صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ مذكرات الدكتور عبد الجليل التميمي: كيف تحول الشاب الزيتوني إلى مؤرخ متمرد؟

slama
كتب: نوفل سلامة

احتفت مؤسسة التميمي للبحث العلمي المعلومات يوم السبت 13 جانفي الجاري بالإصدار الجديد لصاحب المؤسسة الدكتور عبد الجليل التميمي ” مسيرتي الفكرية .. مذكرات ” صادر عن منشورات سوتيميديا 2024 عدد صفحاته 287 صفحة يحتوي على مقدمة كتبها المؤرخ الأستاذ محمد ضيف الله تحت عنوان ” سيرة بحجم كبير’…

وثلاثة أقسام القسم الأول مذكرات كتبها بين شهر جانفي 1958 وشهر فيفري 1961 أما القسم الثاني فهو عبارة عن قضايا فكرية وآراء كتبها على فترات مختلفة والقسم الثالث والأخير فقد خصصه لشهادات لشخصيات سياسية وعلمية تونسية وعربية ودولية حول المؤسسة ووشح الكتاب بعديد الصور تجسد لقاءات جمعته مع شخصيات مختلفة في مناسبات علمية أو مناسبات تكريم.

صعوبة التصنيف

الصعوبة التي تثيرها قراءة هذا الكتاب في معرفة جنسه وتصنيفه فهو في نظرنا ليس من قبيل كتب اليوميات أو المذكرات التقليدية وإن حوى على قسم خصصه لمذكراته وهي عبارة على يوميات حيزها الزمني لم يتجاوز الثلاث سنوات مما يجعلها لا تغطي كامل حياة المؤلف…

كما أن الكتاب لا يمكن أن نصفنه ضمن مؤلفات السيرة الذاتية أو أدب الاعتراف و حديث الذات التي عادة ما نجدها تؤرخ لحياة صاحبها بكل تفاصيلها بدءا من الولادة وحياة العائلة وانتهاء بمرحلة السن المتقدمة مرورا بكل المحطات المؤثرة من فترة الدراسة ثم العمل وكل المحطات الأخرى التي كانت له فيها أنشطة مختلفة سواء كانت سياسية أو علمية أو مهنية، مما يجعل مثل هذه الكتابة التي تغطي الجزء الأكبر من حياة المؤلف تمثل سيرة حياة و حصاد عمر من الجهد والبذل والعطاء وهذه الصعوبة التي تعترضنا في تصنيف هذا الكتاب تجعلنا نميل إلى اعتبار كتاب عبد الجليل التميمي جنسا آخر من أدب السيرة الذاتية لا تتقيد بالضوابط ولا بمقومات هذه النوعية من الكتابة وتتخلص من قيود التقنيات التقليدية في الكتابة عن الذات…

منهج في الكتابة

وهو في تقديري منهج في الكتابة يعكس شخصية الكاتب المعروف عنه طبع التمرد على كل ما هو سائد وراكد ويعكس طبيعة حياته التي اتسمت بالخروج عن المألوف والمتعارف عليه ولعل في هذا الانفلات من الضوابط المتعارف عليها في كتابة السيرة الذاتية ما يدعونا مع كتاب عبد الجليل التميمي إلى ضروب من القراءة تكون أكثر تحررا من القراءات التقليدية…
خاصة وأن الكتاب بما هو مزيج من كل الذي تحدثنا عنه يجعله شهادة على مرحلة من حياة التميمي وشهادة على أحداث كان فيها فاعلا بطريقته تمثل وجهة نظره للأشياء ما يجعلها مفتوحة على نقاش واسع خاصة وأن الكثير من القضايا التي تناولها في القسم الفكري تمثل زاوية نظره فهو في هذا المؤلف قد كتب ما أراد كتابته بروحه و إحساسه ومعرفته.

قسم اليوميات

هذه الخاصية التي تميز هذا المؤلف الإشكالي في جنسه وصنفه هي التي جعلت كل من تولى تقديم الكتاب من الذين أثثوا هذه الندوة يختارون التركيز على قسم من أقسامه فالدكتور محمد ضيف في مداخلته قد ركز على قسم اليوميات التي جاء في حوالي 60 صفحة كان عبد الجليل التميمي قد كتبها في سن الشباب تغطي تقريبا ثلاث سنوات من عمره بين سنة 1958 وسنة 1961 بدأها وهو تلميذ في سن العشرين لما كان طالبا في الفرع الزيتوني بالقيروان كانت شاهدة على أحداث عاشها في أماكن ومناسبات متعددة تحدث فيها عن قضايا كثيرة في الأدب والسياسة وتناول الفترة الزيتونية والعلاقات التي كانت تجمعه بزملائه وتحدث عن المناخات والأجواء العامة التي رافقت هذه المرحلة من تعليمه فهي من هذه الناحية مذكرات تروي جانبا من تاريخ الجيل الأخير من الزيتونيين وملامح روح عصر تحكم في رؤيتهم لأنفسهم ورؤيتهم للعالم من حولهم وكل التحولات التي بدأت تعصف بهم وبمؤسستهم العريقة التي تقاوم الرياح القادمة على مهل.

مجلة الفكر ومحمد مزالي

في هذه المذكرات تحدث عن الكثير من الأدباء العرب والتونسيين الذين أعجب بهم ولكن هذا الإعجاب لم يمنعه من نقدهم حينما يقف على منجز لهم لا يعجبه ويعده سخيفا .. تحدث عن مجلة الفكر التي كان يراها راكدة جامدة، وانتقد كتاب للمرحوم محمد مزالي عن الديمقراطية وعده غامضا في مضمونه رغم أن محمد مزالي هو الذي ناصره في محنة الالتحاق بالجامعة التونسية للتدريس بعد الحصار الذي ضُرب عليه من طرف الأساتذة الذين رفضوا التحاقه بها…

مخاض عربي

تحدث عن أجواء المنطقة العربية وهي تعيش مخاضا كبيرا وبداية الصراع العربي الإسرائيلي وبداية تشكل الوعي بضرورة الوحدة العربية لمواجهة العدو المشترك، كان الإيمان بالعروبة الموحدة موقفا ثابتا دونه في يومياته يعكس حالة جيل بأكمله حيث حصلت القناعة بضرورة أن يتحول العرب إلى قوة وأن السبيل الوحيد إليها بناء مشروع سياسي موحد .. تحدث عن التعليم الزيتوني وهو في أيامه الأخيرة يحتضر ومؤسسته تصارع من أجل البقاء وتقاوم رياح التحديث القادمة معلنة التخلي عن كل الروابط القديمة وقد زاد من أزمة الزيتونة ما دونه في يومياته من أن إخوانه في هذا المعلم كانوا كارهين لهذا التعليم وثائرين على المناهج التعليمية التي لم تعد جالبة ولا يقبل بها المتعلم .. تحدث بكثير من الإعجاب عن أستاذه محمد صالح القرمادي الذي كان يبهره بسعة علمه واتقانه للغات كثيرة وبطريقة حديثه.

المسألة الموريسكية

مداخلة أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية حسام الدين شاشية تناولت الجانب الذي عُرف به الدكتور عبد الجليل التميمي واشتهرت به مؤسسته وهو اعتناؤه بالمسألة الموريسكية وقضية المسلمين الذي علقوا بإسبانيا بعد عملية الطرد التي تعرضوا لها بعد سقوط الممالك الإسلامية في الاندلس سنة 1492 وهي قضية بقيت مسكوتا عنها لعقود ومغيبة من مقررات التدريس في الجامعات العربية وما قام به من جهد في التعرية على هذا الملف الحارق والخطير والمعتم عنه عن قصد هو جهد يحسب للرجل الذي بذل جهدا كبيرا في الحصول على الوثائق التي تؤرخ للمأساة التي حصلت للمسلمين في الأندلس بعد سقوطها والإبادة التي مورست ومحاكم التفتيش التي سلطت عليهم وهي دراسات قام بها التميمي شكلت علامه بارزة في مسيرته العلمية حيث أثث عديد المؤتمرات عن المسألة الموريسكية استدعى لها العديد من الشخصيات العربية والعالمية كانت سببا في التعريف بهذه القضية في العالمين العربي والغربي الذي لم يكن يعلم الا النزر القليل عن مأساة مسلمي إسبانيا وقد انتهت هذه الجهود بتعرية جانب كبير من الحقيقة عما حصل في إسبانيا المسيحية من إبادة وتهجير قصري ومحاكمات ظالمة للمسلمين للبحث في النوايا والحكم على الإيمان أن تقدم برسالة جريئة إلى ملك إسبانا يطالبه فيها الاعتراف بما حصل من جرائم إبادة بحق مسلمي الأندلس وتقديم الاعتذار عما ارتكبته إسبانيا المسيحية بحق أجدادهم وما تعرضوا له من إبادة لا تقل قيمة عما تعرض له اليهود من إبادة على أيدي ألمانيا النازية…

‘تجاهل’ مؤسسة التميمي

مداخلة الدكتور فتحي القاسمي أستاذ الحضارة في الجامعة التونسية ركزت على القسم الفكري من الكتاب وتحديدا مسألة تجاهل الإعلام للجهد الذي تبذله مؤسسة التميمي في الكشف عن الكثير من خبايا التاريخ التونسي وخاصة ما تعلق منه بالحقبة العثمانية والجهد الذي تبذله في تعميق الفهم والمعرفة من خلال إدخال الوافد العثماني في الدراسات التاريخية المعاصرة في محاولة لإصلاح الكتابة التاريخية التي اتضح اليوم أنها تحتاج إلى هذا الوافد و أن ثلاثة أرباع الأرشيف العثماني يتعلق بالعالم العربي وأن الكثير من أحداث تاريخ تونس المعاصر يمكن فهمه بطريقة مغايرة لو عدنا إلى هذا الأرشيف فما قام به عبد الجليل التميمي هو عملية تحسب له في مسار تطوير الكتابة التاريخية من أجل فهم مختلف عما كرسته الروايات الرسمية .
ما يحسب لهذا الرجل ومؤسسته أنه من خلال فتح الملف الموريسكي واستبساله في عقد المؤتمرات الدولية من أجل تعرية حقيقة إبادة المسلمين في زمن محنة الطرد التي تعرضوا لها في الأندلس أنه وضع نفسه مدافعا وحيدا عن تاريخ أمة بأكملها وطالبا وحيدا بمعرفة الحقيقة كاملة عما تعرض له مسلمو الاندلس وقد دفع ثمن هذا الخيار العلمي الذي اختاره حيث أصبح غير مرحب به في الدوائر الإسبانية وتم الضغط على السلطات التونسية للتضييق على نشاطه وتحويل مجال إهتمامه عن المسألة الموريسكية مما دفعه إلى تغيير إسم المؤسسة وطبيعة نشاطها لتصبح فيما بعد تعتني بتاريخ تونس المعاصر وتدخل مرحلة أخرى كانت هي الأخرى صعبة مع فتح الملفات المسكوت عنها كالقضية البورقيبية والملف اليوسفي وقضية الصراع اليوسفي البورقيبي وخفايا اغتيال الزعيم صالح بن يوسف ومحاولة المصالحة التي حاولت إنجازها من خلال ندوة خصصت في الغرض وقضية الاستقلال وبناء الدولة الوطنية و فتح ملف التاريخ التونسي في الكثير من محطاته المنسية أو المهمشة و التي بقى السؤال حولها مطروحا مراجعة و فهما وكتابة جديدة.
ما يمكن قوله في هذه الندوة التي حضرها الكثير من أصدقاء المؤسسة وروادها الأوفياء من وزراء سابقين ومثقفين وإعلاميين نذكر منهم الأستاذ عبد اللطيف عبيد وزير التربية الأسبق والأستاذ الجامعي والوزير الأسبق أحمد فريعة والمثقف والوالي الأسبق كمال الحاج ساسي والباحث في التاريخ القديم الأستاذ عبد العزيز بلخوجة والأستاذ الجامعي والعميد الأسبق لكلية منوبة الحبيب الكزدغلي والأستاذ الجامعي عبد الحميد لرقش وغيرهم.

مسيرة حافلة

ما يمكن قوله في هذه المناسبة التي تم فيها الاحتفاء بالإصدار الجديد للأستاذ عبد الجليل التميمي أن مسيرة الرجل العلمية حافلة بالأحداث وأن جهده في تعرية حقيقة القضية الموريسكية لا جدال حوله وأن ما انجزه من دراسات بخصوص تاريخ الحركة الوطنية وإعادة تأثيث الذاكرة الوطنية ومراجعة الكثير من القضايا التي جعلها المؤرخون من الثوابت والمسلمات ومن الأبواب المقفلة لهو جهد يحسب له أيضا فهو في هذا الملف قد حرك السواكن في ما اعتبر سردية رسمية مستقرة وراجع الكثير من الأحداث المرتبطة ببعض المحطات التاريخية وطالب بإعادة الفهم والكتابة وهو مسلك سبب له الكثير من المتاعب والتضييق وفي هذا الخصوص لا ننسى المعركة التي خاضتها المؤسسة بعد الثورة حول مسألة وثيقة الاستقلال التي بقيت مغيبة منذ أن أمضى عليها الطاهر بن عمار و حول حقيقة الاستقلال وما حصل حينها من تجند كل المهتمين بالتاريخ التونسي من أساتذة ومؤرخين وأمضوا ضده عريضة عرفت بوثيقة الخمسين وكل الضجيج التي أحدثته في الإعلام والصحافة ولا ننسى كذلك فتحه لملف الثروات وملف الطاقة وقضية البترول وملف الأموال العمومية وملف صباط الظلام الذي قتل فيه الكثير من اليوسفيين وبقي إلى فترة ملفا معتما عليه وملف الأقليات كقضية السود في بلادنا وملف الأغنية الملتزمة التي اندثرت بعد الثورة وملف اليسار وجماعة برسبكتيف وما حصل لها على يد بورقيبة وقبل ذلك كله ملف الثورة حيث استضافت المؤسسة جميع الطيف السياسي من زعماء وقادة الأحزاب السياسية يمينا ويسارا وخصصت جانبا من اهتماماتها لتسجيل سماعات عما حصل من انتهاكات في زمن الاستبداد والكثير من القضايا التي تشكل مادة غزيرة تضعها المؤسسة على ذمة المختصين للاستفادة منها لفهم ما حصل ولكتابة تاريخ لتونس بطريقة موضوعية تقترب بقدر كبير من الحقيقة وتبتعد بقدر كبير آخر عن الكتابة الرسمية الموجهة والتي غيبت الكثير من الفاعلين والأهم من ذلك كتابة تاريخ تونس تتحقق به المصالحة المفقودة بين الشعب وتاريخه..
ويبقى السؤال قائما حول معرفة هل حقق الدكتور عبد الجليل التميمي حلم عمره وأنهى مشروعه هدم جدار التاريخ الذي بناه المنتصر ومن يدور في فلكه من نخبة مثقفة اكتفت بالراكد والساكن ولم تتطور؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى