نوفل سلامة يكتب: خيار التعويل على الذات ومأزق الرهانات والإكراهات

كتب: نوفل سلامة
ما هو متفق عليه بين أغلب خبراء الاقتصاد والمختصين في الشؤون المالية أن قانون المالية الحالي لسنة 2025 قائم على فكرة جوهرية، هي فكرة التعويل على الذات والاعتماد في المقام الأول على توظيف الموارد المالية الذاتية في تعبئة موارد الميزانية وتوفير الاعتمادات اللازمة للإنفاق العام…
وأيضا فك الارتباط مع المؤسسات المالية العالمية المقرضة وتحديدا صندوق النقد الدولي وسياساته المالية القائمة على الإقراض مقابل تطبيق شروطه وتنفيذ املاءاته على الدول والحكومات وفرض برامجه التي اتضح أنها مواصلة للحالة الاستعمارية القديمة وتكريس وضع الارتهان لقوى الخارج ومراكز النفوذ العالمي ونزع السيادة الوطنية وتقييد القرار السيادي للدول…
خيار صائب
وما هو محل اجماع كذلك أن خيار قطع الصلة مع صندوق النقد الدولي والتخلي عن الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية المانحة للقروض بشروط وبفتح الباب للتدخل في الخيارات والسياسات الخاصة للدول هو خيار صائب في طريق استكمال عملية التحرر الوطني وتحقيق الاستقلال الحقيقي والكامل، واستعادة السيادة الوطنية للقرار السياسي والسيادي للحكومات…
وهو خيار رغم كلفته الثقيلة على حياة المواطن إلا أنه أثبت أنه خيار الطريق الصحيح الذي انتظره ونادى به الكثير من أحرار هذا الوطن، حيث اثبت أن البلاد في غياب اللجوء الى صندوق النقد الدولي لم تُفلس ولم تذهب إلى نادي باريس كما توقع الكثيرون، وفنّد كل التوقعات التي كان يُروّج لها غالبية المحللين الاقتصاديين وخبراء المال والمختصين في رسم السياسات المالية، والذين تنبأوا بإفلاس الدولة إذا لم تقبل بالقرض الممنوح من صندوق النقد الدولي وإذا تخلت عن دعم هذه المؤسسة المالية العالمية وفك كل ارتباط معها.. لقد روجوا إلى أن حضور الصندوق مسألة حيوية للاقتصاد التونسي ومن دونه تكون البلاد على حافة الإفلاس.
سياسة تقشفية
التعويل على الذات هي فلسفة قام عليها قانون المالي للسنة الحالية عنوانها الكبير توخي سياسة تقشفية لا تقطع كليا مع فكرة الاقتراض وإنما تغير الوجهة إلى مؤسسات مالية مقرضة، غير تلك المرتبطة بقوى الاستعمار والهيمنة والاعتماد بنسبة كبيرة على الاقتراض الداخلي من البنوك المحلية وبنسبة أقل من المؤسسات المالية العربية والإفريقية وحتى الأوروبية التي لا تتدخل في الشأن الداخلي مع مواصلة تسديد حصص القروض التابعة لصندوق النقد الدولي التي يحل أجلها إلى أن يتم خلاص كامل الديون التابعة لهذه المؤسسة المتحكمة في مصير الدول، وبذلك ننتهي مع تاريخ طويل من الارتهان ومن التبعية للمؤسسات المالية التي تمثل صورة الاستعمار في شكله المعاصر.
صحيح أن فلسفة التعويل على الذات وفكرة التقشف في عملية الإنفاق العمومي وخلاص المزودين العموميين والخواص لتوفير حاجيات الشعب له كلفته على المواطن الذي لم يتعود على نقص المواد الأساسية نتيجة تطبيق سياسة جديدة في توريد مختلف المواد والمنتجات، وذلك بالاكتفاء بما هو ضروري وأساسي منها فقط والتحكم في نفقات الدولة وتوسيع قاعدة الضرائب بإدخال شرائح اجتماعية جديدة في منظومة الضرائب كانت في السابق إما متهربة وإما تدفع أداء تقديريا لا يعكس حقيقة وضعها المالي…
مسحة اجتماعية
وصحيح كذلك أن قانون المالية الحالي له مسحة اجتماعية وبه إجراءات لصالح الفئات الفقيرة وضعيفة الحال، وفيه توجه نحو الأخذ بيد الطبقات المنهكة اجتماعيا على غرار العاملات الفلاحيات اللاتي أفرد لهن قانون المالية الحالي بعض الامتيازات الجبائية وخصهن ببعض الإجراءات لتحسين حالهن ..
واليوم إذا كانت استراتيجية التعويل على الذات لبناء اقتصاد مستقل ودولة كاملة السيادة ودولة غير تابعة ولا مرتهنة إلى الخارج ومتحررة من كل تدخل في قرارها السياسي والسيادي ومتمتعة بالاكتفاء الذاتي في جميع المجالات وخاصة المجال الفلاحي والطاقي والمائي والمعرفي الثقافي.. فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو كم ستدوم هذه السياسة التقشفية؟ ومتى تنتهي استراتيجية التعويل على الذات ذلك أن الكثير من الدول التي قررت التخلص من هيمنة الأجنبي وتحررت من قوى الاستعمار الخارجي ومؤسساته وهياكله المتحكمة قد وضعت مخططا واضحا ورؤية بتواريخ وجدول زمني حتى لا تصبح فلسفة التقشف والتعويل على الذات وضعا قائما وحالة دائمة…والحال أنها في الأصل حالة ظرفية استثنائية غير دائمة..
لذلك فان المطلوب اليوم تحديد سقف زمني واضح لتطبيق هذا الخيار وتاريخ واضح لنهايتها والعودة إلى الوضع الطبيعي.
مشكل كبير
المشكل الكبير الذي يعترض رهان التخلص من هيمنة الأجنبي وتدخله في سياساتنا الداخلية والمأزق الحاد في هذه الفلسفة هو أن المرور والعودة إلى الحالة الطبيعية وحالة الرفاه الاجتماعي الذي يحتاج تحقيق نسبة نمو كبيرة لا تقل على 3 أو 4 بالمائة، ويحتاج إلى توفر الأموال في خزينة الدولة وهذا لا يكون إلا بتحقيق الثروة والزيادة في الإنتاج من خلال تطوير واقع الاستثمار الخاص والعام الوطني والأجنبي وتحسين مناخ الأعمال وتحسين من نسبة العجز التجاري المثقل بتوريد النقص في مادتي البترول والغاز التي تمثل عبئا كبيرا على ميزانية الدولة حيث تمثل بمفردها حوالي 60 % من عجز الميزان التجاري وتحسين إنتاج الفسفاط الذي كان في السابق أحد ركائز الاقتصاد وأحد الموارد الأساسية لتمويل الميزانية والذهاب في خيار المشاريع الكبرى المنتجة للثروة والموفرة لـ طاقة تشغيلية واسعة على غرار تحلية مياه البحر من وراء الانتقال بالكلية الى الطاقة الشمسية والتي حسب كل المختصين الطريق الوحيد للتقليص من حالة العجز الطاقي المكلف والحد من نسب البطالة.
بناء وطن
خيار التعويل على الذات واتباع سياسة تقشفية في الإنفاق العمومي بالاعتماد على ما توفره عائدات القطاع السياحي وتحويلات عمالنا بالخارج والتقليص من التوريد والتحكم في جلب المنتجات الأساسية والضرورية للاحتفاظ بمخزون العملة الصعبة، وما يدره قطاع الفلاحة من وراء تصدير التمور وزيت الزيتون والقوارص هو توجه صحيح في طريق التحرر من الهيمنة الخارجية وبناء وطن كامل السيادة غير أن المطلوب لتحقيق هذا الهدف وضع إجراءات حمائية تكون مرافقة لهذه السياسة…
ذلك أنه رغم أهمية هذه القطاعات في توفير الموارد المالية اللازمة لتعبئة خزينة الدولة فإنها تحتاج مع كل ذلك إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من مادتي البترول والغاز وتحقيق الأمن الطاقي والغذائي وخاصة في مادة الحبوب والأعلاف للحفاظ على منظومة الالبان المهددة بالتراجع وتطوير واقع الاستثمار وتطوير الصناعات المحلية وحمايتها ودفع المواطن إلى الإقبال على الاستهلاك المتوقف على تحسين مقدرته الشرائية، والرفع من دخله الشهري حتى يتمكن من العيش في أمان وراحة بال..