صالون الصريح

هادي دانيال يكتب: الغَرْبُ عندما يُوَظِّفُ المقدَّس في خدمة المُدَنَّس

HEDI DANIEL
كتب: هادي دانيال

للغربِ إرْثٌ ضخمٌ وعريق في توظيف “المقدّس” لخدمة “المدنّس”، وإلى هذا الإرث اتكأت المخابرات الأمريكية عندما استثمرت مفهوم “الجهاد” في الكتب الصفراء التي حبّرها متطرفون كـ ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب وصولا إلى مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير لتجنيد جماعات “المجاهدين” الإسلاميين في حرب أمريكية ضد النظام الاشتراكي في “كابول” والوجود السوفياتي (الكافر) في أفغانستان…

والذين كان إعلام الغرب يسميهم “مقاتلين من أجل الحرية” إلى أن سقطت حكومة الحزب الديمقراطي الشعبي لأفغانستان المدعومة من الجيش السوفياتي وسقطت “كابول” بأيدي الميليشيات الجهادية المسلحة سنة 1992 وبدأ الصراع العنيف بين هذه الميليشيات التي كل منها يمثل دولة إقليمية من الهند إلى السعودية مرورا بالباكستان وإيران، وفي 1996 سيطرت حركة طالبان وتنظيم القاعدة على كابول وأعلنتا قيام إمارة أفغانستان الإسلامية…

حروب صليبية جديدة

كانت المخابرات الأمريكية قد تمكنت من تفكيك الاتحاد السوفياتي أواخر 1991 أوائل 1992 بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية بدءاً من سنة 1989. وعلى أثر عملية 11سبتمبر 2001التي اتُّهِمَ بارتكابها تنظيمُ “القاعدة” سليل المخابرات الأمريكية نفسها، والتي لم تُنْشَر نتائج التحقيق المتعلقة بها حتى الآن مما يعزز فرضية أنها من تدبير دوائر إمبريالية ـ صهيونية، بدأ منظرون غربيون السعيَ بعد انتهاء الحرب الباردة مع “المعسكر الاشتراكي” وحلف “وارسو” السابقين إلى اختلاق عدوٍّ آخر ضمن استراتيجية “الحضارة” الغربية التي تمثلها الشركات الاحتكارية الإمبرياليّة خاصة في مجال صناعة الأسلحة وتسويقها عبْر العالم، فاستغلّ الغربُ وجود تياّرات إسلامية متطرفة وأحداث سبتمبر 2001 لأجْل “تطوير” مصطلح “الإسلاموفوبيا” أو “رهاب الإسلام” وبعْث مشاعر كراهية الإسلام الصليبية مُجدّداً في المجتمعات الغربية، مُمَهِّداً بذلك لتوجيه الحلف الأطلسي إلى أفغانستان والعراق في حملة صليبية معاصرة على حدّ تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش” الذي تقمَّصَ دَوْرَ سَلَفِه “ريتشارد قلب الأسد” الملك الصليبي النموذجي، في وصْف ما أسماه الحرب على الإرهاب بعد 11سبتمبر 2001، عندما قال حرفيّاً ” هذه الحملة الصليبيّة، هذه الحرب على الإرهاب ستستغرق وقتا”.

الفوضى المسلحة

إنّ الغرب هنا يستلهم إرْثَه الصليبي، فبعد أن حاكى “الفتوحات” الإسلامية لنشر الدين الإسلامي بالغزوات المسلحة خاصة في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من أوروبا والمسماة بالحملات الصليبية البلطيقية وأرغم الفايكنغ والسلاف والمجر على اعتناق الدين المسيحي، بعد أن فرغ من ذلك نشأت طبقةُ مُحارِبين ضخمة تَحوَّلَ عناصرُها إلى السرقة وقطع الطرقات والاقتتال فيما بينهم إلى أن عمّت الفوضى المسلحة، ولِوَضْعِ حدّ لهذه الظاهرة واستيعاب فَيضِ الطاقة القتالية وتضخُّمِها تمّ توجيهها إلى ما يسمى “حروب ارتدادية”، بشعارات ورايات دينية (كانوا يخيطون على صدر و كتف كل مقاتل وعلى الرايات التي يحملونها علامة الصليب من قماش أحمر)، وكانت هذه الحروب الدينية في ظاهرها تُوجَّه إمّا لاسترداد “بيت المَقْدِس” و”كنيسة القيامة” (أقدس موقع مسيحي بالمطلق) مِن سيطرة المسلمين عليها، أو تُوجَّه إلى إسبانيا والبرتغال حيث كان البابا سنة 1063يبارك المقاتلين الذاهبين إلى الأندلس فَسُمِّيت الحرب التي سيخوضونها “الحرب المقدّسة”.

ثورات ‘الفوضى الخلاقة’

لكنّ أحفاد “لويس التاسع” في فرنسا و”فريدريك بربروسا” في ألمانيا و”ريتشارد قلب الأسد” مُلهِم مُعظَم حكّام الغرب الأوربي والأمريكي حاليا وهم يضعون سيناريوهات الهيمنة على العالم، وخاصة منها المناطق التي تعتنق غالبية شعوبها الدين الإسلامي، لا يكتفون بأن يشيعوا في مجتمعاتهم الغربية اختزالات عقائدية مخيفة وصورا نمطيّة كريهة ومتخلّفة للمسلمين أفرادا وجماعات، لتبرير تدخلاتهم في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية بذرائع من نوع أنّ الإسلام دين قديم يعرقل التنمية الاقتصادية لهذه البلدان أو يحُول دون رفاهية مجتمعاتها وبالتالي يُجيز الغرب لنفسه التحكم بمصائر الدول الإسلامية لفرْض ديمقراطيته المزعومة عن طريق “ثورات الفوضى الخلاقة” التي تفضي إلى حكومات الإسلام السياسي المعنيّة بخدمة الغرب ومصالحه وتنفيذ مخططاته، وفي الوقت نفسه ولأجْل إفراغ الإسلام من أي مضمون إنساني ولدمغه بالإرهاب يتكئ الغربُ أيضا على إرثه الصليبي وتحديدا تلك الحروب الدموية الاقصائية الاستئصالية التكفيرية كتلك الحرب الصليبية على الطائفة الكاثارية في جنوب فرنسا التي دامت عشرين عاما (1209-1220) مُتّهمةً هذه الطائفة بالهرطقة، وكتلك الحرب على الكنيسة البوسنيّة التي دامت من 1235 إلى 1241بعد اتهام هذه الكنيسة البوسنيّة بأنها تابعة للطائفة الكاثارية أيضا.

فشلت المؤامرة

مُستلهمة هذه الحروب داخل الديانة المسيحية وحروب الردّة التي توازيها في التاريخ الإسلامي إلى جانب استلهام الثورات الملوّنة في أوربا الشرقية لإسقاط الأنظمة الوطنية في “الفوضى الخلاقة” المُفضية إلى تقسيم الدول الإسلامية من إسلام آباد إلى الرباط، وإقامة دويلات فاشلة على أسس عرقية أو دينية طائفية تدور جميعها في فلك “دولة إسرائيل اليهودية الكبرى”.
وعندما انكسرت مؤامرة “الربيع العربي” على صخرة صمود الجيش العربي السوري وحلفائه الأشقاء والأصدقاء الإقليميين والدوليين ، أطلقت مصانع المخابرات الأمريكية الغول الداعشي من القمقم الديني أيضا، ليرفع راية حروب “الردّة “التكفيرية المعاصرة ويمعن قتلا وسحلاً واستئصالاً وتكفيرا بالمسلمين المُتَّهَمِين سلفا مالم ينضووا تحت رايةِ “داعش” السوداء التي تقطر دما مثلها مثل رايات الصليبيين في حربهم التكفيرية ضدّ أتباع الكنيسة البوسنية وقبلهم ضد أتباع الطائفة الكاثارية في جنوب فرنسا.

جماعات إرهابية

وهذا الغرب الذي يخلق الجماعات الإرهابية ويموّلها ويدربها ويرسلها إلى بلدانٍ بعيْنِها ليكون هذا الإرهاب ذريعته للتدخُّل في شؤون هذه البلدان لأنه يعدّ نفسه “شرطيّ العالم” خارج القانون والشرعية الدولتين مثله مثل ذلك الفتوّة الصعيدي الذي يصرخ على امتداد الفيلم المصري “أنا القانون”. وهذا الغرب نفسه هو الذي يدعم التحالف الشيطاني بين العصابات النازية الأوكرانية وحكومة كييف الصهيونية وتنظيم داعش. إن تنظيم “الدولة الإسلامية” هذا بعقابيله المختبئة في ظل القواعد العسكرية الأمريكية في الأراضي السورية (التي لا تزال خارج سيطرة الدولة السورية) والعراقية والأردنية والخليجية وعلى مدى ستة أشهر من جرائم الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الأبرياء المسلمين كافة في قطاع غزة، غزّة هاشم وفي أولى القبلتين وثالث الحرمين وخليل الرحمن، لم يحرّك ساكنا، بينما يظهر في موسكو حارسة الشرعية والقانون الدوليين الأمينة ليرتكب جريمة نكراء في حق مدنيين آمنين في حفل موسيقي بقاعة كبرى في العاصمة الروسية!.
وكأنّ الغرب الذي يقف وراء القتلة الداعشيين، ويعلن صبح ومساء كلّ يوم إنّه حامي الكيان الصهيوني، يثأر من رفض موسكو تصنيف كتائب عز الدين القسام كإرهابيين، فيرسل إلى العاصمة الروسية إرهابيي “داعش” مذكّراً بأنّ حفلا موسيقيا للمستوطنين الصهاينة كان هدفا للمقاتلين الفلسطينيين يوم 7 أكتوبر الماضي؟.

غرب متوحش!

إنّ هذا الغرب يُمعِنُ في غيّه وتواطؤه المُعْلَن مع جرائم الإبادة الصهيونية في غزّة، مؤكدا أن الكيان الصهيوني مشروعه في الماضي والحاضر والمستقبل لفرض سيطرته وهيمنته على المنطقة ونهب ثرواتها بتدمير دول المنطقة وتجهيل وتيئيس شعوبها و تشريدهم داخل مدنهم وقراهم ومخيماتهم المدمرة بلا سقف يأويهم أو إبادتهم بالرصاص والحرمان من الخبز والماء والدواء والكساء، إلى أن يتركوا لهذا العدو أرضهم ويهاجروا إلى المجهول.

ويصل توحش هذا الغرب المنافق إلى أن يعتمد الذرائع الواهية في الديانة البروتستانتية وإنجيلها المزعوم فَيَصِمُ بالعداء للسامية مَن يرفض تخرّصات اليمين الصهيوني وحاخامات اليهود الذين يبررون جرائمهم ضد الفلسطينيين سكّان الأرض الأصليين في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة بنصوص مزعومة من التوراة كما هو حال الحاخام مانيس فريدمان عندما قال: إن الطريقة الوحيدة لِخوْضِ حربٍ أخلاقية هي الطريقة اليهودية “دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتلْ رجالهم ونساءهم وأطفالَهم ومواشِيهم”. وفي “التوراة” وفي “سفر صفنيا” جاء: “هذه هي كلمة الرب التي كلم فيها صفنيا: أزيل كل شيء عن وجه الأرض، أزيل البشر والبهائم، أزيل طير السماء وسمك البحر، أسقط الأشرار وأقطع الإنسان عن وجه الأرض (…) قريب يوم الرب العظيم (…) ستكون غزة مهجورة و أشقلون خرابا، ويُطرَد سكان أشدود عند الظهيرة، وتُقلَع عقرون من مكانها”.”

وكبير الإرهابيين في هذه اللحظة التاريخية “بنيامين نتنياهو” لم يبتعد عن حاخامه في خطاب تلفزيوني له يوم الأربعاء 25 أكتوبر الماضي عندما استشهد بنبوءة أشعيا الواردة في التوراة : (نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام وسينتصر النور على الظلام)، وخاطب جنود الاحتلال قائلا: “يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم كما يقول لنا كتابنا المقدس”.

الكتاب المقدّس!

هذا “الكتاب المقدّس” هو مرجعيّة المسيحية الصهيونية التي يعتنقها معظم أصحاب القرار الغربيين، أوربيين وأمريكيين، باستثناء الحكام الحكماء في إسبانيا وإيرلندا. وهو أيضا مرجعية النشيد الإسرائيلي الذي يردده أجيال الصهاينة في فلسطين المحتلة منذ ستة وسبعين عاما، وبه يستقبلون ضيوفهم الغربيين والعرب والمسلمين المُطبِّعين الذين يذعنون لطلبات الصهاينة الإسرائيليين والغربيين فيراجعُون مناهج بلدانهم بأن يحذفوا منها كلّ كلمة يُشْتَمّ منها رائحة عداء لمحتليّ بلدانهم و”مقدّساتهم” وربما قريبا يعيد هؤلاء النظر في القرآن الكريم ويحذفون منه الآيات وربما السُّوَر التي لا تروق لبنيامين نتنياهو وجو بايدن ، بينما يبصق الإسرائيليون في وجوههم هذه الكلمات الطالعة من قاع الكراهية في كل صباح وكلّ مناسبة:

“طالما تكمنُ في القلب نفْسٌ يهوديّةٌ

تتوقٌ للأمام، نحو الشرق

أملُنا لم يُصنَعْ بَعْدُ

حلمُ ألفِ عامٍ على أرضِنا

أرضِ صهيونَ وأورشليم

لِيَرْتَعِدْ مَن هُوَ عدوٌّ لنا

لِيَرْتَعِدْ كلُّ سكّانِ مِصْرَ وكَنعان

لِيَرْتَعِدْ سكّانُ بابلَ

لِيُخَيِّم على سَمائهم الذُّعْرُ والرُّعْبُ مِنّا

حينَ نغرسُ رِماحَنا في صُدورِهم

ونرى دِماءهم تُراقُ

ورُؤوسَهم مَقطوعةً

وَعِندئذٍ نكونُ شَعْبَ الله المُختار حيثُ أرادَ الله”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى