عيسى البكوش يكتب: مائة عام على رحيل المصلح سالم بوحاجب (1827-1924)

كتب: عيسى البكوش
في مثل هذه السنة من القرن الماضي ارتحل عنّا المصلح الاجتماعي والثقافي والسياسي سالم بوحاجب المولود بـ بنبلة بالساحل التونسي عام 1827.
يقول عنه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في كتابه (أركان النهضة الأدبية في تونس): “كان شعلة من الذكاء الباهر والفطنة النادرة طلعت بين قرنين من تاريخ البلاد التونسية فأضاءت مناهج الأدب ونوّرت ربوع العلم وغمرت نوادي الظرف”.
مسيرة بوحاجب
درس بالجامع الأعظم بالخصوص على العلامة إبراهيم الرياحي، ويذكر الصادق الزمرلي أنّه كان يتجاسر على ملاحقة أساتذته في بيوتهم طالبا إليهم إمداده بتفسير أو بنصّ لإثارة مسألة.
كما أنه كان يقصد الشيخ محمد بيرم الرابع الذي فتح أمامه مكتبته إلى أن حفظ قاموس الفيروزآبادي كما كان – مثلما يذكر فتحي القاسمي في محاضرة له ألقاها على منبر منتدى الفكر التونسي بأريانة عام 2007- على اتصال وطيد بملهمه محمود قابادو المشرف على المدرسة الحربية بباردو ومن ثمّة تعرّف على المصلح خير الدين فصار من أقرب أنصاره.
انتصب مدرّسا
درّس في الجامع الأعظم وهو في سنّ العشرين وانتصب فيها مدرّسا إلى سنة 1914 أي مدّة خمسة وستين عاما تتلّمذ عليه المشايخ محمد الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي وعبد العزيز الثعالبي ومحمد مناشو وآخرون.
وإلى جانب التدريس كان كثير التردّد على المنابر الفكرية والأدبية وحريصا على التعرّف على كلّ الوافدين إلى تونس من أدباء ومفكرين من أمثال اللبناني أحمد فارس الشدياق والعلماء من أمثال مفتي مصر محمد عبده ومن شهيرات النساء مثل الأميرة نازلي ابنة حفيد الملك محمد علي.
قصة مع الأميرة نازلي
وللشيخ سالم مع الأميرة قصّة رواها الأديب أبو القاسم محمد كرّو في كتاب خصّصه للغرض، فلقد تعرّف عليها في صالونها بقصر البكوش بأريانة حيث حلت بين ظهرانينا سنة 1899 ولعلها تعلقت بشيخنا إلا أنّه أبى واستعصم فتزوّجت ابنه خليل (1863-1940) الذي يصغرها بـ20 عاما.
ولقد تولى هذا الأخير مناصب عليا في الدولة كوزير أكبر من سنة 1926 إلى سنة 1932. وقد توفيت الأميرة سنة 1913 ودفنت في أرض الكنانة بعد أن تركت في أرضنا عديد البصمات ولعلّ أبرزها جمعية الخلدونيّة التي ساهمت بقسط وافر في تدعيمها، وما صورتها الكبرى التي تتوسّط المؤسّسين في فضاء المكتبة إلا دليل قويّ على مكانة هاته المرأة التي يجوز القول فيها ما قاله أبو الطيب:
لو كانت النساء مثل التي فقدنا لفضّلت النساء على الرّجال
وللشيخ سالم ابن ثان هو حسين (1872-1939) وهو ثاني طبيب تونسي متخرّج من فرنسا بعد الطبيب الأوّل الدكتور البشير الدنڤزلي، ولقد نشط هو بدوره في الحياة الاجتماعية والثقافية إذ أنّه من مؤسّسي عدد من الجمعيات وبالخصوص “الناصرية”.
جمعية الخلدونيّة
وهكذا مشى الاثنان على خطى والدهما الذي له السبق في إلقاء المحاضرة الافتتاحية لجمعية الخلدونيّة عام 1896 تحت عنوان ” الإصلاح وطريق النهضة”.
يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عنها ” أنّها كانت درسا علميّا تلقاها محبّو الإصلاح بترحاب وكانت بمثابة الشرارة التي أعادت الأمل إلى النفوس”.
ويقول فتحي القاسمي في هذا الصدد: ” إنّ الإسلام في نظر الشيخ سالم بوحاجب نصير التطوّر وهو يحثّ على تجديد النظر وإعمال العقل لاستنباط الحلول لتداعيات العصر وإكراهاته”.
علاقة مع الجنرال حسين
من جهة أخرى فلقد ربط شيخنا علاقة وطيدة بمملوك آخر نظير خير الدين وهو الجنرال حسين أوّل رئيس لبلديّة الحاضرة سنة 1858، ولقد اصطفاه هذا الأخير وقرّبه حتى أنّه طلب منه مرافقته إلى إيطاليا لمتابعة قضيّة شمامة الذي فرّ إليها ومعه مبالغ ضخمة اختلسها من الخزينة العامة، ولقد دام مقام الشيخ بمدينة فلورنسا قرابة السبع سنوات.
ثمّ إنّه اكتوى بنار الصحافة فكان من ضمن المحرّرين الأوائل في جريدة الحاضرة التي صدرت عام 1888.
لقد تولى الإمامة بجامع سبحان الله بباب سويقة وقد جمع بنفسه خطبه وتمّ طبعها في قائم حياته سنة 1913.
ومن مؤلفاته أيضا إلى جانب ديوان شعر، شرح ألفية ابن عاصم و تقريرات على شرح صحيح البخاري وتقارير على شرح الأشموني للخلاصة لابن مالك.
توفي رحمه الله بمدينة المرسى ودفن بمقبرة الجلاز يوم 11 جويلية 1925.
كلمات من ذهب
من أقواله المأثورة ما جاء في محاضرته على منبر الخلدونية يوم 15 ماي 1897:
” على منوال المسلمين في صدر الإسلام نسج الأوروبيون أمور دنياهم فتقدّموا التقدّم المشاهد وتأخرنا من سوء البخت ولا نرى سببا لذلك إلا اعتقاد كثير منّا أنّ التقدّم في العلوم الدنيوية ينشأ عن التأخر في الدين والحال أنّ الواقع بالعكس فإنّ الدين تقهقر عندما تأخر المسلمون في تلك العلوم”، مستشهدا بحديث الرسول ” الحكمة ضالّة المؤمن فحيثما وجدها فهو أحقّ بها” رواه الترمذي.