صالون الصريح

أحمد القديدي يكتب: في الذكرى 23 لوفاة الزعيم بورقيبة… انسان لا ملاك ولا شيطان!

كتب: د.أحمد القديدي

في ذكرى وفاة زعيم تونس 6 أفريل 2000 (2023) يحتدم الجدل حول الرجل بين طرفين متطرفين الأول يؤله الزعيم والثاني يشيّطنه والحقيقة أن الرجل إنسان لا ملاك ولا شيطان…

نشرت مجلة (ليدرز) وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة تتمثل في رسالة شكوى وتظلم كتبها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى وكيل الجمهورية سنة 1990 وهو في معتقله الأخير بمدينة المنستير حيث فرض عليه الرئيس السابق زين العابدين بن علي بعد أن عزله من السلطة إقامة جبرية قسرية حوّلت ذلك الأسد المريض إلى سجين وراء قضبان مهينة لا يزوره إلا من يختارهم زبانيته بحذر وخوف والمزيد من الإذلال والتشفي…

ولكن الذي لفت نظري بعد نشر الوثيقة ذلك السيل من التعليقات بأقلام رجال من جيلنا الذي عمل مع بورقيبة و منهم المتحسر المنافق عما كابده الزعيم بينما هو خلال 13 سنة من محنة بورقيبة لم يحرك ساكنا ولم يقل كلمة حق و لم يصدع برأي وتلك كانت حال الأغلبية من وزرائه السابقين الذين لم ينبسوا ببنت شفة (ما عدا قلة شجاعة ويتيمة ) فبن علي كان لا يرحم من يقول كلمة حق، وكان يغري بالمناصب أو بمجرد السلامة كل من عمل مع الزعيم فانتبذ أغلبهم مكانا قصيا (مع الفارق العظيم بين معنى الأية الكريمة و واقع الخذلان)…

مسرحية سخيفة

واستمرت مأساة بورقيبة 13 عاما ختمتها مهزلة جنازته التي أخرجها بن علي مثل مسرحية سخيفة خوفا من جثمان الزعيم بعد الخوف من الزعيم حيّا…
شرع البعض هذه الأيام يمجدون بورقيبة بمناسبة ذكرى وفاته فتباروا في تعداد خصال الزعيم لا من منطلق الحقيقة التاريخية بل من منطلق الإنتقام من عهد خلفه زين العابدين ومن عهد خلفاء بن علي من حكومة الترويكا وما بعدها. فوظفوا هذه المناسبات بطريقة عقائدية وحزبية لا تليق بتاريخ تونس الذي يجب أن يبقى من مشمولات أنظار المؤرخين لا في أيدي السياسيين..وانقسم المتكلمون إلى مؤله للزعيم بكونه كان ملاكا معصوما وإلى شاتم له بكونه كان شيطانا رجيما!

أوهام السلطة

وقرأت العجب العجاب في قلب الحقائق وتدليس التاريخ وأغرب ما قرأت هو أن الزعيم ليلة 7 نوفمبر 87 ليلة إنقلاب وزيره الأول عليه كان في تمام مداركه العقلية وكان متمتعا بكل طاقاته العقلية وهذا مجرد هراء لا يستقيم لأن الخطأ القاتل لبورقيبة هو تشبثه بأوهام السلطة وهو في أرذل العمر ثم المراهنة على أحد الضباط المهووسين بالسلطة زين العابدين بن علي الذي كلفه الزعيم بمهمة القضاء على من يعتبرهم أعداء نظامه…

أيام مع بورقيبة

وأنا بفضل علاقاتي الوثيقة مع رجلين عاشا في قلب المرحلة القاسية و التراجيدية من حياة بورقيبة وهما رئيس حكومته محمد مزالي و سكرتيره الخاص محمود بلحسين أعرف أسرار وخفايا تلك المرحلة المبكية المضحكة من “غرق” بورقيبة في لجة العمر و “غرق” تونس في لجة الإستبداد..
 وهي أسرار أحتفظ بها اليوم لنفسي حتى تهدأ عواصف الأحقاد والمزايدات وأنشرها على جيل المؤرخين النزهاء لكتابة تاريخ أمين لتونس. يشهد الله أنني شخصيا بحكم منصبي في مطلع الثمانينات كنت قريبا من الزعيم أجلس كما قال لي هو عديد المرات على نفس كرسيه الذي بدأ منه الكفاح وهو كرسي مدير صحيفة العمل لسان الحزب التي أسسها هو و أدارها منذ سنة 1932 لكن علاقاتي القديمة قبل المسؤوليات مع الزعيم و حزبه لم تكن بلا مغامرات لأني كنت إلى جانب الحق في مناسبات وطنية عديدة منها قضية المظلمة المسلطة على المناضل النقابي و الدستوري أحمد بن صالح فزج بنا نظام بورقيبة أنا و الصديقين أحمد الهرقام و عامر سحنون في الإيقاف يوم 4 سبتمبر 1969 و”استنطقنا” محافظ الشرطة حسونة العوادي وحرمنا من السفر لمواصلة الدراسة حين صادرت الشرطة جوازات سفرنا ثم كنت إلى جانب الصديق محمد مزالي حين عزله بورقيبة من وزارة التربية بتهمة تعريب برامج التعليم و أسلمتها وقاومنا عقلية التغريب القهرية لتونس على أيدي المنبتين و مرة أخرى إضطهدنا البوليس السياسي و أستنطقني مفتش أمن الدولة محمد كدوس و حجزوا جواز سفري في بداية السبعينات…

الدسائس لم تهدأ

ثم شاءت أقدار تاريخية أن يعيّن الزعيم بورقيبة نفس محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فواصلنا كفاحنا الصامد من أجل التعريب و تأصيل التعليم و ضخ المزيد و (الممكن المتاح) من الديمقراطية في مؤسسات الدولة وربط بلادنا بمحيطها الحضاري العربي والإسلامي و الإفريقي بعد طول جفاء و وشح بورقيبة صدري بوسامي الاستقلال والجمهورية..
ولكن الدسائس لم تهدأ ضد تيارنا المتمسك بالهوية و تنويع التعاون مع الصين و تركيا و الخليج وأفريقيا داخل الحزب الدستوري و بتخطيط قديم من زين العابدين نفسه و الذين تجندوا لخدمته و بأيد خارجية إلى أن تم نفينا ومصادرة بيوتنا و تشتيت اولادنا وحتى إغتيال مناصرينا (تم قتل إثنين من الوطنيين الدستوريين هما الحاج بوبكر العمامي المقاوم للإستعمار الذي زجوا به معي في قضية كيدية عام 1990 وعلى السعيدي رفيق كفاحنا والمعارض لبن علي و المدير بوزارة الخارجية و الذي أغتيل في ديسمبر 2001 في ظروف مشبوهة وغريبة وهو دليل على أن ضحايا الإستبداد النوفمبري من كل التيارات و منها التيار الدستوري الأصيل في أبعاده المتمسكة بالحريات و الهوية).

لا ملاك ولا شيطان..

واليوم نرى المتاجرين بتاريخ بورقيبة إما بالتمجيد المطلق وإما بالشيطنة المطلقة بينما الحقيقة هي أن بورقيبة إنسان لا هو بالملاك ولا بالشيطان أنجز أعمالا كبيرة ولكنه إرتكب أخطاء كبيرة أيضا، ولم تكن حادثة الإطاحة به خارجة عن سياق مسيرته هو ذاته لأنه هو الذي أرسى تقاليد إضطهاد أسلافه و التنكيل بمعارضيه ومنافسيه…
أليس هو الذي ظلم الطاهر بن عمار الزعيم الوطني موقع وثيقة إستقلال تونس و أليس هو الذي سجن و سلب العائلة المالكة بعد أن ساعده أمراؤها بالمال والسلاح، و أليس هو الذي أمر بوضع المتهمين بمحاولة الإنقلاب عام 1962 مقيدين بالسلاسل من أرجلهم كالدواب سنوات طويلة في سجن غار الملح و أليس هو الذي اضطهد اليوسفيين ثم الشيوعيين ثم البعثيين ثم الإسلاميين ثم البنصالحيين ثم النقابيين ثم المزاليين و طلق رفيقة عمره بصورة تناقض تماما مواقفه من المرأة حتى أنه في آخر مرحلة من عمره انهارت الدولة و قال لي محمد مزالي صباح يوم 7 نوفمبر 1987: “الجنرال بن علي إنقلب على سعيدة ساسي و ليس على بورقيبة”…

آلة جهنمية

وقال لي أحمد بن صالح في نفس اليوم : “إن السلطة كانت ملقاة على قارعة الطريق فجاء بن علي والتقطها دون عناء” النتيجة هي أن تسلط الزعيم هو الذي صنع تلك الآلة الجهنمية (مفترسة الرجال) وزيّتها و أعدّها للاستعمال حتى أكلته نفس الآلة بدون رحمة و بلا أي نصير…
وللتاريخ فهذا لا يمنع من إعادة الإعتبار لأحد قادة تحرير تونس ومؤسس دولتها الحديثة ومعمّم التعليم والصحة والرجل النظيف الذي لم يملك حجرة ولا شجرة. أروع وأبلغ ما نفهم به تناقضات الإنسان نجده في الآية الكريمة: ‘ونفس وما سواها فألهمها فجورها و تقواها’… صدق الله العظيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى