صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: مفهوم المجتمع الصامت وخيار التعويل على المجتمع المدني..

nawfel slama
كتب: نوفل سلامة

غالبا ما يُستعمل مفهوم المجتمع الصامت في السياقات التي تمر فيها المجتمعات بفترات من تاريخها تتخلى فيها عن التعبير عن الغضب الاجتماعي الذي يشعر به أفرادها تجاه بعض الظواهر الخطيرة التي تجتاح المجتمع…

وفي المناخات التي تلوذ فيها الشعوب بالصمت تجاه جملة من الأحداث التي تهدد سلامتها وأمنها، ومع ذلك تخيّر الإنسحاب وعدم التعبير عن الغضب الاجتماعي في علاقة بما يحصل من جرائم مروّعة ضد النساء وما يتعرضن له من اعتداءات وصلت إلى حد القتل وفي علاقة بارتفاع منسوب الجريمة ومنها جرائم الاعتداء على الأرواح والممتلكات…وفي علاقة بكل المظاهر السلوكية التي لا يقبل بها المجتمع.

رفض سلوكيات

فعوض أن يصرخ المجتمع ويعبر بصوت عال عن رفضه وعدم قبوله بهذه السلوكيات نجده ينحني ويصمت ولا يجرؤ على الخروج عن هذا الصمت.
ففي هذه الحالة توصف مثل هذه المجتمعات بالصامتة إما لخوف يعتريها أو لتخلي أفرادها عن مسؤولياتهم بصفتهم فاعلا ناقدا أو لقناعة أن مثل هذه المواقف هي من مشمولات الدولة وأجهزتها الأمنية لذلك ابتكر الفكر المعاصر فكرة المجتمع المدني، ولجأ العقل البشري في راهنيته إلى إعطاء هذه المهمة إلى ما أصبح يطلق عليه بجمعيات المجتمع المدني التي تتولى الإنابة عن المجتمع وتعوضه في القيام بمهمة التعبير عن كل ما هو غضب اجتماعي وكذلك للتنبيه عن الفساد واقتراح الإصلاحات التي يحتاجها المجتمع فهو من هذه الناحية صوت المجتمع الغاضب والعين الساهرة على سلامته وأمنه إلى جانب دور الأجهزة الصلبة للدولة التي تتحمل المسؤولية الأولى للقيام بهذه المهمة والدور.

مجتمع صامت

غير أن المجتمع قد يتحوّل إلى وضعية المجتمع الصامت لأسباب سياسية لا علاقة لها بما يدور في المجتمع من ظواهر تتطلب منه موقفا وتعبيرا، وإنما حالة الصمت قد تكون نتاج مناخات سياسية يعيشها المجتمع تتطلب من أفراده عدم إظهار الغضب والرفض بمعنى أن صمت المجتمع وصمت أفراده قد يقع انتاجه في بعض السياقات السياسية التي تمر بها المجتمعات ويكون ضروريا لصالح الأمن القومي للدولة…
ومن أجل خيارات مصيرية من قبيل فك التبعية مع الأجنبي و تحقيق استقلال القرار السياسي والقرار السيادي وبما يعني كذلك أن إنتاج المجتمع الصامت هي مسألة يمكن القبول بها في مناخ تعيش على وقعه الدولة والمجتمع سمته حالة اقتصادية واجتماعية صعبة تتطلب أن تتوخى الدولة سياسة التقشف أو اعتماد سياسة الكفاف والتعايش مع الموجود وما تقتضيه من توخي سلوك عدم تذمر الشعب من حصول نقص في المواد الغذائية الأساسية، وغير ذلك من الأسباب التي تحتم صمت المجتمع.
ففي مثل هذه الوضعيات التي تمر بها الحكومات والدول في معركتها مع القوى النافذة دوليا من أجل اثبات ذاتها وتحقيق سيادتها واسترجاع استقلالها الحقيقي، وفك كل ارتباط لها مع الهيمنة الخارجية تصبح مثل هذه الوضعيات مفهومة ومقبولة ولها ما يبررها…
ولكن المشكل الذي تثيره مثل هذه الوضعية التي يتم فيها إنتاج المجتمع الصامت الذي يقبل بالوضع القائم لأسباب وطنية ويقبل بالتخلي عن التعبير عن مشاعر الرفض تجاه السياسات الحكومية وحتى تتمكن الدولة من تحقيق أهدافها وبرامجها، المشكل فيما يحصل من تحوّل من وضعية المجتمع الصامت إلى وضعية التخلي عن كل الهياكل والاستغناء عن كل المنظمات الوطنية وكل مكونات المجتمع المدني التي تمثل المجتمع والتي اتفق العقل البشري المعاصر على أهمية دورها في عضد جهد الدولة وإسناد العمل الحكومي في التعبير عن غضب المجتمع وفي إيصال صوته في محاربة كل مظاهر الفساد وكل خلل اجتماعي.

إعادة بناء الدولة

المشكل الذي تثيره مثل هذه الصورة التي يجد فيها المجتمع نفسه صامتا تجاه كل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها أننا اخترنا أن نحقق الإصلاحات التي قامت عليها الثورة، ومن أجلها وأن نعيد بناء الدولة والمجتمع على قيم جديدة تقطع مع مرحلة الاستبداد وتحقق كل استحقاقات من قام بها من خلال الهيئات الوطنية وجمعيات المجتمع المدني التي راهن عليها مسار الانتقال الديمقراطي وراهنت عليها الثورة لتحقيق أهدافها حيث لا أحد يشك في العمل الكبير الذي قام به المجتمع المدني في تصحيح مسارات الثورة التونسية ومقاومة كل محاولات التلاعب بها وتحريفها…
وخاصة في الكشف عن الكثير من ملفات الفساد وملفات أخرى في مجالات حساسة وخطيرة في علاقة بالتبليغ عن التجاوزات السياسية و المالية والإدارية التي رافقت سنوات ما بعد الثورة.

تحوّل جذري

اليوم وبعد حصول تحول جذري في المشهد السياسي مع حدث 25 جويلية 2021 ومجيء الرئيس قيس سعيد إلى الحكم والسلطة وتشكل منظومة حكم جديدة بخيارات وقيّم وأفكار جديدة هي على النقيض من الخيارات السابقة للفريق السياسي الذي تولى قيادة الثورة، وهو توجه جديد رافض لمنظومة الأفكار ومنظومة القيم الديمقراطية القائمة على فكرة الديمقراطية التمثيلية ومكوناتها من أحزاب ومنظمات وطنية وجمعيات مجتمع مدني وإعلام وكل الأجسام الوسيطة الذي يعتبرها مسار 25 جويلية غير ذي جدوى ولا يحتاجها، وهي معطلة للتغيير الحقيقي ومساهمة ومشاركة في توسع منظومة الفساد وإفشال الثورة…

بلا أجسام وسيطة ولا مجتمع مدني؟

فإن السؤال الذي يطرح نفسه يتمثل في معرفة إذا كان هناك تحفظات على أداء بعض الجمعيات ونقد للأحزاب والنقابات ومساءلة لوظيفة الإعلام فهل هذا يشرّع التخلي عن كامل هذه الأجسام الوسيطة؟ وهل يمكن اليوم لمنظومة حكم أن تمارس السلطة من دون وجود أجسام وسيطة مع بالاستغناء عن جمعيات المجتمع المدني؟ اليوم هل يمكن أن نبني دولة جديدة من دون التعويل على مجتمع مدني حيوي ومؤثر؟
المشكل الذي نقف عنده ونحن نحاول الإجابة على كل هذه الأسئلة المشروعة في الموقف الذي أفصح عنه رئيس الجمهورية والذي انتقد من خلاله جمعيات المجتمع المدني معتبرا إياها امتدادا للقوى الأجنبية وتتلقى تمويلات من قوى خارجية تعمل على التدخل في الشأن الداخلي وإفساد حياة التونسيين.
من المشروع أن نتوخى تفكيرا مختلفا يقر طريقة عمل مختلفة و تنظيما جديدا في إدارة الشأن العام وأن نختار سياسات لا تعتمد على الأجسام الوسيطة…ولكن المقلق في هذا التمشي في التخلي عن التنظيمات والهياكل وكل مكونات المجتمع المدني من دون أن نقترح البدائل ومن دون رسم خيارات أخرى ليبقى السؤال قائما هل يمكن أن نتخلى عن الأجسام الوسيطة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى