خياله فسقط حصانه وسقط هو معه.

صحافة ‘التبهذيل’!

قيمة الكتاب أنه يقدم شهادة على عصر كانت فيه الصحافة قريبة من السياسة و شهادة على الظروف التي كانت يُدار فيها الإعلام في مرحلتين مهمتين من تاريخ تونس المعاصر فترة الرئيس بورقيبة وزمن الرئيس بن علي وكيف كان يتم التدخل في المحتوى وتعطى التعليمات وكيف كان يتم استدعاء صاحب الجريدة إلى مكتب المسؤولين ليتم التوبيخ و”التبهذيل” والتهديد والوعيد أو كما يقول صالح الحاجّة  “تطييح القدر وتسميع الكلام”.

الصحافة هي سوق وصناعة

أهمية الكتاب في الجرأة التي تسلح بها صاحبه واعترافه الجريء بأن الصحافة  ليس كما نتصور وتعتقد وإنما هي في حقيقتها عالم السياسة و البزنس وميدان الصفقات والتحالفات و”التكمبين” الصحافة هي صناعة ثقيلة يحكمها منطق السوق وقوانين السوق ولغة الربح والخسائر والمال ويتوهم من يظن أن الصحافة هي قصة حرية و رأي حر وحرية تعبير وكل الكلام الرنان عن الحياد والموضوعية والنزاهة في حين أن الحقيقة وكما يرويها سي صالح  في قصته مع صاحبة الجلالة هي مجال استثمار وتفاهمات وترضيات وكل الكلام على الإعلام الحر والإعلام النزيه والصحافة التي تكون في خدمة المواطن والإقناع بأن صاحبة الجلالة دورها إنارة الجمهور والدفاع عن مصالحه ووسيلة في التحكم في العالم هذا كله هراء ومجرد وهم وخيال فالقضية في النهاية أن الصحافة هي سوق وصناعة ولعبة تجار ولعبة مال وثروة وتحالفات وسياسة ..
قيمة الكتاب في كونه يطلعك على المشهد الحقيقي الذي كان يحكم الصحافة في الزمن الماضي والمناخ العام الذي يتحكم في هذا القطاع وهو مشهد يتحكم فيه رجل السياسة من الأول إلى الآخر وركائزه ما كان يقوله المسؤول السياسي في كل استدعاء لصالح الحاجّة لتوبيخه وإسماعه ما لا يريد سماعه على صورة غلاف في جريدة الصريح أو على مقال رأي أو تقرير لم يرض من تولى مهمة الرقابة والصنصرة: هل أنت وطني ؟ وهل أنت معنا أم لا؟

كتاب مهّم

لعنة الصحافة هو كتاب مهم لأنه ليس فقط سيرة ذاتية يحكي من خلالها صالح الحاجة قصته المؤلمة مع صاحبة الجلالة أو لأنه سيرة ذاتية حزينة لرجل عشق الصحافة فأذلته وإنما لأنه كتاب يؤرخ لجيل كامل من الصحفيين خانهم زمانهم وخدعهم وسخر منهم يروي سردية جيل يعترف بأنه خان الأمانة وضيع البوصلة وتاه في الطريق .. جيل حلم طويلا وحمل في فترة قضية اعتقد أنها عادلة ومعها حمل بندقية .. جيل حلم بالانتصار والتفوق والتغيير .. جيل عاصر العمالقة من الإعلاميين وعاشر العمالقة من السياسيين والمثقفين جيل انتهى به الأمر إلى السقوط الواحد تلوى الآخر رغم كل الاصرار والعناد والمكابرة .. جيل لا نعلم هل هو من كان لعنة على الصحافة أم أن الصحافة هي التي كانت لعنته.
 كتاب “لعنة الصحافة” لصالح الحاجّة يستحق القراءة والتأمل لفهم ما جرى وحتى نفهم ما يجري اليوم في مهنة المتاعب…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى