الصريح الثقافي

صدور كتاب تونسي مهم ‘شخشخها’ بالفصحى والعامية..

هذا كتاب جديد للباحث التونسي صالح بن رمضان صدر هذه الأيام يستحق القراءة لعمقه وطرافته وأسلوب تناوله للعلاقة المتينة بين اللهجة العامية والفصحى ..

وقد تولى تقديم هذا الكتاب الصادر عن الدار المتوسطية للنشر الأستاذ أحمد الودرني بمقدمة ممتعة وراقية في ما يلي نصها الكامل :

هذا مصنَّفٌ في بلاغةِ التُّونسيِّين، جاءَ نَسِيجَ وَحْدِه” كما تقول العَرَبُ، أُنْجِزَ منه جزْءٌ في أربعةِ أقسامٍ، سارَ واضِعُه في طريقٍ لم يَكْثُرْ سُلاَّكُها، َجمَعَ ووثَّقَ ولكنَّه نظَرَ وتَدَبَّرَ فسَكَبَ على قريحتِهِ مِنْ عِلمِه فاسْتوَتْ على الجُودِيِّ، وصدَرَ في عِلْمِه عن روحٍ مُبْدِعة أضفتْ على خطابِه طُلاَوَةً وحَلاَوَةً، فصارَ للمناهج ماءٌ، وللنظريّات والمداخل إليها مَلاحةٌ ورُوَاءٌ. ومَا أعْسَرَ الجمْعَ بين الطَّبْعِ والعِلْمِ، والقريحةِ والعقْلِ، والبَحْثِ، في دِقَّتِه وجَفافِه، والكتابةِ في روْنقِها وأَلَقِها!!!

تهيَّأ لصالح بن رمضان، في هذا المصنَّف، الجمْعُ بينَ طرفيْ تلك المعادلة الشَّاقَّة لأنَّ شخصيَّتَه، وقد جَالسْتُه كثيرًا أيَّامَ الغربة، يَسْكُنُها صَوْتَان: صوتٌ الجامعيِّ الذي يأخذ نفسَه بالقواعد العلميّة الصَّارمة وأصولِ البحْث الأكاديميّ فلا يَبْغِي عنها حِوَلاً، وصوتُ “الجْرِيدِيّ” الحَكَوَاتي البارِع في توظيف الفكاهة وصُنْع النّادرة على طريقة البشير خريِّف وعلي الدُّوعاجي. إنَّ هذه الرُّوح المُبْدِعة تَهَبُها الطَّبيعةُ للإنسان، لذلك ارتقتْ العبارةُ في هذا الكتاب إلى درجةٍ عَلِيَّةٍ مِن الجَماليَّة، فبدَا صالح بن رمضان شاعِرًا في سَرْدِه ووَصْفِه يَزْرَعُ بذورَ البلاغة التّونسيّة في تُرْبَةٍ سرديَّةٍ خَصِيبة عبْرَ (النّادرة) و(الخبر) و(الحكاية) وأشكالٍ أخرى من السَّردِ، فيُورقُ الوصْفُ ويَتفتَّقُ عن مَجَازاتٍ حيَّةٍ نابضةٍ مُحَمَّلَةٍ بالدَّلالات الأنتربولوجيَّة الموصولة بأسلوبِ حياةِ التُّونسيِّ وعاداته ومعتقداته ونمط تفكيره ونضاله من أجل القوت والعيش الرَّغيد؛ فيتولَّدُ لدى القارئِ (التلذُّذُ) و(الاشتهاءُ) ويستيقظُ فيه (الحِسُّ) حيالَ (مَأْدُبَةِ البلاغة): “أردنا أن يكون هذا الكتابُ مَأْدبة بلاغيّة أو مائدة من موائد الأدب والثَّقافة، أحببْنا أن يكون وليمة فاخرة بأطباق تونسيّة زَمْنِيَّهْ”. هكذا يستحيلُ فعْلُ القراءة إلى ممارسةٍ للذَّة ترمز إليها (المأدبة) و(المائدة) و(الوليمة الفاخرة) على شاكلةِ مَأْدُبَةِ أفلاطون (Le Banquet de Platon) في الحُبِّ والخير والجمال. إنَّ مأدبةَ صالح بن رمضان عِمَادُها “لَذَّةُ النصِّ”، وهي مفهومٌ حديث قديم استدعاه صاحبُ الكتاب من المدوَّنة التُّراثيَّة، رغبةً في تَأْصيل البلاغة التونسيّة، إذ يقول: “ولم تُهمِلْ الدّارجة التّونسيَّة تلك الصّلة الأنطولوجيّة بين الكلام والطّعام والأكل (…) تلك العلاقة التي وجدناها في التّراث الفصيح بصيغٍ مختلفة وفي مستوياتٍ متعدِّدة بين استقبال الكلام وتذوُّق الأطعمة، بين المِلْح وملاحة الكلام، والفكاهة والفاكيهْ حتى سَمَّوْا الشِّعر الفستق المقشَّر”، والكاتب يشير بذلك إلى ما كان يقوله الأصمعي في شعر عمر بن أبي ربيعة: “الفُستقُ المقشَّر الذي لاَ يُشْبَعُ منه” تأكيدًا صريحًا لمُتَصَوَّر النَّهم (la gourmandise) على حدِّ تعبير بارت .

إنّ عناية صالح بن رمضان ببلاغة الدّارجة التونسيّة تتنزَّلُ لديه ضمن رؤية تأصيليّة تغدو فيها اللّهجة التونسيّة فرعًا مشدودًا بِرَحمٍ مَاسَّةٍ إلى اللّغة الأمّ: العربيّة الفصحى-لغة القرآن الكريم، لذلك كان تراثُ الفصحى مرجعَه في أكثر من موضع، فلاَ يفوتُه التساؤل-مثلا- وهو يعلِّقُ على قولِ التونسيّ: “يتْشَقْ منّو باب العرْش” قائلاً: “فهل هو مستمَدٌّ من الآية الكريمة “تكادُ السَّماواتُ يتفطَّرْنَ منه”(مريم 90) أو من رافدٍ قريبٍ آخَر؟”. وكثيرا ما كان صاحبُ المصنَّف ينطلق من بلاغة القرآن الكريم ومن الشّعر القديم ومن فصيح كلام العرب في اتّجاه البلاغة التّونسيّة، ففي كلامه على (بلاغة العدد) على سبيل المثال أحال القارئَ على شعراء مثل طرفة والشّنفرى وبشّار والمعرّي، وفي موضع آخر تكلَّم فيه على ما أسماه “مساوئ المخاطبات”، نجده يحرص على المرجعيّة التراثيّة، يقول: “وقد استلهمنا منهج إدراج هذه الفقرة من تقاليد كتابة الأدب والبلاغة عند القدامى، فقد فتحَ الجاحظ هذا المسلك في كتابه “البيان والتّبيين” (…) وتلاه كُتَّابٌ آخرون كالبيهقي…”. إنّها الرُّوح التأصيليّة التي يصدر عنها الكاتب في التأسيس للبلاغة التونسيّة التي هي فرعٌ مُخْضَلٌّ نَضيدٌ من دوحةِ البلاغة العربيّة الحيَّة وثقافتها الرّاسخة في الزّمان، لذلك يقول الكاتب: “وقد حرصْنا كلَّ الحرص على أن تعانقَ الدَّارجةُ التّونسيّة أمَّها العربيّة الفصحى وتحتضنها” حتّى “يكونَ في هذا الدّيوان لمَنْ يعشقُ الفصحى الخالصة نصيب”. ففضلاً عن الروح التأصيليّة التي توجِّه المؤلِّف المنسجِم مع مُقَوِّمَات هُويَّتِه العَرَبيَّة، تتّضح للقارئ المتخصِّص خلفيّة لسانيّة وسيميائيّة عميقة كامنة وراء التّمييز الواعي لديه بين اللّغة (langage) واللِّسان (langue) واللهجة (dialecte) والكلام (parole)؛ فمثلما أنَّ للبشرِ لغة، للحيوان أيضا لغة لكنَّ البشر-بحُكم تميُّزهم النَّوعيّ- يختصُّون بالألسنة، ولكلِّ قومٍ لسانٌ، وضمن اللِّسان الواحد تتعدَّد اللَّهجات، وللعامل الجغرافي دورٌ في ذلك التنوّع، يقول ڤريماس وكورتيس: “في عِلْمِ اللَّهجات، يُسَمَّى خَطًّا لهجيًّا الخطُّ الذي يُحدِّدُ جهةً جغرافيَّةً، تتميَّز بالظّهور الواحد لذات الحدث اللّغويّ (الصّوتي، التركيبيّ أو الدَّلاليّ)” . لقد كان صاحبُ المصنَّف على وعي نظريٍّ دقيقٍ بالعلاقة الهَرَميّة (hiérarchique) بين مستويات التواصل اللّساني واللَّهَجي (Isoglosse) وهو ما انعكس إيجابًا على الضّبط العلمي للعلاقة بين اللّهجة التونسيَّة وأمِّها الفصحى ، وقد كان للكاتب أسلوبٌ فريدٌ في التقريب بينهما من خلال مَا يُذَرْذِرُ مِن بَهاراتِ الفصحى على الدَّارجة التُّونسيَّة، يقول مَازِحًا مُداعِبًا: “وقد اكتفيْنا بنقْلِ العبارات الدَّارجة التي رأيناها في غاية البلاغة وعاونْتُه أنا بِحْبِيبةْ كَمُّون من الفصحى”. فلاَ الفصحى انطفأَ ألَقُها ولاَ الدّارجة فقدتْ شُحْنتَها البلاغيّة .

إنَّ القارئ، وهو مأخوذ بلذّة الرّحلة عبر أقسام هذا المصنَّف، لا يفتأ يُطلُّ عليه سؤالٌ بين الفينة والأخرى: ما هو جنسُ الخطاب في هذا الكتاب؟

يقول المؤلِّف: “هذه صفحات من ديوان بلاغة الشعب التونسي في العصر الحديث (…) وهذا العمل ليس كتابا في الأمثال التّونسيّة ولا في الأدب الشَّعبي أو في الفلكلور أو في تاريخ الهويَّة (…) بل هو مصنَّفٌ في بلاغة التّواصل الاجتماعي والثقافي بين سكّان البلاد التونسيّة”. بذلك يتحدَّدُ جنسُ المصنَّف (ديوان)، والدِّيوانُ لفظٌ فارسيٌّ معرَّبٌ، وهو الدَّفتَر أو السِّجِلّ الذي تُدَوَّنُ فيه الأسماء والحجج ونحوها، كما تَحدَّدَ موضوعُ الدِّيوان من خلال علاقة الإضافة: (بلاغة الشّعب التونسيّ) ضمن منظور تداوليّ اتّضحتْ ملامحُه من عدّة تعريفات للبلاغة في صلتها بالحِجاج الّذي يُمارسُه التَّاجر عن وعْي وغير وعْي، وبأعراق السُّكّان وتنوُّعهم الإثْني، وبالزّمن وتطوُّره، وبالمهن وشتّى الحِرف، وبالأجيال على تباعدها في الزمن، وبالعُمّال والمُزارعين والكادحين، وبأصناف اللِّباس والأطعمة والغلال والثِّمار، وبالطّبيعة أرضا وبحرا وسماءً، وبالأشعار التي تغنّى بها المغنُّون فخلَّدوا أشتاتًا من الذَّاكرة. فيتَّضح جليًّا أنَّ الهاجس الأوَّل لصاحب هذا (الدِّيوان) هو حماية الذّاكرة التونسيّة من الضَّياع لذلك كان حريصا على جَمْع مادّةِ مصنَّفِه من “أفواه العامّة والخاصّة من التُّجَّار والمُزارعين وشيوخ البدْو والبُلغاء في أسواق المدن والقرى والمداشر والمنازل والنّجوع في الرّيف والحاضرة، في المجتمع الرّعوي والفلاحي والبحري والصّناعي التقليدي والحديث، في الأزقة والحواري والأرباض”. لكنَّ صالح بن رمضان لم يكن يكتفي بجمع أشتات البلاغة التونسيّة على غرار ما صنَعَ غيرُه إذْ كان يستهدف من المدونة البلاغية التونسيّة “النماذج التي تبدو أكثر ثراء وأوسعَ تنوُّعًا من ناحيةِ الدَّلالة الأنتربولوجيّة”، على حدِّ تعبيره، وهو ما يُفضي بنا إلى الهاجس الثّاني، وهو منهجيٌّ خالص، فقد ذكر الكاتب أنّه يستند إلى عدد من المناهج العلميّة ذات الصّبغة الانتربولوجية الاجتماعيّة وإلى أخرى مستقاة من علم النفس الاجتماعيّ والتحليليّ ومن الجغرافيا الإنشائيّة فضلا عن بعض مفاهيم النقد الثقافي وخاصّة مفهوم (النسق المضمَر)، وذلك من خلال جملة من المداخل تتراوح بين مداخل نصّيّة بنيويّة ومداخل سياقيّة تداوليّة على حدّ تعبير الكاتب.

فضلاً عن القيمة التَّوثيقيّة للدّيوان الذي صانَ تراثا بلاغيّا شفويًّا نفيسًا كان مهدَّدًا بالضّياع، ولم يتهيّأ للدّارسين السّابقين تسجيلُه، فإنّ صالح بن رمضان (الباحث الأكاديميّ) قد وضع أمام القارئ-الباحث عددا من الاختيارات المنهجيّة التي تتيحُ له الدّراسة العلميّة الجادّة للبلاغة التونسيّة سواء من خلال العناية بالجانب اللساني للّهجة التونسيّة (المستوى الصوتي-المرفولوجي، المستوى المعجمي-خاصة القسم الرابع من المصنَّف-، المستوى التركيبي-الدَّلالي) أو بالجانب البلاغي في ضوء المنهج التداوليّ، أو بالجانب السيميائيّ أو بالجانب الأنتربولوجي…إلخ. ونذكر تمثيلاً لاَ حصْرًا (الغصن الرابع) الذي عرضَ فيه أقوالاً وجيزةً عديدة في اللّباس وأنواعه في الدّارجة التونسيّة، ورأى إمكانيّةَ أن تُدرسَ في ضوء (سيميائيّة اللّباس)؛ كما قدَّم الكاتب تحليلاً أنتربولوجيّا دقيقا لأُكْلة (الكسكسي) من خلال رَبْطها بالهويّة الثقافيّة وبتاريخ تونس القديم وبثقافة الأمازيغ وبأنشطة الحرث والبذْر والزرْع والحصاد والدَّرْس وأفراح التونسيّين وأتراحهم. أمَّا صالح بن رمضان (الرِّوائيّ المبدع) فقد وضع أمام القارئ والدّارس نماذج راقية من الإبداع السّرديّ التونسيّ: فافتحْ على سبيل المثال (الحِلَّهْ الثامنة) تجدْ نماذج من السّرود الرَّمزيّة والواقعيّة التي صاغها الكاتب بأسلوبٍ فاتنٍ أخَّاذ، يقول الكاتب: “وقد شَخْشَخْتُها أنا من عندي وحَرْڤصْتِلْهَا ودَبِّغْتِلْهَا وقد أَخَذْتُ أقباسًا من العروي ومن بعض عجائزنا وورثتُ بعضَ عباراتها من والدي رحمه الله”. فكانَ يقوم بتسْريدِ المثَل (narrativisation) فيصوغ الحكايةَ الأصل التي أثمرتْ ذلك المثَل؛ وعندما تُغْلِقُ الدَّارجة وتوغِلُ في المحَلِّيَّة فإنَّه لا يتأخَّرُ عن “تَفْصِيحِها”، يقول: “وفَصَّحْناه (=المَثَل) ليَسْهُلَ فهمُه على غير التّونسيّين” حرْصًا منه على الالتزام بالتوسُّط في تطعيم الدّارجة بالفصحى والفصحى بالدّارجة سيْرًا على خطى نماذج راقية من السّرد العربي من خلال الرّواية الواقعيّة عند البشير خريّف ونجيب محفوظ ومن خلال الكتابة المسرحيّة والقصصيّة والسّيرذاتيّة عند علي الدوعاجي ومحمد رشاد الحمزاوي وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس. وبالرّغم من انخراط السَّرْد الواقعي لدى صالح بن رمضان ضمن هذه المدرسة التي ذكر أبرزَ رموزها، فإنَّه تفرَّدَ في ديوانه هذا-وفيما رَوَى لي مشافهةً في أكثر من مناسبة- بفنّ البورتري من خلال رسْمٍ بارع للشّخوص على طريقة بروست وفلوبير وزولاَ ؛ فحسْبُ القارئ أن يقفَ مثلا عند بورتري الزازية الهلاليّة، يقول الرّاوي: “كانت الزازية لِمْخَبْلَهْ في شعورْها زينْ أحْبِشْ وعِينْ حْبَارهْ، ووشامْ بحال تفَّاحْ برّ النّصارى وڤَدْ سِرْوِل وطولْ تڤول للڤمْرَهْ ازرڤي ولاَّ خلِّيني نُزْرِڤ، وكانتْ:
لُولاَ البرڤ لعجْ من منحرْها كُنَّا غدينا في ظلام شعرْها
كانتْ لابسهْ حِرَام حرير أحمر، وشادَّاتهْ بحزام مڤبَّضْ، وعلى ظهرها كتَّافيهْ، وتتبخنڤ ببخنوڤ حرير دودة أسود مزعِّفْ بالأحمر والأصفر الذهبي من بخانيڤ عرب دريد، لا تنسجهْ حرائر المحاميد في أقلّ من إثّْ سنينْ، وكانْ دَقّانْ الخلالهْ سمَّاعْ على بعيدْ”.

يرتكز الوصف في هذه البورتري على سيميائيّة الألوان: صنف من الألوان موجَّه لتصوير جسد المرأة بملامح جمالها العربيّ الأصيل (طول الشّعر، عيون المها، الوشام، الطّول الفارع، شدّة البياض) في إبراز لثنائيّة البياض/السّواد والنُّور/الظّلام، والتناصّ مع قصيدة أبي نواس لاَ يحتاج إلى تَبْيين:

فلمّا أنْ قضتْ وطَرًا وهمَّتْ على عجلٍ إلى أخذ الرّداءِ
رأتْ شخصَ الرقيبِ على التداني فأسبلتِ الظلامَ على الضّياءِ
فغابَ الصبحُ منها تحت ليلٍ وظلَّ الماءُ يقطرُ فوق ماءِ
أمَّا الصنف الثاني من الألوان فموجَّه إلى لباس الزّازية في طابعه التونسي الأصيل الموصول بجسد المرأة الشبيه بالتّمثال طولاً وعظمةً من خلال رمزيْن: البخنوق الأسود الملوَّن والخلالهْ ذات الصّدى، فهذه الملابس أشبه بالطقوس التي يحتفي التونسي من خلالها بالمرأة الأسطورة جمالاً ضاربًا في العراقة وقوَّةً يستند إليها الرّجلُ في مواجهة إكراهات الوجود بما فيها أعمال جني الزيتون والحصاد والدَّرْس وردّ المخاطر التي قد تهدِّد الأسرة والأهل كما في الغزوات وما شابهها. فتتحوّل المرأة الجميلة القويّة إلى رمزٍ ترتكز عليه حياة التونسيّ الذي يناضل-برفقتها- من أجل القوت والعيش السّعيد.

يفتحُ هذا الدّيوان أمام قُرَّائه أكثرَ من سبيلٍ: فإنْ كنتَ تنْشدُ الترفيهَ والفكاهةَ والهزْل ترويحًا عن النفس فقد أعدَّ لك المؤلِّف ما يكفي من الأخبار والحكايات والنّوادر التي تحقِّق الغاية؛ وإن كنتَ تحنُّ إلى حكايات الأمس الجميل مع الجَدّة والأمّ والأهل الذين فارقوك فإنّك ستجد في هذا الدّيوان ما يذكِّرك بهم ويُعيد إليك ظلالَ الزَّمن الضّائع؛ وإنْ كنتَ مُبْدِعا تعيش إرهاصات الكتابة فستجد فيما يحتويه الديوان من سُرود البلاغة التونسيّة وأغانٍ وأشعارٍ ما يشحذ قريحتك ويوجّهها إلى الخلْق والعطاء؛ وإنْ كنتَ باحثًا فستجد في هذا الدّيوان: مدوَّنتيْن: مدوَّنة نقديّة منهجيّة ذات طابع أنتربولوجيّ اجتماعيّ وطابع نفسيّ تحليليّ وطابع ثقافيّ اتنوغرافيّ، ومدوَّنة بلاغيّة بذل المؤلِّف جهدا جهيدا في جمعها من أفواه الرّواة حتى استوتْ جاهزةً أمامك. فآحزمْ حقائبكَ وابدأ رحلةَ الدَّرْس والمدارسة!!

لقد استعارَ مؤلِّف (ديوان البلاغة التُّونسيَّة)، في تسمية الأبواب والفصول، حُزَمَ السنابل (الحلِلْ) والعناقيد والعراجين والأغصان، سيْرًا على أسلوب البشير خريّف في تقسيم روايته الدقلة في عراجينها إلى عراجين وشماريخ، لكنَّ مؤلِّفَنا تجاوز ذلك ووسَّع الفضاء الاستعاري إلى ما أسماه “منتوج برّ تونس الزراعي” من مزارع حبوب وزياتين وعنب وكلّ الأشجار المثمرة في رمزيّة واضحة إلى وصْفِ بلادنا-في العالَم كلِّه- بـ (تونس الخضراء) دلالةً على أنَّ هذا الديوان البلاغي المتكوِّن من ثماني حلِلْ وسبعة عراجين وسبعة أغصان وثمانية عناقيد يختزلُ معاني الخصوبة؛ فبلاغة التّوانسة حيّةٌ ولودٌ تُعطي وتُثْمر وتُجدِّد موروثَها وتُحْيي ذاكرتَها وتصونها من غوائل النسيان والاندثار لتستمرَّ شامخةً أبيَّةً شموخَ تونس وإباءَها، في انتصار على الانبتات وأعداء الهويّة وعلى جفاف العقول، وكسْرًا لكلِّ قيدٍ يحول دون النماء والعطاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى