صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: كتاب ‘نفحات من تاريخ تونس’ للأستاذ عيسى البكوش…أو كيف نجري مصالحة بين الشعب و تاريخه ؟

كتب: نوفل سلامة

نحن اليوم أمام مؤلف جديد للأستاذ عيسى البكوش صادر عن ‘دار نيرفانا للنشر’ سنة 2022 عدد صفحاته 415 صفحة من الحجم المتوسط قدم له الأستاذ الحبيب الجنحاني، هو في الأصل مقالات كتبها في جريدة ‘الصريح’ على فترات ثم جمعها في مؤلف سماه ‘نفحات من تاريخ تونس الطويل’…

 تمتّد المقالات من الحضارة القبصية وتنتهي إلى عهد الأمان ودخول تونس عهد التحديث والفكر الاصلاحي مرورا بكل المحطات التاريخية المؤثرة والأحداث التي كانت علامة بارزة في ضمير هذا البلد مع التعريف بالكثير من الأعلام والشخصيات الدينية والأدبية والفكرية والعلمية والسياسية المؤثرة فيها ما هو معروف وفيها ما هو غير معروف بما يجعله كتابا موجها الى جمهور واسع فيه القارئ العادي الذي لا يهمه كثيرا التاريخ ولكن تشده المعلومات الواردة فيه و المتخصص والمتعلم والذي يعنيه تاريخ البلاد ويستهويه.

جهد كبير

ونظرا لقيمة الكتاب و الجهد الكبير الذي بذله الأستاذ عيسى البكوش في عملية البحث والاطلاع والتنقيب في الكثير من المراجع والمصادر التاريخية والجهد الآخر في عملية الكتابة الموجهة إلى أوسع شرائح المجتمع وخاصة فئة الشباب والناشئة التي تجهل الكثير عن تاريخ البلاد القديم والحديث، ارتأت المكتبة الوطنية تأثيث ندوة فكرية يوم السبت 14 جانفي الجاري لتقديم الكتاب ومناقشته حضرها ثلة من أهل الفكر والثقافة كان من بينهم الكاتب علي حمريت وأحمد الحمروني والأديب عبد الواحد ابراهم والدكتور حمزة الصدام مؤرخ الطب التونسي وغيرهم وبعض السياسيين على غرار السيد محمد الناصر رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس مجلس النواب في زمن حكم المرحوم الباجي قائد السبسي.

مصالحة ضرورية

يتعرض الكتاب إلى محطات مختارة من تاريخ تونس القديم والمعاصر اختارها عيسى البكوش عن قصد وحبرها بأسلوب سلس وبلغة جميلة جاذبة للقراءة وتشد إليها القارئ واختار الاختصار وعدم التوسع في بسط الأحداث التي ركز عليها غايته في ذلك تقريب التاريخ من الناس وتحبيب الناشئة في تاريخهم وربط العلاقة والصلة المفقودة مع التاريخ وإجراء مصالحة ضرورية مع كل هذا الإرث الحضاري الذي تتوفر عليه البلاد ويختزله التاريخ المنسي والذي لا يعرفه إلا خاصة القوم.
تولى تقديم الكتاب الدكتور عبد العزيز الدولاتلي الأستاذ المؤرخ ورئيس جمعية معالم و مواقع والمدير العام السابق للمعهد الوطني للتراث الذي اثنى على الجهد الكبير الذي قام به عيسى البكوش في تقديم تاريخ تونس بطريقة مختلفة على المصنفات الأخرى التي تناولت تاريخ البلاد من خلال تركيزه على قضايا بعينها ومحطات مختارة سمها ‘نفحات’ بطريقة مختصرة غير مملة وبلغة بعيدة عن التعقيد تفتح شاهية مواصلة القراءة مع التعرض الى شخصيات مهمة في هذا التاريخ المغيب عن الكثير من أبناء الشعب والكتاب حسب الأستاذ الدولاتلي هو عبارة عن أربع مسرحيات مرت بها البلاد بداية من المسرحية الأولى مع الحرف الأول في كتاب تاريخ تونس وهو الحضارة القبصية  أو الكبسية كما هو أسمها القديم مرورا بالمسرحية الثانية مع الوافدين على هذه الأرض التي كان يسكنها أسلافنا الأوائل قبائل البربر من رومان وفندال وفينقيين وقرطاجنيين وأسبان والمسرحية الثالثة مع الفتح الإسلامي والوافد العربي وكل السردية لتعريب البلاد وأسلمته والمسرحية الرابعة هي الوافد العثماني مع نهاية الدولة الحفصية التي عرفت تقلبات كثيرة خاصة بعد أن أصبحت معها تونس عاصمة الدولة ويتخلل كل مسرحية من هذه المسرحيات الأربع التعرض للكثير من الأحداث المؤثرة والتعريف بشخصيات مهمة…

إلى أي مؤرخ نحتاج؟

من القضايا التي أثيرت في هذه الندوة قضية من يكتب التاريخ؟ فهل يكتبه المؤرخ المختص أم هو مجال مفتوح على غير المؤرخين القادمين من حقول معرفية مختلفة كما هو حال الأستاذ عيسى البكوش القادم من فضاء علم الاجتماع العمراني القريب من علم التاريخ؟ وهل صحيح أن الذي أفاد الكتابة التاريخية وقدم الاضافة هو المؤرخ غير المختص ؟ فهل نحتاج اليوم الى المؤرخ الذي يكتب التاريخ بالطريقة الكلاسيكية القديمة أم نحتاج الى من يكتب التاريخ ولا ينظر في أحداثه فقط و يكتفي بسرد وقائعه لا غير من دون تناول جوانبه النفسية والاجتماعية والسياسية وكل التحولات والتقلبات التي يعرفها ؟ و في هذا المجال فإن الاستاذ عيسى البكوش قد وفق في كتابة التاريخ وبرهن على أنه يمكن لغير المؤرخ أن يكتب أفضل من المؤرخ المختص لاعتماده على مقاربات وزوايا نظر لا يراها المؤرخ المختص.

توجيه للقارئ

 من القضايا الأخرى المثارة سؤال كيف نصنف هذا المؤلف الجديد للأستاذ عيسى البكوش؟ وأين نموقع هذا الكتاب ضمن ما يكتب اليوم من مؤلفات حول التاريخ التونسي ؟ هل هو كتاب تاريخ أم كتاب يتحدث عن التاريخ خاصة و أن الكتابة التاريخية التي اعتمدها عيسى البكوش هي كتابة جديدة فهي ليست كتابة روائية تقدم التاريخ في قالب روائي كما فعل حسنين بن عمو وليست بالكتابة التقليدية التي تكتفي بالسرد المكثف لحقبة زمنية محددة بكل تفاصيلها وتعتمد تكثيف التواريخ كما أنها ليست كتابة تأويلية تقحم الايدولوجيا في التاريخ، وتحاول أن تفهم وتتدبر الوقائع وما حصل كما فعل الهادي التيمومي وإنما هي كتابة أخرى فيها توجيه القارئ إلى زاوية محددة من الحقبة الزمنية المتحدث عنها وتركز على مسائل دون أخرى بأسلوب أدبي يمتزج فيه الفكر بالتاريخ فهي إذن كتابة أدبية في مسائل تاريخية تدعو إلى التبصر والتأمل وهو جنس قليل في الكتابة التاريخية قال في شأنه الأستاذ الحبيب الجنحاني في تقديمه للكتاب ” لعل الأستاذ عيسى البكوش أراد تقديم درس في السياسة عبر التجارب التاريخية ومن لا يعرف التاريخ يكبو به الجواد في السياسة “

سؤال غامض

فهل أقنع الأستاذ عيسى البكوش بالحديث عن تاريخ تونس بهذه الطريقة المختصرة و باعتماد المختصرات في تناول مسائل التاريخ ما يتركه غامضا غير مفهوم ويترك السؤال دوما مطروحا من أجل الفهم والإبصار؟
وفي المقابل هل كان يطلب منه أكثر من ذلك وهو يكتب للعموم في جريدة سيارة غير متخصصة ؟ أليس من الانصاف أن نقول أنه يكفيه فخرا أن نقل قضايا الخاصة إلى عموم الشعب ونجح في إنزال أحداث التاريخ إلى عموم الشعب وكتبها في جريدة يومية يقرؤها عموم الناس  .
  إننا نعتقد أنه من المهم اليوم ونحن نعود من جديد إلى التاريخ أن نكتبه كتابة تأريخية على أهمية الكتابة السردية وأن المطلوب اليوم هو الكتابة التحليلية للتاريخ والكتابة التي تقدم إجابات وتفسيرات أكثر من عرضها للوقائع والاكتفاء ببسط أحداث قد نعرفها .. المهم أن نكتب كتابة حديثة تحاول أن  تفهم وتفسر ما أبهم من دون التوغل كثيرا في الايدولوجيا ولا اسقاط لها أو توظيفها وأهمية وقيمة الكتابة التأريخية أو القراءة التحليلية للأحداث أنها قد تنتهى بصاحبها إلى أن يعيد كتابة التاريخ من جديد أو إلى كتابة جديدة للتاريخ تجعلنا نعيد القراءة من جديد ولا نكتفي بما انتهى إليه المؤرخون.

التأويل والتفسير

فعملية التأويل والتفسير والتحليل مهمة في الكتابة الجديدة للتاريخ ذلك أن المفيد ونحن نتحدث عن تاريخ تونس القديم والحديث أن لا نروي الأحداث كما جاءت في كتب التاريخ من دون أن نقوم بعملية التفكيك والحفر و التحليل والتفسير وكمثال على أهمية الكتابة التاريخية التحليلية ما حصل في زمن الفتح الإسلامي فهل من المفيد أن نروي كيف هزمت الكاهنة القائد حسان بن النعمان في الجولة الأولى من الصراع في زمن الفتح الاسلامي ولا نتوقف عند رجوعها بعد مطاردته إلى التراب الليبي لنسأل كيف دخلت مدينة القيروان وهي يومئذ مدينة إسلامية من دون أن تتعرض بأذى إلى أحد أو تقدم على هدم المبانى وتطرد السكان المسلمين ؟ فكيف نفسر هذا السلوك من الكاهنة خاصة إذا علمنا أن الكاهنة كانت تحارب من أجل استرجاع الأرض و طرد الأجنبي من بلادها  وما تعتبره محتلا وغاصبا؟
وما هو التأويل الممكن الذي يمكن أن نقدمه لقرار الكاهنة إيداع أبنائها عند المسلمين وتوصيتهم باعتناق الإسلام بعد أن أيقنت أن جيش المسلمين بعد أن جمع حسان بن النعمان أمره وأعاد تنظيم الجيش وحصل على المدد من دولة الخلافة لا محالة سوف يهزمها فكيف نفهم هذا القرار الغريب الذي يجعل الإنسان يولي أعز ما يملك عند عدوه؟…

عمل مفيد ومهم

ما يمكن قوله أن ما قام به الأستاذ عيسى البكوش في هذا الكتاب الذي يروي قصة تونس من خلال نفحات مختارة من كتاب تاريخها الطويل هو عمل مفيد ومهم في هذه الظرفية الصعبة التي تمر بها البلاد والشعب التونسي فاقد للثقة في كل شيء ومنقسم وغير متفق على أي شيء ولا توجد قضية واحدة تجمعه وحتى التاريخ هو الآخر ليس اليوم مجال تجميع ولعلنا بهذا الاصدار الجديد نجد شيئا يجمعنا ويوحدنا ونجد تاريخا واحدا جامعا مشتركا نعتز به ويفتح لنا الآفاق نحو مستقبل أفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى