صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: هل نحتاج إلى تأسيس جبهة لمقاومة ثقافة الرداءة؟

slama
كتب: نوفل سلامة

هناك اليوم شبه إجماع تقريبا مع بعض الاستثناءات القليلة على أن ما يُقدم في كل رمضان من كل سنة من أعمال درامية، وما يبث من مسلسلات في شهر الصيام هي أعمال رديئة كتابة وحوارا وفكرة ومعالجة ورؤية فنية…

وهناك رأي عام واسع يستنكر ما تقدمه القنوات الخاصة من إنتاج درامي لا يعكس حقيقة الواقع التونسي المتشعب ومتعدد الاهتمامات والمشاغل، وهناك إجماع حول كمية العنف اللفظي والمادي في أعمالنا الدرامية وتركيز واضح وغير مفهوم على مواضيع تُعاد كل سنة من مخدرات وعلاقات جنسية مشبوهة وانحراف وإجرام وسلوكيات متوترة وعلاقات منهارة وأسر مفتتة وقيم غائبة وشباب تائه وضائع لا يعرف طريقه ولا ضالته…

وهي أعمال تصور جانبا من المجتمع فقط وجزءا منه لا يشكل أغلبيته وخطورة هذا التمشي في كونه يقدم على أنه الصورة العامة والكاملة للمجتمع التونسي ومحاولة إقناع عموم الشعب بأن حقيقته وواقعه في هذا الجزء الذي يُقدم دراميا.

منعرج كبير

كما أن هناك إجماع آخر حول حقيقة المنعرج الكبير الذي عرفته الدراما التونسية بعد الثورة مع صعود بعض القنوات الخاصة وتصدرها المشهد السمعي والبصري وتراجع الإعلام العمومي وقنواته التلفزية والإذاعية نحو الاشتغال بكثافة على محور العنف والجريمة والتفسخ الأخلاقي والانحلال القيمي و إنتاج مسلسلات موجهة تقدم صورة عن المجتمع التونسي المهزوز وواقعه تعمه الرتابة والقتامة وسلوكيات العنف والجريمة، وهي مسلسلات تصور المجتمع منهارا أخلاقيا وقيميا و غارقا في الفساد والرذيلة وعائلاته مفككة…
مسلسلات تبحث عن مبررات لإحلال الرذيلة والتساهل والتسامح مع الحرام وجعل المشاهد يتعاطف مع الفاحشة ويتعايش مع سلوك المنحرف والمجرم والسارق والعاق لوالديه والتطبيع مع ظروفه والأسباب التي تدفعهم لذلك والقبول بها والتسامح معها.

هروب من القضايا الأساسية

ما يقدم اليوم من أعمال فنية ينفق عليها أموالا طائلة ويسخر لها إمكانيات كبيرة وتدعم ماديا من قبل رجال الأعمال وأصحاب المشاريع هي في العمق هروب من معالجة القضايا التي تهم عموم الشعب وتجسد مشاكل المجتمع إلى معالجة قضايا فئة معينة من فئاته تحت شعار متحيّل مخاتل يوهم الجمهور أنه يعالج قضاياهم وانتظاراتهم وأحلامهم والحقيقة على الخلاف من ذلك… هي أعمال تخدم فئة محددة في المجتمع من مصلحتها التساهل مع تعاطي المخدرات والتساهل مع تجاوز القيم والأخلاق والآداب وأساسيات التربية وقواعد العيش المشترك والعلاقات السوية..
مسلسلات تركز عن قصد على عنصر الجريمة كهدف في حد ذاته والانحراف بنا نحو قضايا الجنس والعلاقات المنفلتة والمخدرات والشذوذ وتحويل وجهة الفن والثقافة عن القضايا الكبرى للمجتمع، والتي تعنيه أكثر وتحدد مستقبله وحياته وتتعمد عدم إبراز الصور المشرقة فيه أو التطرق إلى التجارب الناجحة للكثير من أفراده أو تقديم المثل والقيم النبيلة فيه والعلاقات السوية والأصيلة التي تعيش عليها الكثير من العائلات التي لا تعرف اهتزازات ولا تصدعات ولا انحرافات.
الخطير في هذه الأعمال التي تكرر نفسها في كل رمضان والتي تجتر عمدا نفس القضايا والمحاور فيما يحصل من محاكاة لتوجهات قنوات أجنبية أخرى وما يحصل من تشبيه مجتمعنا وواقعنا بمجتمعات أخرى وواقع شعوب لا تشبهنا وتقديم قضايا الجريمة والجنس والمخدرات والتجارة الممنوعة والانحراف بكل أشكاله والشذوذ والتحلل من كل القيم والمبادئ والأخلاق على أنها حقيقتنا وصورتنا وأن واقعنا الحقيقي منحصر في مجموعة من الاخلالات والانحرافات .

واقع الرداءة

اليوم ما هو مطلوب أمام واقع الرداءة الذي بات عليه المشهد التلفزيوني في بلادنا وأمام حالة الانفلات والفوضى التي تعرفها الدراما التونسية في كل سنة وأمام مواصلة الأطراف التي تقف وراء محاولة تشكيل صورة مختلفة وجديدة للمجتمع التونسي وتبديل اهتماماته وخياراته وشواغله نحو قضايا فئة محدودة من الشعب من مصلحتها خلق مناخات تنبت فيها الرداءة والبذاءة وكل محاولات ترذيل الثقافة والفن والابداع…

حركة ثقافية تصحيحية

أمام كل ذلك نحتاج إلى حركة ثقافية تصحيحية تعيد للفن والثقافة والإعلام مكانته ودوره الحقيقي الذي لا يكتفي بتشريح الواقع وتشخيصه ولا يقتصر على الوقوف على بعض مظاهر الانحراف في المجتمع ولا يعري فقط إخلالات السلوك عند أفراده ولا يقف عند كشف أمراضه وما يتعبه من مشاكل وإنما يزيد على ذلك بأن يقدم الحلول ويطرح التصورات للخروج من هذه المآزق ويقدم النماذج الناجحة ويرسم الطريق للإصلاح.

نحتاج فكرة ثقافية جديدة

اليوم أمام هذا المد العارم من الرداءة التي تعيشها الدراما التونسية كتابة وفكرة ورؤية فنية ومعالجة مجتمعية وأمام تواصلها في الزمن ولم تعد ظاهرة ظرفية كما كان يعتقد تعرفها الكثير من المجتمعات لفترة ثم تختفي نحتاج إلى تكوين جهة لمقاومة هذه الرداءة بمشروع ثقافي جديد جدي وفاعل و التصدي إلى موجات الابتذال ومحاولات إضعاف الذائقة الفنية للشعب، نحتاج فكرة ثقافية جديدة للرفع من مستوى المتفرج و مشروع ثقافي جديد لمقاومة مشاريع إغراق البلاد والمجتمع في مستنقع الفساد من دون طرح الحلول ونحتاج إلى مشروع فني لمقاومة محاولات التغريب والتضليل والتطبيع مع المخدرات والعلاقات الجنسية المحررة من كل قيد وخاصة قيد الأخلاق والقيم وما تعارف عليه المجتمع من سلوك قويم سوي وما ترسخ في هذه الربوع من قيم دينية سمحة تمثل خصوصيتنا وذاتيتنا وهويتنا التي نعتز بها وفسح مجالات إبداعية مختلفة عما يروجه كل المرتبطين بمشاريع تم الترتيب لها خارج الحدود وهي دوائر مرتبطة بثقافة المستعمر القديم ومدعومة من طرف دوائر نفوذ غربية تسعى إلى جعلنا نسير على خط واحد وعلى نمط واحد وعلى خيارات واحدة وتعتبر أن ما يقره الغرب ويسنه ويرتضيه لمجتمعاته ملزم لنا وصالح لنا وعلينا اتباعه.
نحتاج إلى تكوين كتلة ثقافية هدفها مقاومة كتلة الرداءة والتصدي لكل المشاريع الانتهازية ومقاومة المثقف الوظيفي الذي يعمل لصالح جهات من مصلحتها كسر الانسجام الوطني والتحلل من الهوية الجامعة والسخرية من كل القيم والأخلاق والمبادئ والمثل العليا بدعوى الانفتاح والانخراط في النظام العالمي ومنظومة قيمه الكونية التي اتضح أنها مزيفة وغير عادلة وظالمة ومتحيّلة وفي خدمة الإنسان الغربي لا غير، مشروع ثقافي وطني بديل يكون جسرا بين أصحاب الفعل الثقافي ورموزه والناشطين من الشباب الطامح إلى تعبيرات فنية مغايرة فالدراما أصبحت ماكينة تجارية انعدم فيها الفن وكرست أعمالا يتحكم فيها أصحاب المشاريع الاقتصادية والممولين للومضات الإشهارية هم اليوم من يفرضون قناعاتهم وخياراتهم ورسائلهم الملغومة وهم اليوم من يشكلون المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى