صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: انهيار نظام حكم الرئيس بورقيبة أو حينما تأكل دولة الاستقلال أبناءها..

slama
كتب: نوفل سلامة

لماذا العودة اليوم إلى الحديث عن دولة الاستقلال؟ ولماذا التفكير من جديد في نظام حكم أرساه الرئيس الحبيب بورقيبة من أجل تحقيق التقدم والازدهار للبلاد وانتهى في الأخير إلى حصول انقلاب عليه من قبل رجال كانوا في دائرة حكمه؟

لماذا النبش في الماضي؟

ولماذا النبش في ماضي تاريخ تونس القريب والتوقف عند بعض محطاته المؤثرة في محاولة لإعادة ترتيب أحداثه ودعوة لقراءة وكتابة تاريخية جديدة؟

وهل من دواع لمساءلة قصة دولة الاستقلال والتأمل والتدبر في مسارها والتدقيق فيما اعتبر فشلا في بناء دولة عصرية ومجتمع متطور؟

انهيار دولة الاستقلال

كل هذه الأسئلة وغيرها هي التي كانت وراء تنظيم ندوة فكرية احتضنتها مكتبة ‘الكتاب’ بضاحية ميتيافيل بالعاصمة يوم الجمعة 1 مارس الجاري محورها الكتاب الجديد للأستاذ رضا بن سلامة ‘الانهيار: خيوط الإطاحة بنظام دولة الاستقلال’ الصادر عن مؤسسة منشورات نيرفانا 2024 تولى تقديمه والتعريف بأهم ما جاء فيه المفكر يوسف الصديق…
في هذا الكتاب الذي يقول عنه صاحبه الأستاذ رضا بن سلامة أنه مقاربة استقصائية لرفع الستار على جملة من الأحداث التي عرفتها البلاد التونسية في حقبة مفصلية من تاريخها وتحولت إلى سردية رسمية تم الترويج لها على أنها تمثل حقيقة ما حف بالبلاد و تبنتها الذاكرة الجمعية من دون مساءلتها أو التثبت من صحتها، وهي الأحداث التي تشكلت بداية من سنة 1980 إلى سنة 1987 المنعرج الخطير الذي انهى نظام دولة الاستقلال، وأدى الى سقوط حكم الرئيس بورقيبة بتلك الطريقة المشهدية التي تمت إزاحته بها من السلطة…

إعادة السؤال

يطالب رضا بن سلامة بإعادة السؤال والقراءة التاريخية لمرحلة الثمانينات بمساءلة التاريخ المعاصر في مرحلة من أدق مراحله حفها الكثير من الاختزال والوثوقية، ويطالب بإعادة القراءة لهذه الفترة من أجل كتابة جديدة لتاريخ هذه الحقبة…
وهذا يعني أننا أمام مطلب لمساءلة التاريخ ومراجعة بعض أحداث محطاته التي قُدمت على أنها هي السردية الحقيقية، والحال أن المراجعة التاريخية القائمة على شهادة صاحب الكتاب بصفته كان قريبا من السلطة حينما كُلف بالإعلام في ديوان رئيس الحكومة محمد مزالي ومطلّعا على الكثير من تفاصيل الأحداث السياسية، وعلى تقاطعات الكثير من الشخصيات التي كانت حاضرة بقوة ودوّنت شهادتها في مذكراتها على غرار المرحوم الباجي قائد السبسي، الدكتور عمر الشاذلي والهادي البكوش وغيرهم، وعلى الكثير من الوثائق التاريخية التي أرّخت لتلك المرحلة…
هذه المراجعة التي يطالب بها تفرض بالضرورة مراجعة الكثير من القناعات حول مرحلة الثمانينات وتصحيح الكثير من الكتابة التاريخية وإظهار معطيات تم اخفاؤها في عملية تلاعب خطيرة حصلت لصناعة رأي عام قابل بالسردية الرسمية المقترحة.

سردية مختلفة

ولإقناعنا بهذا الطلب لمراجعة التاريخ يقترح علينا الأستاذ رضا بن سلامة سردية مختلفة لما حدث في الحقبة الزمنية التي اشتغل عليها تقوم على فكرة أن الانهيار أو الانحدار والسقوط الذي حصل لدولة الاستقلال التي مثلت الفرحة الكبرى لعموم الشعب التونسي بعد انهاء الاحتلال الفرنسي والتخلص من النظام الملكي لـ البايات الحسينيين، بدأ مع الصدمة التي حصلت في سنة 1969 نتيجة الفشل السياسي في التعاطي مع تجربة التعاضد والفشل في تفسير أسباب التعثر في تطبيق هذا النهج الاقتصادي الجديد.. وما تلاها من صدمات أخرى رسخت خيبة الأمل عند الشعب في دولة الاستقلال..
كان قرار تأبيد الحكم مدى الحياة وفشل تجربة الوحدة مع ليبيا بتلك الطريقة المشهدية والتصادم مع اتحاد الشغل في أواسط السبعينات ومحاكمة النقابيين والسياسيين المعارضين وتزوير الانتخابات في سنة 1981 وأحداث قفصة 1982 و أزمة الخبز وأحداثها الدموية سنة 1984 والازمة الاقتصادية التي عرفتها البلاد في سنة 1986 أبرز عناوينها الكبرى نضيف إليها إصرار السلطة على إرساء نظام حكم يقوم على شخص الرئيس الذي يعرف وضعا صحيا متدهورا أثر بقوة على أدائه من دون الرغبة في تسليم السلطة لغيره رغم مرضه..

كلها معطيات أثرت أحداثها وتفاصيلها على صورة نظام دولة الاستقلال وساهمت فيما يسميه الكاتب بالانهيار أو الإنحدار لدولة الاستقلال الذي انتهى بتنحية الرئيس الحبيب بورقيبة بعد الانقلاب عليه في خريف سنة 1987، لكن المعطى الأكثر تأثيرا في مسار الأحداث حسب الكاتب وكان محددا فيما حصل سنة 1987 هو القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية بداية من سنة 1984 في التخلص من الرئيس بورقيبة وإنهاء حكمه والمؤامرة التي حيكت ضده بتخطيط من قوى خارجية كان الرئيس الراحل زين العابدين بن علي أحد خيوطها وأحد أدواتها، مما يجعل من هذه السردية تنتهي إلى استنتاج مفاده أن الدولة بدأت وانتهت يوم قيامها، وأن النظام الذي أرسته قد شابه إلتهاب ذاتي في كل مرحلة من مراحله عجل بتقويضه نتيجة غياب الرؤية الواضحة لبناء دولة حديثة بمقومات نظام ديمقراطي يؤمن بفكرة التداول السلمي على السلطة، ويفكر في المجتمع أكثر مما يفكر في الاستحواذ على السلطة وتأبيدها لفائدته…

مؤامرة أمريكية؟

بما يعني أن السردية التي يقترحها الكاتب لتفسير ما حصل من انهيار لنظام دولة الاستقلال بعد تنحية بورقية من السلطة كان من وراء المؤامرة التي دُبرت ضده كان الرئيس الراحل زين العابدين بن علي أحد عناصرها الفاعلين رغم إقراره أنه لا يؤمن كثيرا بفكرة ‘المؤامرة’ لكن الكثير من المعطيات والشهادات والوثائق التي جمعها من فاعلين صادقين تؤكد أن ما حصل سنة 1987 من انقلاب وُصف بالطبي، هو في الحقيقة تنفيذا لبرنامج تنحية بورقيبة عن السلطة خططت له الولايات المتحدة الأمريكية..

المفيد فيما يقدمه رضا بن سلامة في كتاب الإنهيار رغم ما يثيره من مواقف معترضة على مقاربته فيما قام به من تحريك السواكن حول قضية عُدّت من المسلمات، وفي خلخلة القناعات التي يقول عنها أنها اختزلت الحقيقة في أحداث ورواية رسمية تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة ومساءلة جديدة…

المفيد في الخلاصات التي انتهى إليها ومنها أن النظام بالطريقة التي اعتمدها للحكم وبالأسلوب الذي انتهجه في التعاطي مع الأزمات لم يتطور وانتهى إلى أن ضحى في كل مرحلة من مراحله بأفراده، ووقع في فخ تآكل من الداخل بعد إفراغه من عناصره الفاعلة التي قام عليها.

لهذا انهار نظام بورقيبة

المفيد الذي انتهى إليه الكتاب أن نظام الرئيس بورقيبة لم ينهر ولم يسقط بسبب بروز أزمة اقتصادية خانقة كما روج لها الإعلام والكثير من السياسيين وإنما انهار بسبب المؤامرة التي دبرتها قوى الخارج ووضعت خيوطها بكل دقة وعلى مراحل استفادت من مرضه وضعف أدائه..
انهيار قضى على كل مكتسبات دولة الاستقلال في مجال التعليم والصحة ومنوال التنمية الاجتماعي والاقتصادي، وما حصل من تفويت في الكثير من المؤسسات العمومية ومن تطبيق لبرنامج الخصخصة والتخلي عن برنامج دعم المواد الأساسية وتراجع الدولة في لعب دورها الاجتماعي وتخليها عن فكرة الدولة الراعية وإثقالها بمنظومات خطيرة من إقرار شركات المناولة التي انتجت التشغيل الهش وعمّقت واقع البطالة وتتسببت في تراجع نسب الانتداب في الوظيفة العمومية، وما حصل من تقليص في الانفاق العمومي للدولة وتقليص في منسوب الهجرة النظامية في مقابل خيار الهجرة غير الشرعية ونتائجها الوخيمة كل ذلك حصل في ظل نظام قمعي استبدادي…

سياقات أخرى

المفيد الذي انتهى إليه رضا بن سلامة فيما يدعو إليه من إصلاح للتاريخ المكتوب ومن مراجعة للسردية الرسمية من أجل إعادة تأثيث الذاكرة التاريخية وإقرار سردية أخرى تقترب أحداثها من حقيقة ما حصل فعلا بالاعتماد على منهجية مختلفة في كتابة التاريخ تقوم على الفصل بين الذاتي والموضوعي وبعيدا عن التوظيف السياسي أو خدمة لسياقات ومسارات سياسية محددة وبالرجوع إلى ما كتبه الفاعلون السياسيون والوثائق المختلفة التي أرخت للمرحلة المعنية.
هذا تقريبا أهم ما يقترحه علينا الأستاذ رضا بن سلامة في كتابة الجديد
‘الانهيار خيوط الإطاحة بنظام دولة الاستقلال’ غير أن ما قدمه من تحليل حول حقبة الثمانينات لا ينهي الموضوع ولا يحسم الجدل التاريخي وإنما يفتح آفاقا جديدا في مساءلة المقاربة التي قدمها، ويفتح نقاشا آخر حول مضمون الكتاب وما حواه من معطيات يقول عنها مقدم الكتاب يوسف الصديق أنها جديرة بالاطلاع لأهميتها في تصحيح الكثير من التاريخ المكتوب..
يقول عبد الرحمان منيف: ‘من يقرأ الماضي بطريقة خاطئة سوف يرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضا’ يعلق رضا بن سلامة على هذه المقولة بقوله…وهذا ما سقط فيه أصحاب الأقلام المنغمسة في أوحال التواطؤ بترديد أطروحة ماكرة’ الصفحة 146 من الكتاب…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى