صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: لماذا ماركس راهنا؟ أي حضور وأي معنى للماركسية في زمن التحولات؟

slama
كتب: نوفل سلامة

نظم معهد تونس للفلسفة يوم الجمعة 9 مارس الجاري ندوة فكرية احتضنتها مدينة الثقافة بالعاصمة احتفاء بوفاة المفكر والفيلسوف ورجل الاقتصاد وعالم الاجتماع والمنظر السياسي والصحفي كارل ماركس ( 5 ماي 1819 / 14 مارس 1883 ) تولى التقديم لها وإدارة النقاش أستاذ الفلسفة فتحي التريكي وأثثها بمداخلتين كل من الأستاذ العميد السابق حميدة بن عزيزة رئيس الجامعات المتوسطية والأستاذة سارة الزواري.

السؤال الهاجس

كان السؤال الهاجس الذي شكل محور هذه الندوة هو هل مازال فكر كارل ماركس راهنيا اليوم ؟ وهل ما زال يصلح لفهم ما يجري اليوم من أحداث ويمتلك من القدرة على تغيير المجتمعات؟ وكيف يكون ماركس راهنيا خارج السردية الواسعة التي يتبناها أتباعه من مختلف قوى اليسار الماركسي والتي اتضح أنها سردية قديمة تحولت إلى ما يشبه السلفيات الدينية ؟ و كيف يكون له حضور ومعنى بعد أن أعلن البعض عن موته واندثار رؤاه ومقارباته التي قيل أنها كانت صالحة في زمانه واليوم تم تجاوزها نحو أفكار أخرى أكثر موضوعية وعلمية؟

عودة من جديد؟

وكيف يمكن لفكر ماركس أن يعود من جديد بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وما تبع ذلك من إضعاف للحلف الشيوعي ومنظومته الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تخلت عنها الإنسانية نحو أفكار أخرى واهتمامات أخرى ورهانات جديدة بعد تراجع الأحزاب الشيوعية في العالم؟ ماذا بقى من الماركسية بعد أن وضعت على محك النقد والتمحيص وفقدت الكثير من تأثيرها في المجتمعات ؟ وأي علاقة بين النصوص الأصلية لكارل مارس و نصوصه التأسيسية والكتابات والقراءات والتحاليل التي كتبها بعده ماركسيون آخرون ؟ هل تعد هذه الكتابات التي فسرت وشرحت النص الأصلي لماركس خروجا وتحريفا عن الماركسية الأولى كما جاء بها صاحبها أم هي تجديد وتطوير وإضافة للنظرية التي قدمها ماركس ؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل علينا لفهم ماركس أن نكتفي بالعودة إلى نصوصه فقط ولا نولي كثير اعتبار للكتابات الماركسية التي أنتجت من بعده ؟ وهذا السؤال يحيلنا على سؤال آخر مهم وهو ماذا بقى من الماركسية اليوم لفهم واقعنا و العالم من حولنا ؟ وماذا بقى من ماركس ونحن نشهد تغولا للنظام الرأسمالي الذي حاربه ماركس وتنبأ بنهايته وإحلال الماركسية مكانه ؟ ماذا بقى من أفكاره ونحن اليوم أمام نظام عالمي تهيمن عليه الليبرالية المتوحشة والرأسمالية التي استطاعت أن تجدد نفسها وتتجاوز النقد الموجه إليها وتتخطى هناتها ؟ وهل صحيح أن ماركس مازال راهنيا وحاضرا والعودة إليه ممكنة رغم كل التحول الذي حصل في الفكر والاقتصاد والتاريخ؟

فكر ماركس لم يمت

حاولت هذه الندوة أن تبين أن فكر ماركس لم يمت رغم تراجع الأحزاب الماركسية وأن تحليله ورؤاه حول الدولة والمجتمع والتاريخ والفرد والاقتصاد والعلاقات داخل العمل لازالت صالحة والعودة إليها ضرورية لفهم العالم نحو تغييره وأن تغيير العالم لا يمكن أن يكون من دون العودة إلى ماركس وهذا يعني أنه يمكن أن ننتقد ماركس ونوجه الكثير من النقد لفكره ولكن كل ذلك لا يجعلنا ننكر أنه قدم للإنسانية أدوات تفكير ومنظومة فكرية متماسكة ومقاربات متينة وأسس نظرية وجهاز مفاهيمي لا يمكن الاستغناء عنهم لفهم العالم وفهم طبيعة العلاقات داخل المجتمعات وفهم ما يحصل اليوم في محيطنا وفي العالم من حولنا وهي تبقى دوما صالحة وغير مقيدة بفترة من التاريخ حتى نقول أنها تهالكت وانتهت.

تفكيك الآليات

قيمة ماركس في كونه قدم نقدا للنظام الرأسمالي المستغل للعمال وفكك آلياته وتوقف عند مخرجاته وهي انتاج الاستغلال والهيمنة والفقر والاغتراب وانتقد الدولة التي لا تسمح وتمنع تحقيق المساواة وإعطاء العمال حقوقهم وقدم تفسيرا ومنهجا للتغيير الاجتماعي من خلال جملة من المفاهيم أهمها تبشيره بسيطرة الطبقة العاملة وسماها دولة البروليتاريا ومنها أن التاريخ يحكمه صراع الطبقات وأن المجتمع يتغير ويتطور نتيجة هذا الصراع بين الطبقة العاملة المستغلة والطبقة المهيمنة المالكة لوسائل الإنتاج والمالكة للمال وأن البنية التحتية تؤثر في البنية الفوقية أي أن الاقتصاد والمال والعلاقات التجارية وعلاقات العمل هي من يؤثر ويشكل بنية المجتمع الفوقية المتكونة من الفكر والثقافة والدين والعادات والتقاليد والقانون وأن من يملك وسائل الإنتاج هو من يحدد البنية الذهنية للمجتمع بما يجعل الفكر والدين والثقافة تابعة وفي خدمة البنية التحتية وهكذا حسب ماركس يتغير التاريخ الذي جعل له محركا وحيدا هو الاقتصاد وطبيعة العلاقة الاقتصادية هي عادة ما تكون ذات طبيعة تقوم على الهيمنة والاستغلال لذلك نظر ماركس للثورة الاجتماعية التي تقودها الطبقة العاملة.

منظومة رأس المال

نقطة الانطلاق في فكر ماركس هي تشريح نمط الإنتاج الرأسمالي وفهم كيف ينتج هذا النظام علاقات هيمنة واستغلال وركز على تحليل وتفكيك منظومة رأس المال وما تحققه النقود من قيمة زائدة ينتجها العامل ولا يستفيد منها وإنما يستفيد بها صاحب رأس المال، وأوضح كيف أن القيمة الزائدة للمال هي من يجسد الحيف واستغلال الطبقة العاملة التي بالإضافة إلى كونها تعمل لساعات طويلة إلا أنها لا تستفيد من قيمة ما تنتجه من عمل يتولد عنه زيادة في رأس المال الذي لا يستفيد منه العامل وبذلك يخلص ماركس إلى وجود أزمة في النظام الرأسمالي متلازمة بين وسائل الإنتاج والأجور وهو انخرام في المعادلة بين رأس المال الثابت الذي يضغط على قوة العمل بالضغط على الأجور للمحافظة على فائض القيمة المانعة من استفادة العامل منها للإبقاء على الأزمة وتواصلها فقوة العمل هي التي تنتج فائض القيمة وهذا الأخير هو الذي يأتي منه كل الربح في المنظومة الرأسمالية ولكن هذا الفائض لا يستفيد منه العامل لتبقى الأجور على حالها رغم تحقق الربح والسؤال لماذا لم تقع الثورة على النظام الرأسمالي كما شرحه ماركس؟ ولماذا واصلت الرأسمالية وجودها رغم هذا الضعف الذي أوضحه ماركس؟

أجوبة غرامشي

الجواب فيما قدمه أنتونيو غرامشي (مناضل ماركسي إيطالي ولد سنة 1891 وتوفى في سنة 1937) وحنّة أرنت ( مفكرة ماركسية ألمانية ولدت سنة 1906 وتوفيت سنة 1975) وغيرهما من المجددين للنص الماركسي وكل الكتاب الذي حاولوا أن يطوروا ماركس ويجعلوه راهنيا وغير معني فقط بزمانه واشكاليات واقعه وقضايا عصره فـ غرامشي مثلا قلب نظرية ماركس رأسا على عقب وقال بأن البنى الفوقية من فكر وثقافة ودين وأخلاق وقوانين هي التي تؤثر على البنى التحتية بما هي علاقات داخل المجتمع بما يعني وعلى عكس ما قاله ماركس فإن القوانين والدين والفكر والثقافة هي التي تحدد نوع العلاقة داخل المجتمع وطبيعتها فالتغيير يقع من الفوق من خلال الفكر والثقافة والتعليم ولمح إلى أن الصراع تقوده الأبنية الفوقية ومن يملكها باستطاعته التحكم في المجتمع وتغييره لذلك يجب حسب رأيه أن نكون أغلبية حتى نتمكن من فرض أفكارنا. وهذا يحيلنا على النقاش الذي ما زال مثارا إلى اليوم داخل العائلة اليسارية الماركسية حول أيهما أسبق الوعي أم الواقع ؟ وهل أن الوعي ينتج الواقع أم أن الواقع هو من يصنع وعي الناس ؟ فهل أن الوعي بالاستيلاب والهيمنة هو نتاج الواقع أم هو حالة ذهنية سابقة عنه؟ فالمراجعة التي قام بها قرامشي للنص الماركسي كما كتبه ماركس مهمة لفهم لماذا لم تحقق أفكار ماركس ثورة في ألمانيا وقد كانت حينها مهيأة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وحتى الفكرية لذلك؟ ولماذا لم تقع الثورة في انقلترا كما توقع لها وإنما حصلت في روسيا القيصرية البلد الذي لا يتوفر على طبقة عمالية مضطهدة وإنما على طبقة من الفلاحين هي التي قادت الثورة البلشفية التي غيرت العالم ؟
ما قدمه غرامشي هو تصحيح للكثير من الأخطاء في التفكر الماركسي بعد أن تخلى عن الكثير من المقولات التي انتجها النص المؤسس الأول والكثير من رؤى صاحب نظرية التأسيس الأول وقدم صورة عن الدولة البديلة التي تقوم على فكرة مجتمع مدني ومجتمع سياسي متجانس وبني قمعية متصارعة معه وجاء بفكرة الكتلة التاريخية والمثقف العضوي محركين للتغيير الاجتماعي ودافع عن فكرة البنية الفوقية هي المحرك للتغيير على عكس الماركسية التقليدية فقرامشي تحول اليوم إلى مرجع أساسي لفهم المتغيرات العالمية وقضايا الانسان المعاصر. فهل كنا في حاجة إلى هذه التعديلات حتى نتحدث عن راهنية ماركس؟
أراد غرامشي إنتاج ثقافة تقاوم الهيمنة واعتبر أن الأفراد لا يحكمون بالقوة وإنما بالأفكار، هو من بنى مفهوم الهيمنة والوعي الفوقي وقد استفادت الثورات من أفكاره ومن مفهوم الهيمنة الذي طوره كان يؤمن بأن الثورة هي حلم كل إنسان مضطهد ومستلب و جاء بفكرة التغيير من خلال حرب المواقع طويلة الأمد أي انتاج الهيمنة المضادة ونصرة المقموعين وسكان الهوامش من خلال انتاج مثقفين يتحولون إلى كتلة تاريخية تقوم بدور تاريخي بعد الالتحاق بالقوى المستضعفة للقيام بثورتها .
التحدي الذي يعترض مطلب راهنية ماركس والاحراج الذي وقفت عليه هذه الندوة عن ماركس في ذكرى وفاته في الحديث عن أهمية استحضار الفكر الماركسي اليوم واستدعاء النصوص الأولى لماركس فهل أن الراهنية تكون بالعودة للنص الأصلي لكارل ماركس أم أن الراهنية فيما كتبه المجددون من الماركسين وما قدموه من إضافات وتجديد ومراجعات للنظرية الأولى وأسسها الفكرية كما كتبها ماركس لتفسير التاريخ وفهم العالم نحو تغييره؟

أسئلة جديدة

التحدي فيما عجزت عن تفسيره والإجابة عليه من أسئلة جديدة ظهرت بعد وفاته في قضايا تلامس حقوق الأقليات وموضوع العنصرية والمسألة النسوية والمثلية الجنسية والقضايا الإيكولوجية التي لا يمكن أن نجيب عليها باعتماد على أدوات التحليل والمفاهيم التي أنتجها ماركس عن المجتمع الرأسمالي في القرن التاسع عشرة .
التحدي أمام الراهنية المطلوبة للنص الماركسي في التيار الشعبوي الذي بدأ يكتسح الفضاءات العامة والمجال السياسي والمناخات السياسية التي قدمت هذا التيار حلا لكل الخيارات التي تقوم عليها المجتمعات والدولة الحديثة وقدمت الشعبوية تجاوزا للفكر الماركسي وتخليا على أهم أدوات التحليل الذي جاء بها ماركس القائمة على فكرة صراع الطبقات والبنية التحتية محركا للتغيير الاجتماعي والعنف الثوري ودولة البروليتاريا ودور العمال في تحقيق التغيير والثورة . كيف يكون ماركس راهنيا ومفيدا ولا يمكن الاستغناء عليه والشعبوية تكتسح العالم بقوة والاحداث تتغير وتؤثر فيها عوامل كثيرة غير العامل الوحيد الذي حدده ماركس و الذي حصره في العامل الاقتصادي ؟
فهل نفهم ماركس من خلال ما انتجه هو نفسه أم من خلال ما انتجه الماركسيون بعده؟ هل نفهم الراهنية بالعودة إلى النص الأصلي لماركس لفهم العالم وتشريحه نحو تغييره أم من خلال الكتابات الماركسية التي وصفت بالتجديدية والتحريفية المتجاوزة ؟ هل نفهم راهنية ماركس في الفراغات التي نجدها في النص المؤسس لماركس والتي لا تجيب على سؤال العنصرية والمثلية والمهاجرين والنسوية وقضايا البيئة والأقليات وبقيت حبيسة إشكاليات قديمة في قضايا القرن التاسع عشر؟
للخروج من هذا المأزق الذي وقعت فيه هذه الندوة حينما حشرت ماركس مع غرامشي وغيره من المجددين للماركسية فيما ختم به الأستاذ فتحي التريكي من أن الماركسية لا يمكن أن تكون إلا شعبوية وإذا أقصينا الشعب وطلباته من الماركسية نكون قد تحولنا من الواقع إلى النقاش الفلسفي. إن الراهنية مطلوبة لأن المقصود منها هو إعادة انتاج الفكرة التي لم تمت وإنما الذي مات هو النموذج الذي تبناها في مرحلة ما من التاريخ. الماركسية لم تمت لأن الفكرة رؤية يمكن إعادة انتاجها كلما توفرت ظروفها وما قدمه كارل ماركس يبقى حيا لأنه قدم للإنسانية أدوات تحليل و آليات تفكير ومفاهيم ومقاربات وطريقة تحليل لا يمكن الاستغناء عنها مهما تقدم التاريخ.

سؤال مطروح

والسؤال الذي يبقى مطروحا إلى أي حد يقنع هذا الكلام في عالم كل شيء فيه متحرك ومعقد ومركب وقابل للتحول في أي لحظة وآخر هذه الأسئلة الحرجة لراهنية ماركس سؤال غزة وكيف نفهم انطلاقا من النص المؤسس الذي أنتجه كارل ماركس ما يحصل اليوم من حرب بين غزة والاحتلال الإسرائيلي ؟ وكيف نفهم بالعودة إلى ماركس ما يحصل من تحولات عالمية تسببت فيها عملية طوفان الأقصى ؟ وكيف نفهم الكثير من القضايا المعاصرة بالاستعانة بالجهاز المفاهيمي لماركس الذي خرج عنه وتجاوزه المجددون من الماركسيين؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى