صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: تحولات السعودية أو كيف نقيس تديّن المجتمعات ؟

كتب: نوفل سلامة

تعيش اليوم المملكة العربية السعودية حالة تحول الكبرى شملت تقريبا جل المجالات الحيوية وكل ميادين الحياة..ويعرف هذا البلد منذ فترة حالة من المراجعات المفصلية والمؤثرة على صورة الدولة والمجتمع والفرد السعودي تجاوزت المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى المجال الديني…

تغييرات مسّت الصورة الدينية التي عرفت بها السعودية كحامية للدين وقبلة للمسلمين في عبادة من أهم العبادات ومرجعا دينيا بالنسبة للكثير من المتدينين بصفته بلدا يقدم نفسه على أنه بلد مسلم ونظامه يطبق الشريعة الإسلامية ويقدم للعالم صورة تديّن ينسبها إلى الإسلام الحقيقي…

حركة تعصير

ويعرف حركة تعصير موسعة للمجتمع يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يحاول من خلالها كما يقول إدخال بلاده في منظومة الدول العصرية ويجعل منه بلدا متقدما على شاكلة البلدان الأوروبية، وبلدا يعيش عصره ويستفيد من منجزات العقل والمعرفة الحاصلة ما يدفع عنه كل التهم والمؤاخذات التي توجه إليه على أنه بلد التعصب وهو متأخر ورجعي وينتج الإرهاب والتطرف…

مخاض فارق

مع هذا المخاض الفارق الذي تعيش على وقعه السعودية، وهذه التحولات العميقة التي تحصل اليوم في بنية المجتمع والدولة والفكر والتي من المنتظر أن تغير من صورة وواقع هذا البلد المحافظ يوجد نقاش مواز في الداخل السعودي وخارجه يحاول مساءلة الخطوات التي خطاها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في تطوير بلاده ومناقشة المراجعات التي يقوم بها في منظومة الفكر الديني، والتحول الكبير الذي يعمل على ترسيخه في علاقة بصورة التدين الشعبي ومفهوم الدين الصحيح وفي علاقة بوضع المرأة السعودية التي تم رفع الكثير من الموانع عنها جعلها أكثر تحررا وأكثر مشاركة في المجتمع…

وضع الحريات الفردية

وفي علاقة بوضع الحريات الفردية ومنح الفرد السعودي مساحة أكبر من الحرية ما يمكنه من الذهاب إلى قاعات السينما وحضور الحفلات الموسيقية أو مواكبة معرض كتاب أو الذهاب إلى الملاعب الرياضية والجلوس في المقاهي العامة، وغير ذلك من الأنشطة الترفيهية والتخلي عن حالة الضبط الأمني التي كانت السلطة تفرضها على الشعب بما جعل منه شعبا منغلقا ومأزوما في شخصيته ويعيش حالة في الانفصام بين هويته المغلقة وتطلعاته المنفتحة والمتطلعة إلى عوالم أخرى يكتشفها حينما يغادر السعودية ويتعرّف على حياة شعوب أخرى.

نهاية السعودية ‘القديمة’؟

الفكرة الرئيسية لحركة العصرنة ومسار الإنفتاح و مشروع التحديث الذي أقدم عليه ولي العهد السعودي لإدخال بلده في مصاف البلدان العصرية تقوم على القطع مع صورة السعودية القديمة وصورة الدين والتدين الذي تتبناه وتروج له منذ نشأتها، بإعطاء المجتمع جرعة من الحرية والتحرر يسوق لها في الخطاب الرسمي على أنها حركة من صميم الإسلام بل هي حقيقة الدين الإسلامي التي غابت لعقود بما يعني القطع مع الصورة النمطية للسعودية على أنها بلد التشدد الديني وبلد الاسلام الضاغط والفكر المتطرف والفهم المنغلق للدين الذي لا يقبل الحوار ولا النقاش في المقولات والتعاليم الدينية التي تتبناها السلطة السياسية وتفرضها على المجتمع بالقوة والإكراه..

مشروع العصرنة والانفتاح الذي تعرفه السعودية في راهنيتها يقوم على فكرة العودة إلى صورة الدين الاسلامي الصحيح وصورة التدين الحقيقية بعد أن طمست نتيجة اتباع نهج التشدد والتقيد الحرفي والمطلق في فهم النصوص الدينية المؤسسة من دون مساءلة السياقات والملابسات والاكراهات و التاريخ والواقع والتحولات الحاصلة.

نقاش واسع

التحولات المؤثرة التي تعرفها المملكة العربية السعودية فتحت نقاشا واسعا في الأوساط الفكرية وفرضت جملة من الأسئلة المشروعة منها هل أن التقليل من التشدّد الديني وتوسيع دائرة الانفتاح على الآخر وعلى أنماط عيش الشعوب الأخرى يجعل من المجتمع أقل تدينا؟
وهل يؤدي انفتاح المجتمع على العالم والسماح بتواجد أنماط من العيش مختلفة وتبني جملة من السلوكيات وطرق تفكير متحررة تقبل بفكرة التعايش مع المختلف ما يجعل المجتمع أكثر اعتدالا ويجنبه السلوك العنيف والتفكير المتشدد والمتطرف؟

عالم متحرك

وهل أن الانفتاح على القيم الإنسانية والحياة المتحررة في مجتمع تقليدي محافظ تجعله أكثر تدينا وأقل تطرفا وتشددا؟
وأسئلة أخرى تتعلق بالجواب على سؤال كيف يمكن أن نقيس تديّن المجتمعات في عالم متحرك وواقع متحول باستمرار وفي عالم منفتح ويعيش حالة من التفاعل والتأثير المتبادل ؟ وكيف يمكن أن يحافظ المجتمع على خصوصيته وهويته وتاريخه وثقافته وتدينه وفي نفس الوقت يعيش عصره ويكون منخرطا فى حركة التاريخ ؟
وأسئلة أخرى تتعلق بالضمانة المتوفرة لجعل المجتمع أقل تطرفا وتشددا دينيا حينما نقلل من حالة الضبط الأمني لتطبيق التعاليم والقوانين الدينية بمعنى هل أن توسيع دائرة الحرية الفردية والتقليل من مظاهر التشدد الديني تضمن لنا نشأة مجتمع أفراده بعيدين عن فكر التطرف والمغالاة؟

وهذا يحيلنا على نقاش آخر صاحب حالة تحول التي تشهدها السعودية يتعلق بسؤال مفهوم الدين الحقيقي، وكيف نتبيّن أن تدينا لشعب من الشعوب العربية المسلمة هو التدين الصحيح والحقيقي؟
وهل الابتعاد عن التطبيق الحرفي للنص وتطبيق التشريعات كما نزلت في سياقاتها التاريخية والميل والانحناء نحو الفهم المقاصدي للنصوص واعتماد روح التشريعات وروح التعاليم الدينية في الحياة وحركة الأفراد تجعل من مجتمع ما أكثر تدينا وأقل تشددا أو تطرفا؟
وهل أن الانفتاح وفتح الحدود والجغرافيا يزيد من منسوب التدين ويعمق تمسك الفرد بدينه أم أن هذه الحركة تقلل من منسوب الإيمان عند الناس؟ هل أن ما يقوم به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من حركة تحديثية لمجتمعه ومن تعويد المجتمع على تعدد الخيارات والإمكانيات والتخلي على فكرة المجتمع الذي يعيش على خط سير واحد يعزز الانتماء إلى الرابطة الإيمانية الواحدة أم يقلل منها ويضعفها؟

علاقة الدولة بالدين

هذا جانب من الأسئلة التي يدور حولها النقاش العام الذي فرضته حركة العصرنة والانفتاح التي أقدمت عليها السعودية وهو نقاش تمحور حول سؤال علاقة الدولة بالدين الإسلامي وسؤال أي تدين جديد تريد السعودية تقديمه في خطابها الرسمي وفي الممارسة اليومية على أنه هو التدين الصحيح والحقيقي الذي سوف يقطع مع الصورة النمطية التي علقت بالمملكة لعقود وأضرتها أكثر مما نفعتها؟
وهو نقاش تفرع إلى محاور فكرية أخرى ومسائل أكبر تلامس الحيرة التي تعيش على وقعها كل المجتمعات الإسلامية وخاصة العربية منها للإجابة على سؤال كيف نتبيّن أن تدين مجتمع ما هو التدين الصحيح؟
وكيف نضمن أن مزيدا من الانفتاح ومزيدا من العصرنة ومزيدا من توسيع دائرة الحريات الفردية من شأنه أن يحصن المجتمع من مظاهر التطرف ويبعد عنه سلوك التشدد والإرهاب؟
فهل أن التحديث والعصرنة والانفتاح ومحاكاة الآخر وتقليده في نمط تفكيره وعيشه هو الطريق الصحيح للقطع مع مظاهر التطرف والمغالاة وهل يكون هو الضامن لميلاد حالة دينية هادئة وتبني صورة صحيحة للتدين تكون الضامن في الأخير لأن يصبح المجتمع أكثر تدينا وأكثر التحاما بإيمانه الصحيح ؟ وهل ما تقوم به السعودية يجعلها بلدا عصريا أم أن للقضية وجها آخر و مداخل مختلفة وتداعيات ورؤى أخرى؟
وهل أن ما أقدمت المملكة العربية السعودية عليه هو الطريق الصحيح في البحث عن الدين الصحيح وعن الدين الحقيقي؟ أليست هذه الأسئلة تحيلنا على سؤال آخر حول ماهية الدين الصحيح ومن يحدده؟…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى