صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب: المربّي محمّد الهادي خليل (1936-2023)..كما عرفته

كتب: عيسى البكوش

حينما يتوفّى الواحد منّا ينقطع عمله إلاّ من ثلاثة: صدقة جارية وولد يدعو له بالرحمة وعلم ينتفع به النّاس…

هذه البصمات الثلاث هي بالذات ما خلفته وفاة الأخ الكبير والصديق القدير محمد الهادي خليل الذي غادرنا إلى عالم أفضل يوم 14 مارس 2023.
لقد جاد علينا الفقيد منذ 10 سنوات بسفر “إسهامات ومواقف ” عند دار نشر “كلمة”، ضمّنه شذرات من سيرته ونزر من مواقفه وآرائه في المجال الذي تمكّن منه وتمرّس فيه، وهو أعتى المجالات الانسانية: التربية والتعليم، وما أدراك ما التربية والتعليم.

وقديما أنشد شوقي بيتا حسم برأيي منازل الوظائف في المجتمع وفي الوجدان:
قم للمعلّم وأدّه التبجيلا
كاد المعلّم يكون رسولا
ولكن سي الهادي لم يكتف بهذه القبعة على رفعتها، فلقد انصهر منذ بواكير فتوّته في العمل من أجل المجموعة والذّود على حريّة الوطن كلّفه ذلك ما كلّفه. وما إن بلغ أشدّه حتّى نذر – وهو في الثلاثين- ستّ سنوات من عمره لخدمة موطنه وموطن آبائه وأجداده فقام بما يشبه البناء الأساسي لمدينة أضحت الآن من أبرز مدائن الوطن القبلي.
عمل محمد الهادي خليل كرئيس لمجلس بلدية قربة على امتداد دورتين من 1966 إلى 1972 ” كان هذا الحدث بوّابة الالتحاق بمدرسة الحياة التي تعلّم الإنسان كيف يعيش مع الغير وكيف يتفاعل مع مشاغل منظوريه ” ص 63.

إنجازات تاريخية

ولقد حقّقت رئاسته إنجازات تاريخية إذ أنّها مثّلت الأرض الصلبة التي مكّنت أهل المدينة أطفالا وشبابا وكهولا من التمتّع بمرافق حياتية في كلّ المجالات:
ـ إعداد مثال تهيئة عمرانية وهو الشرط الأساسي لمتابعة التطوّر السكاني فوق المجال الترابي وهو ما يفتقر إليه إلى حدّ التاريخ عدد هام من بلديات الجمهورية.
ـ تهيئة ملعب رياضي وهو لعمري ما مهّد للفريق المحلي تحقيق قفزة نوعية بلغ أثرها على الالتحاق في إحدى المواسم بفرق النخبة الوطنية.
ـ بناء دار الثقافة ومسرح الهواء الطلق، وجمعينا يعلم علم اليقين ما نتج عن ذلك من نهضة مسرحيّة إلى حدّ أنّ هذه المدينة أصبحت قبلة الفرق المسرحيّة في أرجاء البلاد في نطاق مهرجان سنوي وطني للفنّ الرابع.
ـ تهيئة مقاسم بالشاطئ وعرضها على المواطنين بثمن رمزي ” ولم يلق هذا المشروع لمّا بعث إقبالا كبيرا”، ثمّ من بعد ذلك نعرف البقيّة وهي تتمثّل في تشييد نزل فخم وفلل فاخرة.
ـ تشييد قصر البلدية ” يعتبر معلما يحقّ لكلّ قربي أن يفتخر به”.
لعلّ هذا المجهود جلب لصاحبنا بعضا من الانزعاج من ذوي القلوب الحاقدة أعداء النجاح والصرامة التي كانت من شيم الفقيد ” لقد تمسّكت باستقلالية البلدية وحيادها السياسي إذ أنّي اضطلعت بهذه الأمانة بكلّ ثقة في النّفس”.

لا يخشى في الحق لومة لائم

وحتى لمّا تحرّكت أجهزة التفقّد الراجعة بالنظر لدائرة المحاسبات على إثر عدم تجاوبي مع الحملة المستعرة المندّدة بالسيد أحمد المستيري على إثر مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري بالمنستير عام 1971 فإنّها أثبتت حسن التصرّف في الشأن البلدي.
كان دائما هكذا لا يخشى في الحق لومة لائم وهو ما عرّضه فيما بعد لمّا تحمّل وزر التربية كمدير جهوي ثمّ مدير عام ثم وزير إلى كثير من الضجر ولكنّه لم يأب وظلّ واقفا لم تهزّه ريح ولم ترتعش فرائصه.
كنت أسعد باستقباله صحبة صنوه وجاره المنعّم محمد عبودة وكانا يقبلان عليّ مشيا على الأقدام من حيّهما “كارنوا”، وكانت تربطني وإيّاهما وشائج الودّ والمحبّة.
وكنت أقدّر فيهما التضحيات الجسام في مجال التربية والتكوين وقد ترأّس سي محمد المركز الوطني البيداغوجي بينما ترأّس سي الهادي ديوان التكوين والترقية المهنيّة بعد أن عمل الاثنان جنبا إلى جنب في نفس الوزارة.
وإن كان سي محمّد اضطلع في بلديّة أريانة بخطّة مساعد لرئيس البلديّة من 1975 إلى 1980 فإنّ فقيدنا قد تحمّل مثلما أشرنا إليه آنفا وزرا أكبر في سنّ أصغر.
كذلك كان الشأن لمّا تقلّد وكالة رئاسة مجلس النوّاب لدورتين.
ولقد أتى على تلك المرحلة من حياته النيابية في جزء هام من كتابه المشار إليه أعلاه والذي حلاّه في الغلاف بصور ممّن أهدى إليهم الكتاب: الرئيس الحبيب بورقيبة و المصلح خير الدين باشا والاشتراكي السويدي أولوف بالمه، ولكنه على الرغم من ذلك الجلباب السياسي بامتياز فإنّ الفقيد ينفي عن نفسه هذا النعت، بل يذهب أكثر من ذلك باعتماد مقولة سقراط: ” لقد كنت رجلا نزيها لذلك لم أصبح رجلا سياسيا”.

الرجل الإنسان

لقد عرفت الرجل الإنسان وهو من منظوريّ في المنزه الخامس عندما كنت أتحمّل بدوري أمانة مدينة أريانة وكذلك بعد مغادرتي لتلك الشؤون.
والمؤمّل أن تفي مدينة قربة الفيحاء والضاربة في التاريخ ـ إذ تعود نشأتها إلى حوالي 5000 سنة قبل المسيح ـ حقّ الرجل الذي أنجبته فأحبّها وتفانى في إسعاد أهلها بأن تطلق على أهمّ ساحاتها وأفضل شوارعها وأجمل مبانيها اسمه حتّى تستنير الأجيال القادمة من هذا النور الذي لا ينطفئ مثل البدر فإنّه يغرب ولكنه لا يزول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى