صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ د. ياسين بن اسماعيل يناقش: إفلاس الدولة، الحاجة إلى الاقتراض والحل الداخلي الممكن

كتب: نوفل سلامة  

مرة أخرى تعود مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات إلى الملف الإقتصادي .. ومرة أخرى تطرح المؤسسة سؤال الوضعية المالية التي يصفها البعض بالحرجة وسؤال الحالة الاقتصادية المتعثرة إن لم نقل المتوقفة… ومرة أخرى تحاول المؤسسة مناقشة الرهانات والتحديات والاكراهات المالية والاقتصادية التي تعيش على وقعها البلاد منذ الثورة، وزادت حدتها بعد منعرج 25 جويلية ومجيء الرئيس قيس سعيد إلى السلطة…

السيادة الوطنية

في علاقة بتغير الخطاب السياسي في التعاطي مع كل أزمات البلاد وهو خطاب جديد يركز على مسألة استقلال القرار السياسي وعلى فكرة السيادة الوطنية وفك الارتباط مع كل ارتهان للأجنبي ومراجعة العلاقة مع صندوق النقد الدولي وشروطه المكبلة، وكل الجهات الأجنبية المانحة التي اتضح أن سياساتها لا تخدم المصلحة الوطنية…

وفي علاقة بالتخلي عن المقاربة المتداولة والتي تحاول أن تقنع بأن الذهاب إلى مثل هذه المؤسسات هو قدرنا في هذه المرحلة، وهي حتمية لا مفر منها وفي علاقة بالحلول الممكنة للخروج من الأزمة المالية الخانقة التي ألقت بظلالها الكثيفة على كامل المشهد بالبلاد ما جعل الانطباع يسود بأن البلاد قد دخلت مرحلة الإفلاس أو وضعية الإفلاس غير المعلن..

والعودة هذه المرة كانت مع الدكتور ياسين اسماعيل الأستاذ الجامعي والباحث في العلوم الاقتصادية والخبير الدولي في الاقتصاد والمالية والذي سبق له أن عمل ضمن فريق البنك المركزي، وذلك في لقاء فكري معه احتضنه مقر المؤسسة يوم السبت 15 أفريل 2023.

مخاض دولي كبير

سياق هذه الندوة الفكرية والمحاور التي اختار أن يناقشها الدكتور بن إسماعيل هو سياق عالمي تعيشه معظم دول العالم ومخاض دولي يشكل هواجس راهنية تعيشها النخب الفكرية ولا تختص به بلادنا لوحدها وهي قضايا حارقة تفرض نفسها بقوة على كل الانتليجنسيا العالمية والمحلية في التفكير في حلول ومخارج لكل المشاكل والأزمات المتواصلة التي ترهق اقتصاديات العالم، ومنها الاقتصاد التونسي الذي يعيش اسوأ وضع له في تاريخ البلاد المعاصر وسياق النظام العالمي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ومنظومته الاقتصادية المتحكمة والتي تفرض قواعدها وتلزم الدول بالتقيد بها وهو نظام يعرف اليوم انتقادات كبيرة و مقاومة جدية من الشعوب و من “مجموعة البريكسيت ” بقيادة الصين وروسيا وكل القوى الصاعدة في العالم، ومحاولة للخروج من هيمنته نحو بناء نظام عالمي جديد يكون أكثر عدلا وتوازنا في توزيع الثروة والاستفادة منها وأكثر سيادة للدول في تقرير مصيرها و خياراتها بمفردها.

أين المشكل بالضبط؟

ينطلق الدكتور ياسين بن إسماعيل في هذه الندوة الفكرية من جملة من المقدمات يعتبرها هي الرافعات الحقيقية لعملية الإصلاح الضرورية المنشود يطرحها في شكل أسئلة ليتولى فيما بعد الإجابة عليها، أول هذه الأسئلة تقول هل أن المشكل الاقتصادي والمالي الذي تعيشه البلاد مرتبط بالخيار السياسي بمعنى هل أن الصعوبات المالية والأزمة الاقتصادية التي نعيشها مرتبطة بنوعية النظام السياسي واختيار نوعية نظام الحكم؟
وبأكثر وضوح هل أن تغيير نظام الحكم من نظام برلماني إلى رئاسي يمثل الحل الأنسب للخروج من الورطة المالية والأزمة الاقتصادية؟ أم أن أصل المشكل يعود إلى منوال التنمية وطبيعة الخيارات التنموية؟ بمعنى هل أن منوال التنمية وليس طبيعة النظام السياسي هو مشكل التعثر المالي والاقتصادي؟
المقدمة الأخرى هي هل أن تمويل الاقتصاد هي مسألة داخلية وشأن وهم وطني أم أن الأمر موكول إلى الخارج وإلى التمويل الأجنبي؟ بما يعني هل أن مهمة توفير الاعتمادات المالية لتسيير الاقتصاد وتلبية حاجيات الدولة من السيولة اللازمة للإيفاء بالتزاماتها موكول إلى الاقتراض والتداين الخارجي؟

مغالطات كبرى

يعتبر الدكتور بن إسماعيل أن هناك اليوم خطاب يتم تسويقه إعلاميا يقدمه جانب من النخبة الاقتصادية التي تتصدر تحليل الوضع المالي والاقتصادي في البلاد يقوم على جملة من المغالطات الكبرى منها أن البلاد على حافة الإفلاس وأن مشكل البلاد في ماليتها العمومية، وأن النظام السياسي وراء الأزمة وأن الاقتراض قدرنا وأن التوقيع مع صندوق الدولي للحصول على قرض قيمته 1.9 مليار دينار مسألة متأكدة ولا مفر منها وأن هذا القرض هو الحل للخروج من حالة الإحراج المالي ومن أجل حلحلة الوضع الاقتصادي المأزوم…
 ومن المغالطات الأخرى القول بأن القرض المنتظر الحصول عليه من صندوق النقد الدولي قيمته وأهميته ليس في مبلغه وإنما فيما يترتب عليه من عودة ثقة المانحين الدوليين ومختلف الدول في التعامل مع الدولة التونسية وفي تحسين ترقيمنا السيادي الذي يعرف منذ فترة تراجعا خطيرا..

كل هذه المعطيات التي نسمعها اليوم في تحاليل بعض الخبراء الاقتصاديين هي مغالطات ومعطيات غير صحيحة ومجانبة للحقيقة تحتاج إلى تصويب من ذلك القول بأن البلاد في وضع الإفلاس والأصل أن هذا الحكم مؤسس على معاينة لنفقات الدولة وأعبائها من خلال ميزانيتها التي تشكو عجزا في تعبئة مواردها والحال أن الحكم على إفلاس أي دولة يحتاج إلى معرفة أصولها وممتلكاتها وقدرتها الذاتية وهذه مسألة لا يتم التطرق إليها.
ومنها وضعية البلاد الاقتصادية والمالية وهي وضعية معقدة ومركبة وفريدة من نوعها وهي نتاج تطبيق سياسات وخيارات فاسدة طيلة العشرية الماضية ونتيجة سن تشريعات وقوانين تم إقرارها في ظل الحكومات المتعاقبة قبل حراك 25 جويلية 2021 تحمي الفساد وترعى الأنشطة من خارج الاقتصاد الرسمي وتمدد وتوسع من مجال الاقتصاد غير الرسمي ونطاق المعاملات الموازية والتجارة التحتية والتعامل بالأوراق المالية خارج المسالك القانونية…

أزمة هيكلية

 وفي هذا المستوى علينا أن نميز بين صورة الأزمة الظرفية والأزمة الدائمة الهيكلية وتأسيسا على ذلك فإن وضعية البلاد في علاقة بالحالة المالية والاقتصادية هي من النوع الثاني ذلك أن كل المؤشرات تؤكد على أن الدولة التونسية تعيش في راهنتيها أزمة هيكلية مركبة و معقدة وليست ظرفية، ذلك أن الوضع الطبيعي والعادي لكل اقتصاد مستقر ومتماسك أن تكون نسب النمو والبطالة والتضخم والميزان التجاري فيه معقولة بمعنى أن لا تتجاوز نسبة البطالة مثلا حدود 14 % في حين أن نسبة البطالة حسب المعطيات الرسمية هي في حدود 25 % وأن نسبة العجز في الميزان التجاري بين ما نورد وما نصدر من بضائع يجب أن لا تتجاوز حدود 5 بالمائة والحال أن العجز في ميزاننا التجاري قد بلغ نسبة 18 بالمائة وأن نسبة النمو يجب أن تتخطى عتبة 1 بالمائة لتصل إلى حدود 6 إلى 9 % و في أفضل الحالات 10 % كما هو الشأن في أغلب الاقتصاديات الظرفية المستقرة التي تخضع لمصفوفة المربع السحري لكالدور، في حين أن تقديرات صندوق النقد الدولي قد حددت لتونس نسبة نمو في حدود 1.3 بالمائة  لسنة 2023 وفي أقصى الحالات 1.9   لسنة 2024  بينما كانت هذه النسبة في حدود 2.5 بالمائة في سنة 2022 وهي نسب ضعيفة يمكن مقارنتها بنسبة سنة 2010 وطيلة فترة 12 سنة بعد الثورة إلا بزيادة 1 % بحيث لا تساعد على خلق مواطن شغل وتحسين الحالة الاقتصادية والوضع الاجتماعي للشعب.

وضع غير عادي

فكل هذه المؤشرات العلمية تفيد أن الوضع الاقتصادي للدولة هو وضع غير عادي وغير ظرفي وهي حالة معقدة بدرجة كبيرة من التعقيد تتداخل فيها عدة معطيات منها ما هو نتاج خيارات العشرية الماضية ومنها ما يعود إلى الفاعلين المتحكمين في المجال المالي والتجاري والاقتصادي والفاعليين السياسيين الذين باتوا اليوم يشكلون لوبيات وشبكات متضامنة وجهات مؤثرة بقوة في كل شيء حتى في السياسة، والسؤال المطروح علينا أمام هذه الصورة الخطيرة لوضعنا الاقتصادي ولصورة أزمتنا المالية في معرفة طبيعة الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمة المركبة هل يكون من خلال اللجوء إلى الخارج والمزيد من الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية؟
أم أن المخرج يمكن أن يكون وطنيا ومحليا ومن خلال مراجعة هذا التمشي وهذا النهج الذي يراهن على الخارج وفي البحث عن مقاربات أخرى والذهاب نحو حلول بديلة تعوّل على الذات وعلى فك الارتباط مع السياسات المكبلة والخيارات التي ترتهن القرار السيادي عند هؤلاء المانحين تماهيا مع النهج العالمي الجديد الذي يرغب أصحابه في التخلص من هيمنة منظومة العولمة المتحكمة ومؤسساتها النافذة؟

معضلة البنك المركزي

يقدم الدكتور ياسين بن اسماعيل عرضا فكريا يستحق أن ننصت إليه للخروج من حالة الأزمة ومن حالة العجز المتواصل يقوم على جملة من المقترحات منها ضرورة مراجعة القانون الأساسي عدد 35 لسنة 2016 والذي من وراء وهم خيار استقلالية البنك المركزي قد يخلع عن هذا الأخير أبرز مهامه السيادية والسلطانية وهي صفة المقرض الأخير للدولة أولا باعتبار أن سبب وجوده أنه امتداد للمالية العمومية فضلا عن بقية المهام المنوطة بعهدة البنوك المركزية بصفة عامة، هذا الخيار الذي أريد له أن يكون مستقلا عن السلطة السياسية لمنع تدخلها في سياساته وقراراته قد حال دون تقديم المساعدة المالية للدولة في فترة الأزمات المالية التي تمر بها وحال دون إسناد خزينة الدولة بالسيولة اللازمة لتخطى صعوباتها بعد أن فقد هذا الهيكل الحساس، والذي من المفترض أن يكون تابعا للدولة وفي خدمتها ويعمل على ضمان استقرار عملتها وحمايتها من كل المخاطر ويعمل على استقرار الأسعار في السوق ويتدخل لتعديل ما يحصل من تضخم حماية للمقدرة الشرائية للمواطن ولتحديد مستوى الفائدة المديرية لكيفية رسكلة الإدخار الوطني وتوجيهه نحو تمويل الاستثمار الإضافي للقطاع الخاص، حيث يمثل خلع صفة المقرض الأخير للدولة انحرافا بالقطاع المصرفي برمته نحو مزيد التغول في اطلاق العنان لاقتصاد الريع ومزيد استغلال مقدرات دافعي الضرائب، إذ تمثل هذه الإشكالية أبرز أسباب تعميق الأزمة فبدل أن تكون الاستقلالية حلا تحولت إلى مشكل وأصبح البنك المركزي هيكلا مرتبطا بمؤسسات خارجية ويأتمر بقراراتها التي نجد الكثير منها لا تخدم المصلحة الوطنية ولا تساعد على تحقيق الحماية المطلوبة التي عادة ما تلعبها البنوك المركزية في العالم.

لقد أسيئ فهم فكرة الاستقلالية وتم توظيفها بطريقة سيئة أضرت كثيرا بالوضع المالي للدولة وتحول هذا القرار الخطير الذي اتخذته الحكومة في بداية الثورة إلى جريمة ارتكبت في حق الدولة وحق الشعب وحق الثورة.

العرض الآخر الذي يقترحه المحاضر مخرجا للأزمة وخاصة بالتركيز على معطى المستوى المشط الذي بلغه قائم المديونية طيلة فترة العشرية الماضية والذي بات في مستوى حجم الناتج المحلي الإجمالي، يتمثل أساسا في مواصلة الضغط على صندوق النقد الدولي حتى يتخلى على سياسة الإملاءات والشروط التي يتبعها لتقديم مساعدته المالية والمواصلة في الخطاب السياسي الذي يركز على مسألة استقلال القرار الوطني ورفض أي تدخل أو أي ارتهان للأجنبي بدعوى المساعدة والتهديد بفك الارتباط مع المؤسسات المالية المانحة. فالذهاب إلى البنك الدولي والصندوق أبرز أضرع بروتن وودس، ليس قدرا محتوما وهو ليس فرضا وإلزاما واليوم فإن رياح العصر تتجه نحو مراجعة هذه السياسات التي تنتهجها المؤسسات المالية المانحة التي من وراء مساعدتها للدول تتدخل في خياراتها وتفرض اصلاحاتها ورؤاها وهي كلها سياسات ترتب لاستعمار جديد وتشرع لبقاء الاستعمار القديم ومواصلة تحكمه بطرق وأساليب جديدة.

الحل الداخلي ممكن

يعتبر الدكتور بن اسماعيل أن الحالة التونسية هي حالة معقدة ومركبة وخاصة وهي نتاج بيئتها ونتاج أخطاء أبنائها و حلها لن يكون من خلال اللجوء إلى الخارج وإنما الحل يكمن بالأساس في المعالجة الداخلية والحلول الوطنية وفي هذا المستوى فإن الحلول الداخلية ممكنة فقط ما هو مطلوب من رئيس الدولة ومن أعلى هرم في السلطة أن يصغي جيدا للنخبة المتخصصة ويستمع للخبراء الحقيقيين الذين لا نراهم يظهرون في وسائل الإعلام .. فما هو مطلوب اليوم من القيادة العليا للدولة أن تستعين بأهل الخبرة في مجال المال والاقتصاد للوصول إلى مخرج وهو ممكن اليوم.
وينهى الدكتور ياسين بن اسماعيل هذه الندوة الفكرية التي أتينا على جوانب منها وتبقى جوانب أخرى تحتاج إلى تغطية أخرى بالقول إن المشكل في الاقتراض الأجنبي ليس في الذهاب إلى صندوق النقد الدولي أو عدم الذهاب إليه و إنما المشكل الحقيقي في تحديد صورة هذا الذهاب وطريقة التعامل مع هذا الهيكل وأسلوب التفاوض معه لذلك فإن المعروض على هذه المؤسسة المالية العالمية إن أرادت أن تقرض تونس القرض المرتقب أن تكون مساعدتها دون شروط ولا املاءات مسبقة وأن يكون القرض 1.9 مليار دينار صبرة واحدة وتحصل عليه الدولة التونسية دفعة واحدة ولا على أقساط متقطعة وأن يكون القرض بفائض ضئيل ومع مدة امهال تصل إلى حدود خمس سنوات هذا وبصفة أوضح أن يكون بشروط الوديعة، هكذا يجب أن يكون العرض التونسي من قبل من يشرفون على الحقائب الوزارية الاقتصادية والمالية والنقدية، الذي على صندوق النقد الدولي أن يقبل به إن كان فعلا وفيا للثورة التونسية كما يقول ويعمل على مساعدة انتقالها الديمقراطي.
كانت هذه رؤى قدمها الدكتور ياسين بن إسماعيل في ندوة مؤسسة التميمي مخرجا لأزمة الاقتصاد التونسي وماليته العمومية تحتاج تفاعلا فكريا و نقاشا هادئا.      

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى