صالون الصريح

هادي دانيال يكتب: كي نتفاءل بِعَوْدَة العرَب إلى عاصمة العروبة ورمزها

كتب: هادي دانيال  

لا يتجرّأ على اتهام دمشق في عروبتها إلّا الجاهل والأمّعة فهي عاصمة أوّل دولة عربية ذات مؤسسة وعملة نقديّة وهي في التاريخ المعاصر قلب العروبة النابض قولاً وفعْلاً، وَمَن يُعاديها فرداً أو جماعةً يتنصّل تلقائيّاً من عروبته.

طعنة في الظهر

وبالتالي فكما نعدّ القطيعة مع دمشق طعنة في ظهر العروبة فإنّ التطبيع مع دمشق هو عودة الابن الضالّ إلى العروبة في تجلّيها التاريخيّ والرمزيّ والواقعيّ، فدمشق هي التي خلعت على شمال أفريقيا اسم المغرب العربي وعلى الخليج الفارسيّ اسم الخليج العربي، والمروق السياسيّ في دزّينة السنوات الأخيرة على عاصمة العروبة يجرّد  جامعة الدوَل العربيّة مِن صفتها القوميّة كما جرّدت مؤامرة “الربيع الصهيو أمريكي”  مكوّناتها الرسميّة من صفة الدُّوَل الوطنيّة بِجَعْلِ بعض هذه المكوّنات أدوات منفّذة للمؤامرة وبعضها الآخر أهدافا وضحايا وبالتالي لم تعُد “جامعةً” بل مُفَرِّقة.

تدمير الدول الوطنية

وواقع الحال أنّ دمشق كانت ولا تزال وستبقى عاصمة الدولة المركزية في هذه المنطقة المسماة “الوطن العربي”، لأنّ انهيار هذه الدولة يعني غياب هذه المنطقة بأسرها عن الجغرافيا السياسية الدولية، وتحقيق الهدف الاستراتيجي لمؤامرة “الربيع العربي” الذي هو تدمير الدول الوطنية المكوّنة لـ ‘جامعة الدول العربية’ وإعادة تقسيمها إلى دويلات فاشلة على أسس عرقية وطائفيّة دينية تدور جميعها في فلك “دولة إسرائيل اليهودية الكبرى” وفي السياق تصفية الحقّ الفلسطيني وتحويله إلى سراب.
هذا الهدف الذي لا يزال نصب عيون مهندسيّ مؤامرة “الربيع العربي” الذين يحاولون تعويض اندحارهم أمام صخرة الصمود السوري بتنفيذ سيناريو “الفوضى الخلّاقة” في السودان بَعْدَ أن يئسوا مؤقتا من إمكان تنفيذ هذا السيناريو الشيطاني في الجزائر.

صمود الدولة في سوريا..ولكن..

لكنّ صمود الدولة السورية كلّفَ شَعْبنا عشرات آلاف الشهداء وتدمير البنى التحتية للدولة في عدة محافظات وخروج بعضها عن سيطرة الدولة، لتئنّ الجغرافية السورية تحت وطأة احتلالين جديدين أمريكي وتركي علاوة عن الاحتلال الإسرائيلي، وهجرة مئات الآلاف من المواطنين السوريين هجرات مأساوية غير شرعية إلى مختلف أصقاع الأرض بحثا عن لقمة العيش التي بات الحصول عليها الشغل الشاغل حتى للذين اختاروا البقاء والمصابرة على انهيار القدرة الشرائية لليرة السورية وتسونامي البطالة ناهيك عن تحوّل البلاد إلى ساحة صراع وأطماع للقوى الإقليمية خاصة.

لا يغيب عن إدراكنا أنّ عودة بعض الدول العربية إلى دمشق لها علاقة بتغيّر المشهد السياسي العالمي لصالح تعدديّة قطبيّة تضع حدّاً لسياسة الهيمنة والغطرسة الأمريكيّة عبر العالم، ولكن لا يغيب عن إدراكنا في المقابل أنّ الطرف الغربي الصهيوني لن يستسلم للمعطيات الجديدة في السياسة الدولية بسهولة، بل سيزداد شراسة ودموية قبل أن يخضع لها، وخاصة في ساحة الصراع السورية.

وهذا يعني أنّ عودة العرب إلى سورية لن تفتح كوّة أمل عند المواطن السوري إذا لم تترجَم إلى إسناد ناجع اقتصادي وسياسي يُمكّن الدولة السورية من بسط سيادتها على كامل التراب الوطني السوري من أطراف درعا الجنوبية إلى تل أبيض في شمال البلاد، ويعيد إلى الليرة السورية قوّتها الشرائية السابقة وإلى الاقتصاد السوري وسائل الإنتاج الزراعية والصناعية ويتمتع المواطن السوري في أرجاء البلاد كافة بالمرافق الحيوية من ماء وكهرباء وطاقة وتتحول سورية إلى ورشة عمل هائلة تعيد إعمارها باستثمارات عربية تجعل وفرة فرَص العمل وازعا ملموسا لعودة المهاجرين السوريين إلى بلادهم ليساهموا في إعادة إعمارها وفي الوقت نفسه إعادة بناء الشخصية السورية التي ألحق العرب بها أذى فادحا. أمّا الاكتفاء بالإعانات وتوزيعها المُذِلّ لِغَسْلِ اليد الخليجية خاصة من الدم السوري فلن يعني لنا ولكلّ مراقب موضوعي إلّا أنّ المجرم عاد إلى مكان جريمته، ليتشفّى بضحيّته لا ليُكَفِّرَ عن جريمته.

هزيمة الربيع العربي

وأخيراً، وليس آخراً، إنّ هزيمة مؤامرة “الربيع العربي” تكون بمنعها من تحقيق أهدافها الصهيو أمريكية، التي نلخصها بتدمير الدولة الوطنية. وبالتالي فإنّ المطلوب من الحكومة السورية لإعادة بناء الدولة الوطنية أوّلا أن تقتلع من أذهان مكوّنات شعبنا، الأغلبيّ منها والأقلّيّ، جذورَ النزعات الانفصالية العرْقيّة والطائفيّة، وهذا لا يكون إلّا باعتماد خطاب علماني يؤسِّس بترجمته على أرض الواقع لقيام دولة مدنية تقوم على فكرة المواطَنة الجامِعة، لا على أفكار قد تمسّ الانتماءَ الوطني، فيواصل الغرب والصهيونية عزفهما على أوتار هذه الأفكار الانفصالية والتقسيمية، علماً أنّ انقسامَ المجتمع قبائليا وعشائريا وطائفيا وعرْقيا يُفقِدُه مناعته أمام عدوى اللبننة والعرْقَنة تمهيداً لتقسيم الجغرافيا السياسيّة.        

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى