صالون الصريح

أحمد القديدي يكتب: الحرب العالمية الراهنة اقتصادية وليست إيديولوجية…  

كتب: د. أحمد القديدي

لا قدر الله طبعا على الإنسانية أن تعيش نفس الجحيم الذي عاشه جدودنا من 1939 إلى 1945 فيما سمي حربا عالمية ثانية (وهي في الحقيقة أوروبية أمريكية جروا لها اليابان)… بعد أن قاسى أباء جدودنا ويلات حرب عالمية أولى هي أيضا سوقوها لنا في شكل “عالمية” وهي غربية محض!

اليوم لا بد من رصد ما اندلع من حرب مدمرة بين روسيا وأوكرانيا هي في الواقع بديل عسكري ساخن للحرب الباردة بين معسكري الغرب والشرق، عشنا نحن أي جيلي في ظلالها من 1945 إلى انهيار جدار برلين في نوفمبر 1989 و تنفسنا الصعداء عندما مرت البشرية بأزمة كوبا (عام 1962) بسلام وكاد كل من (جون ف كينيدي) و (نيكيتا خروتشوف) رئيسا الولايات المتحدة 

والإتحاد السوفييتي أن يضغطا على الزرين النوويين، ونجا العالم من كارثة عظمى!

أزمات جديدة

ولعلنا اليوم أمام أزمات من نوع مختلف ليس لها حدود جغرافية دشنت عهدا من (عولمة…الكوارث) الطاقية (غاز و بترول) و البيئية (تلوث المحيطات و البحار و اتساع رقع طبقة الأوزون لتهدد كوكبنا بالفناء المبرمج ثم جاء الضيف الطارئ متمثلا في الكورونا والأوبئة الخطيرة العابرة للقارات!
ولعل الأزمة المالية و الاقتصادية التي زلزلت استقرار العالم عام 2008 بإفلاس بنوك أمريكية و ضياع الودائع في بنوك أوروبا و روسيا والصين مثل قطع الدومينو تسقط كل قطعة التي تليها!
أما الدروس المستخلصة من الإجراءات النقدية التاريخية التي اتخذتها كل من واشنطن و موسكو 

ولندن (مقر السيتي) و برلين والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هي: أولا: الإقرار بأن الحرب الاقتصادية الساخنة تحل تدريجيا محل الحرب الباردة التقليدية التي كانت إيديولوجية، وانتهت في أول أيام سقوط جدار برلين منذ ثلث قرن، حيث تصارع العملاقان على أسس عقائدية وعلى بسط الهيمنة وخلق مناطق نفوذ، وانقسم العالم إلى غرب ليبرالي وشرق شيوعي على مدى سبعين عاما من السباق نحو التسلح و الاستعداد للمواجهة.

العملة الخضراء

ولعل السبب الرئيسي هو أن المجتمع الأميركي مجتمع اقتصادي بالدرجة الأولى تدخل في اعتباره وتقديره قيمة عملته الأسطورية التي يسميها حسب لونها بالخضراء، ويهم المواطن الأميركي أن يكون دولاره أقوى العملات أي أن تكون الولايات المتحدة حسب هذا المؤشر النقدي أقوى دولة في العالم من حيث هيمنتها التقليدية على مصير الاقتصاد العالمي.
وكما يعلم الناس فإن قيمة صرف الدولار مرتفعة منذ حوالي ستة شهور وتقترب تدريجيا من قيمة اليورو (المنافس الشرس للدولار) وهو ما خدم حتما سنة 2020 المرشح الديمقراطي السيد جو بايدن لأن هذا المستوى المشرف للعملة الأميركية محسوب للحزب الديمقراطي ولباراك أوباما رغم أن الظروف الدولية هي التي كانت وراء هذا الارتفاع، وأن الخزينة الفيدرالية الأميركية هي المحرك الأساسي لرفع قيمة الدولار.
هذه القيمة تاريخية لأنها تحققت أثناء 2016 في عز تورط واشنطن في حروب الشرق الأوسط بانخراط الجيوش الأميركية في أزمات سوريا والعراق وليبيا و أفغانستان، وقبل ذلك في أزمة أوكرانيا بسبب غزو روسيا للقرم مما وضع أميركا في مواجهات خطيرة وحرب عالمية ثالثة محتملة مع روسيا وربما الصين بسبب تايوان! 

كما تحقق ارتفاع الدولار أيضا بعد مرحلة الأزمات الخطيرة التي هزت الاقتصاد الأميركي في 2008 وأصابت العدوى الأميركية كل هياكل الاقتصاد العالمي من 2008 الى اليوم، وهو ما وصفته كل من الصحيفتين الاقتصاديتين الأكبر في الاتحاد الأوروبي: (ليزيكو) الفرنسية و(فايننشل تايمز) البريطانية “بالهوة التاريخية أو الرقم القياسي التاريخي”. وتلاحظ الصحيفتان أن الأخطر اليوم على الولايات المتحدة هو أن تتفاقم الأزمة بين واشنطن والرياض و بيكين بسبب التلويح السعودي و الصيني بسحب المخزون المالي المودع بالمصارف الأميركية…

إعادة النظر…

مما اضطر القوى الاقتصادية والنقدية العالمية الى إعادة النظر في حساباتها ومراجعة سياساتها أمام العملة الخضراء التي اعتبرت منذ الحرب العالمية الثانية ”قاطرة العملات” أي المنصة الوحيدة والدائمة لأسواق الصرف وحركات التجارة العالمية ومستوى مصداقية المصارف.
فهذه روسيا الاتحادية تعلن يوم الثلاثاء الماضي عن إجراءات لتدعيم مخزونها من اليورو والعملات الصينية و اليابانية (وهو يبلغ في العام الحالي 113 مليار دولار)، حيث تضاعف خلال الثمانية أشهر الماضية، بعد أن كان لا يتجاوز 56 مليار)، ويتدعم مخزون روسيا من الدولار كذلك باستمرار ليوازي المخزون الأميركي!
أما المصارف الأوروبية المجتمعة الأسبوع الماضي في البنك المركزي الأوروبي بفرانكفورت فإنها أعلنت أنها ستعمل على تجميد أرصدتها من الدولار وتعويضها تدريجيا بعملات أخرى مثل الين الياباني واليوهان الصيني بتعلة ضمان التوازنات المالية العالمية.
وقد تأكدت هذه التحولات النقدية الدولية بصدور تقرير المعهد الأوروبي للنشاطات المصرفية الذي يشير بوضوح إلى عمليات التحول عن الدولار التي تقوم بها المصارف الأوروبية، وتقول السيدة/ لينا مورتنجن خبيرة الشؤون المالية والتي شاركت في تحرير التقرير بأن هذه الإجراءات سوف تستفيد منها كل العملات الأخرى وليس اليورو وحده.
وفي هذا المناخ الصعب والمضطرب شرع الرئيس الأميركي في الإعلان عن حزمة من الالتزامات والتعهدات التي فرضتها الحملة الانتخابية والتي تتعلق بالتصدي لسقوط الدولار فالمعطيات الدولية تغيرت بشكل كامل، ولم يعد الصراع إيديولوجيا كما قال / فوكوياما في كتابه:” نهاية التاريخ” و لا بين الحضارات كما تكهن صمويل هنتنغتون لكنه أصبح اقتصاديا، وهو تحول كبير لافت في العلاقات الدولية يجب علينا نحن العرب أن نقرأه ونتتبع مضاعفاته حتى لا نفاجأ بالتغييرات تهاجمنا ونحن في سنة من النوم.

الحرب اقتصادية…

الإجراءات الحمائية التي اتخذها الاتحاد الأوروبي وروسيا وبشكل آخر اليابان تدل على بداية حرب اقتصادية، والذي يدور هذه الأيام في أوكرانيا هو جزء من الحرب الاقتصادية الساخنة بسبب الصراع حول الطاقة والمعادن والموقع الجغرافي المتميز لهذه البقاع من العالم.
ثم انظر أيها القارئ الكريم إلى الصراع المفتوح بين شركتي إيرباص وبوينغ وبين اليورو والدولار وبين شركات بيع الأسلحة فهو صراع يصل إلى حد الحرب الخفية، والتي تستخدم فيها كل الوسائل ستكتشف بأن العلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي ليست باللون الوردي الذي يقدم لنا بل إن مزيد اكتساب مناطق النفوذ السياسي وغزو الأسواق وتأمين الهيمنة التجارية هما أولوية المشاغل والمخططات لدى الجميع!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى