صالون الصريح

رضا شكندالي: الأزمة الاقتصادية كما أراها…وهذه طريق تونس للخروج من الأزمة الخانقة..

slama
كتب: نوفل سلامة

اليوم لم يعد ممكنا إتباع سياسة إنكار وجود أزمة خانقة تعيشها البلاد على أصعدة مختلفة فيها الجانب الاقتصادي الملح وفيها ما هو سياسي متعثر وفيها الاجتماعي الحارق، وفيها المالي المأزوم والمحرج جدا وهي أزمة متراكمة ومتمددة منذ زمن طويل وأزمة مركبة ولها تفرعات كثيرة..

صعوبات كبرى

كما بات من الواضح اليوم أن اتباع سلوك إنكار الأزمة لم يعد مفيدا ولا مجديا، وطريقة لا يمكن الوثوق بها في معالجة الوضع المسدود والخروج من حالة العجز المكبل والمرهق بعد أن بات واضحا كذلك أن هناك صعوبات مالية جمة تتعرض لها حكومة نجلاء بودن في تزويد السوق بمختلف حاجيات المواطن من المواد الاستهلاكية اليومية التي تعرف انحباسا وندرة وأن هناك ضائقة في السيولة المالية تحول دون إيفاء الدولة بالتزاماتها تجاه مزوديها المحليين والعالميين في وأوقاتها المحددة وخلاص مستحقات المتعاملين معها خاصة في كل ما يهم المواد الغذائية والطاقية وقد تأكدت الأزمة مع تتالي التصريحات من مسؤولين أجانب عن وجود مساع حثيثة لحلحلة حالة الانسداد المالي وتسوية ملف القرض مع صندوق النقد الدولي المتعثر منذ أشهر طويلة والتنقلات المتسارعة التي تقوم بها رئيسة الوزراء الايطالية ” جورجيا ميلوني ” لإعانة الدولة التونسية على إيجاد تسوية مع صندوق النقد الدولي ورفع نقاط الخلاف بين الجانبين نحو الوصول إلى اتفاق يدفع بالوضع نحو الانفراج ويمكن الحكومة من التعامل بأريحية وبصفة مباشرة مع مختلف المانحين الخواص والدوليين ويسمح للبلاد من الانطلاق في اصلاحاتها الضرورية التي أعلنت عنها .

أي حلول اليوم؟

حول الأزمة المالية التي تكبل البلاد وحقيقة أسباب حالة الشلل الاقتصادي والاجتماعي التي تعيش على وقعها المجتمع التونسي والحلول الممكنة للخروج من حالة الأزمة التي أضرت أيما ضرر بعموم الشعب في أدق حياته اليومية وقدرته الشرائية التي تراجعت كثيرا ونمط عيشه المعتاد، استضافت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات في ندوة يوم السبت 17 جوان 2023 الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي رضا شكندالي ليقدم رؤيته حول أزمة البلاد المالية والاقتصادية ومناقشة أسبابها العميقة والمباشرة و تناول الحلول الممكنة لتجاوزها علما وأن فكرة استدعاء الأستاذ رضا شكندالي تأتي في إطار التأريخ للذاكرة الوطنية في أهم أحداثها الراهنة وفي إطار اللقاء الذي جمعه بالرئيس قيس سعيد صحبة ثلة من أساتذة الجامعة التونسية وما دار من حوار معه حول جملة من القضايا المالية والاقتصادية التي تخنق البلاد والإشكاليات التي طرحت والحلول المتاحة للخروج من الأزمة…

يعتبر رضا شكندالي أن الأزمة الخانقة التي تعصف باقتصاد البلاد وبالوضع المالي والتي تتعدى المجال الاقتصادي والاجتماعي الى الوضع السياسي ومنظومة القيّم التي تم المس بها وتهرئتها وخاصة الأزمة المالية وإكراهات الميزانية ليست وليدة اليوم، ولا هي من مخلفات الثورة ومرحلة الانتقال الديمقراطي ولا هي من تداعيات حكومات ما بعد 2011 ولا من ارتدادات منظومة الحكم التي تشكلت بعد مسار 25 جويلية 2021 وإنما الأزمة في حقيقتها تعود إلى ما قبل ذلك بكثير إلى فترة ما بعد الاستقلال وكل الخيارات المطبقة… والتي راهنت عليها مختلف الحكومات التي جاءت بعد الاستقلال…

عودة إلى خيارات سابقة

وفي هذا المستوى من التحليل يجري رضا شكندالي مسحا سريعا وشاملا لما تحقق مع حكومات دولة الاستقلال إلى حدود منعرج 25 جويلية وحتى ما حصل بعده من خيارات من خلال العودة الى مرحلة أحمد بن صالح وفترة الوزير الهادي نويرة ثم مرحلة محمد مزالي…

مرحلة الوزير أحمد بن صالح كانت حسب قراءة المحاضر فترة ناجحة حيث اتبع فيها خيارا تنمويا تعامل فيه مع المتاح الممكن وفي ظل ما وفرته ظروف المرحلة والسياق التاريخي ووفق إمكانيات الدولة الوليدة وإمكانياتها المالية القليلة والبلاد خارجة للتو من حقبة استعمارية ثقيلة وتوقف فرنسا عن إسناد تونس ماليا.
ما يحسب للوزير أحمد بن صالح أنه عمل وفق رؤية واضحة وبرنامج اقتصادي بأهداف ومخططات تنموية محددة امتدت من سنة 1962 إلى سنة 1972 .. لم تكن لديه خيارات كثيرة سواء خيار التعويل على تدخل الدولة ومنوال تنموي تكون فيه الدولة العنصر الرئيسي في التنمية يمنحها لعب الدور المحوري في ظل غياب لأي حضور للقطاع الخاص الذي لم يتكون بعد وفي ظل غياب موارد مالية مع موارد جبائية قليلة فكان عليه أن يغامر بخيارات ممكنة ومتاحة.
قام بأعمال بقيت آثارها الايجابية إلى اليوم من أهمها بناء المؤسسات وإنشاء الصناعات الرئيسية.. قام بتونسة الإدارة وأنشأ البنك المركزي مع ثلاثة بنوك عمومية و مثلها خاصة و مثلها أجنبية وانشأ التعاضديات التي مرت بمراحل متقلبة وحصل لها تعثر كبير بسبب سوء التصرف المالي والتعيينات التي لم تكن مناسبة من خلال تكليف المناضلين وكل من كافح الاستعمار بإدارة المؤسسات العمومية ومن هنا بدأت المشاكل مع تفاقم الدين العمومي ما أدى إلى حصول الانطباع العام بأن هذه التجربة قد انتجت خسائر وعشر سنوات من الفشل كانت حاسمة وكافية للمرور إلى مرحلة أخرى.
إلى جانب هذه العوامل المرتبطة بهذا الخيار التنموي كانت هناك عوامل موضوعية كانت وراء فشل التجربة منها حصول ثلاث سنوات متتالية من الجفاف والقرار الذي اتخذ في سنة 1965 القاضي بالتخفيض من قيمة الدينار بنسبة 20 بالمائة، وفي المقابل كانت هناك أصوات تنادي بالتراجع والتخلي عن تجربة التعاضد والقطع مع الخيار الاشتراكي.

رؤية اقتصادية

فترة الهادي نويرة تعتبر أفضل فترة عرفتها البلاد بعد الاستقلال كان فيها العمل وفق رؤية اقتصادية تقوم على توظيف واستعمال فئة العاطلين عن العمل من أصحاب المستويات التعليمية المتدنية .. أهمية هذه الفترة أن من هندسها استطاع أن يحول أزمة البلاد إلى فرصة للإقلاع والنجاح من خلال التعويل على الاستثمار الأجنبي وتشجيع أصحاب المشاريع بالاعتماد على يد عاملة تونسية زهيدة الأجر يقابلها تكفل الدولة بدعم المواد الفلاحية والغذائية للتحكم في الأسعار وحتى لا يشعر العامل أنه يتقاضى أجرا زهيدا ومما ساعد على نجاح هذه التجربة ارتفاع أسعار النفط على المستوى العالمي ما سمح للدولة من تحقيق نسبة نمو كبيرة قاربت 8 بالمائة.
ومع تراجع أسعار النفط في أواسط السبعينات من القرن الماضي وتراجع مداخيل الدولة وما صاحبها من سوء تقدير لهذه الأسعار وانعكاسات ذلك على مخططات الدولة التي بنت برامجها على الإفراط في مستوى الاتفاق نتيجة تكهن بتواصل أسعار النفط في الارتفاع، وهذا ما حصل فعلا فبعد طفرة الأسعار المرتفعة عرفت هذه الأخيرة تراجعا مع بداية سنة 1973 لتستقر أسعار المحروقات في مستوياتها المعتادة ومن هنا بدأت المشاكل التي تزامنت مع الأزمة مع الشقيقة ليبيا.

قانون 1974

تواصل الاعتماد على هذا المنوال للتنمية القائم على فكرة المزايا التفاضلية في ميدان صناعة الملابس الجاهزة وميدان الجلود والأحذية وعلى اليد العاملة غير المكلفة ضمن قانون الاستثمار لسنة 1972 وعلى منح الشركات الأجنبية امتيازات جبائية إلى أن ظهرت أصوات في الداخل تطالب بمعاملة الشركات الوطنية على قدم المساواة مع الشركات الأجنبية…
فكان أن ظهر قانون 1974 الذي منح الاستثمار الداخلي امتيازات شبيهة بامتيازات الشركات الاجنبية ومنذ تلك اللحظة بدأت الصادرات تعرف تراجعا كبيرا على مستوى عدد الشركات المصدرة، وبذلك حدث شرخ في منوال التنمية المعتمد فحصل الانهيار وضعفت التجربة وبدأت الأصوات تنادي بالتخلي عن النهج الليبرالي والعودة إلى منوال تدخل الدولة في العملية الانتاجية.
مرحلة محمد مزالي جاءت على انقاض تجربة الهادي نويرة وحاملة معها كل الحمل الثقيل لهذه المرحلة التي بدأت نتائجها تظهر مع ثمانينات القرن الماضي والتي اتسمت بتفاقم العجز المالي وتوخي الدولة سياسة الترفيع في نسب الضرائب وتواصل عجز المؤسسات العمومية، ومما زاد في صعوبة المرحلة مع عرفته البلاد من ظروف مناخية سيئة أضرت بالتجربة وانخفاض كبير في أسعار النفط والأزمة مع ليبيا التي خلفت عودة الآلاف من التونسيين العاملين بها انتهت بدخول البلاد في منافسة ندية مع الأسواق الدولية التي أنتجت أزمة سنة 1986 فكان الخيار الوحيد هو القبول ببرنامج الإصلاح الهيكلي والشراكة مع الاتحاد الأوروبي فكان أول قرار اتخذته الحكومة وقتها هو التخفيض بنسبة 15 % من قيمة الدينار التونسي.

بداية أزمات البطالة

بعد هذه الفترة حصل تغير في مستوى الهيكلة العامة للسكان وازداد عدد العاطلين عن العمل وحصل خلل بين عدد طالبي الشغل وعدد مواطن الشغل المحدثة وتزامنت مع ظهور البوادر الأولى لظاهرة الهجرة غير الشرعية كل ذلك أدى إلى حصول انفجار اجتماعي في سنة 2000 أظهر هشاشة الاقتصاد التونسي وضيق أفقه وضيق سعة السوق التونسية مما جعل البعض يتكهنون بحدوث هزات اجتماعية عنيفة نتيجة تزايد عدد اليد العاملة ضعيفة الأجر، وتراكم أصحاب الشهائد الجامعية والمحافظة على نفس النظرة للسياسة السياحية التي تعتمد على الشاطئ والبحر وهي سياحة تقوم على الكم وليس على الكيف وتستنزف ثروات المناطق الداخلية لصالح الجهات الساحلية وقد أدت هذه السياسة التنموية إلى حدوث شرخ بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية…

الثورة من الأمل إلى خيبة كبرى

مرحلة الثورة كانت مرحلة الحلم والأمل دامت عشر سنوات تقدمت فيها البلاد كثيرا في المسار السياسي وعملية الانتقال الديمقراطي… ولكن الفشل كان في الجانب الاقتصادي الذي عرف تراجعا وتعثرت كل الوعود بتحسين الأوضاع الاجتماعية وخاصة تحسين أوضاع الجهات الداخلية وأوضاع شباب الدواخل الذين قاموا بالثورة…
ما حصل هو تسريع كبير في الانتقال السياسي مقارنة بالانتقال الاقتصادي وعرفت البلاد إصلاحات سياسية هامة وتركيز المؤسسات.
الملاحظة الهامة في مسار الثورات تقول إن الثورات الناجحة هي تلك التي حققت التوازن المطلوب بين المسارين السياسي والاقتصادي والثورات التي أوّلت اهتماما بالجانب الاقتصادي على حساب المطلب السياسي في حين أن الشعوب التي ركزت على الديمقراطية والإصلاحات السياسية قبل المطالب الاقتصادية فقد عرفت انتكاسة وحصل لها فجوة بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي ما أدى إلى فشل الثورة وخيبة أمل في المسار والخيارات المتبعة.

وفي الحالة التونسية فإن الذي حصل هو نموذج الثورات التي تراخت عن تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية وتقدمت أشواطا في المسار السياسي في مقاربة تقول بأن البناء السياسي ينتج واقع الرفاه ويحقق أهداف الثورة وهو تمش اتضح اليوم وبعد عشر سنوات أنه خاطئ ومكلف…

عشرية الفشل

يمكن تلخيص أسباب إخفاق عشرية الثورة في جملة من العوامل أهمها حالة الانفلات الأمني والمجتمعي التي تسببت في حصول حالة من الخوف لدى رجال الأعمال والمستثمرين الذين خيّروا مغادرة البلاد أو العزوف عن المخاطرة حفاظا على ممتلكاتهم…
إضافة إلى إغراق البلاد بمنسوب عال من المطلبية التي عرقلت عمل الحكومات وتسببت في تعطيل آلة الإنتاج ودخول الثورة في مناخ غير واضح في علاقة بقضية محاسبة رجال الأعمال ‘الفاسدين’ من الذين استفادوا من المنظومة القديمة وتصفية مرحلة الاستبداد والتعامل مع الإرث القديم من دون انتقام ولا تشف ما جعل المشروع الاجتماعي للثورة يتأخر ويتراجع إلى الوراء وتعطي الأولوية الأولى إلى الملف السياسي المثقل و جعله يتحرك في مناخ لا يسمح بالعمل وتحقيق نتائج مرجوة.

سياسة جبائية متقلبة

في الجانب الاقتصادي حاولت كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة أن تتقدم أشواطا في الإصلاحات الاقتصادية وأن تحقق نتائج ينتظرها الشعب لكن عوائق كثيرة حالت دون ذلك ومنعت الانجاز من أهمها المناخ الذي لم يكن مناسبا وكان عائقا للقيام بأنشطة استثمارية مع سياسة نقدية كانت حذرة ومرتعشة يضاف إليها سياسة جبائية متقلبة تعوزها الثبات ويغيب عنها القرار الجريء والنتيجة كانت حدوث أزمة مالية واجتماعية واقتصادية عصفت بكل الحكومات لا تزال آثارها إلى اليوم متحكمة من تداعياتها مزيد تعمق الفجوة بين الانتقال السياسي والإنتقال الاقتصادي…
ومما زاد الطين بلة تعمق الأزمة في الجانب السياسي وانسداد الأفق في الجانب المالي والاقتصادي كل ذلك خلف أزمة ثقة حادة بين الشعب والدولة وفقدان الأمل في قدرة السياسي على فعل أي شيء للأفراد تحولت إلى أزمة ثقة داخل المكون الحكومي نفسه وداخل السلطة نفسها وأزمة بين الحاكم والمحكوم كل ذلك عجل بحصول منعرج 25 جويلية 2021 وغلق قوس الثروة والذهاب نحو مرحلة أخرى من التاريخ بمنظومة جديدة تدعي أنها جاءت لتصحيح مسار الثورة وإرجاع الأمور إلى نصابها بعد أن تعفنت طيلة 10 عشر سنوات.
لكن المحير أن كل القلاقل التي أرهقت حكومات الثورة وأتعبت السياسيين الذين حكموا طيلة عشرية الثورة ونعتوا بالفاشلين وفاقدي الكفاءة لم تنته رغم انقلاب المشهد السياسي رأسا على عقب والمشاكل لا تزال تراوح مكانها لم تختف بل زادت وتفاقمت مما خلف الانطباع العام بأن أسباب انتكاسة الثورة لا تزال متحكمة في مرحلة ما بعد 25 جويلية…

مقاربات مختلفة

فالأزمة السياسية تفاقمت أكثر والعطب الاقتصادي تواصل والأزمة المالية استفحلت أكثر ولعل أول ملاحظة نبديها في التعرّف على الأسباب التي جعلت الوضع يبقى على حاله رغم تغير الفاعل السياسي أن نفس المقاربات تعاد ونفس الحلول يتم استجلابها في كل مرة لنجد أنفسنا أمام نفس التصورات يعاد احضارها وجلبها لنفس المشاكل والحال أن الأمر يحتاج إلى مقاربات مختلفة وبذل جهد في مناقشة الحلول المقترحة والذهاب إلى مستوى آخر من الفهم والإدراك واقتراح الحلول من ذلك أن كل الحكومات دون استثناء قد توخت لمعالجة الأزمة المالية مقاربة محاسبتية تعتمد الحرص للحصول الموارد المالية بكل الطرق واقتراح خيارات فاقدة لأي رؤية اقتصادية ولبرنامج مضبوط و استراتيجية بأهداف واضحة و رزنامة محددة .. إن كل ما قدروا عليه هو إقرار مزيد من الضغط على الميزانية على حساب القدرة الشرائية للشعب…
في هذا المستوى من تحليل أسباب الأزمة توقف المحاضر على ما يدور اليوم بين الحكومة وصندوق النقد الدول من شد وجذب ومن اجتماعات ونقاشات أخذت وقتا طويلا حول الموافقة على منح تونس قرض بقيمة 1.9 مليار دينار لحلحلة الوضع المالي المتعثر مقابل قيام الحكومة التونسية بإصلاحات موجعة ولتجاوز النقص الحاصل في المواد المالية لميزانية الدولة واعتبر أن المفاوضات رغم صعوبتها فهي تشهد تقدما ملحوظا وخاصة على مستوى كتلة الأجور و الانتدابات في الوظيفة العمومية التي على ما يبدو حظيت بموافقة صندوق على المقاربة التي تقدمت بها الحكومة التونسية والتخلى عن المطالبة بمراجعتها في حين أن المطالبة بإصلاح منظومة الدعم نحو التخلي عن دعم المواد الأساسية مطلب ليس في مصلحة الطرف الأوروبي في علاقة بتفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية نتيجة تردي الأوضاع الاجتماعية في بلد المنشأ وتفاقم البطالة جراء انسداد أفق التشغيل بما يعني أن رفع الدعم عن الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة اذا لم يرافقه إجراءات حمائية أخرى فإن المتضرر الكبير هي البلدان الأوروبية التي يحلم المهاجرون بالاستقرار فيها .
يبدو أن هناك مشكل في طريقة المفاوضات مع الجهات المانحة حيث يتم التركيز على الجوانب المالية المحاسبية التقنية ويتم التغافل على القضايا الجوهرية التي تمس كامل العملية الاقتصادية والجوانب الهيكلية والإجراءات والخيارات التنموية من ذلك أن مسألة الترفيع في نسبة الفائدة المديرية قد اتضح اليوم أنها إجراء غير مجد ولا فائدة منه…
وأن المتضرر الوحيد منه هو المواطن العادي والطبقات الاجتماعية التي لا يعنيها في شيء أن يتم الترفيع في هذه النسبة خاصة وأنها ليست هي المتسببة في عملية التضخم، وإنما الأمر يعود في حقيقته إلى اقتراض الدولة من البنوك وأن العجز التجاري الحاصل في الميزان التجاري يتسبب فيه توريد الكثير من المواد الأجنبية التي لا تقتنيها الطبقات الاجتماعية المتضررة .. منذ الثورة تم الترفيع في نسبة الفائدة المديرية أكثر من مرة بغاية التحكم في التضخم والتقليل من نسبة العجز التجاري من خلال التقليل من الولوج إلى الاقتراض العائلي بغاية التقليل من الاستهلاك الذي يؤدي حسب هذه المقاربة إلى التقليل من الإقبال على المواد الموردة وهكذا يتم التحكم في التوريد..
هذه المقاربة اتضح من خلال التجربة أنها خيار غير مجد ونتائجه على الوضع الاجتماعي وخيمة ويضر كثيرا بالفئات الفقيرة والمتوسطة.
اتضح اليوم أن المتسبب في العجز التجاري هو توريد الطاقة حيث اتضح لدينا نقص في مجال المحروقات بنسبة 40 بالمائة ولدينا عجز آخر مأتاه توريد المواد الفلاحية والغذائية الاستهلاكية ولدينا مشكل في تسديد الديون المتخلدة والتي اقترب أجل سدادها وما يعرف بخدمة الدين، ولدينا مشكل آخر يتعلق بتراجع قيمة العملة الوطنية وتراجع في الكثير من القطاعات الانتاجية أهمها تصدير مادة الفسفاط ومشكل في الموارد الجبائية وعجز عن إيجاد مصادر تمويل أخرى غير تلك التقليدية المتعارف عليها.

برنامج إنقاذ مالي

هذه تقريبا أبرز وأهم مشاكلنا التي تشكل أزمة كل الحكومات التي جاءت بعد الثورة وللخروج من هذا النفق كان الخبير رضا شكندالي قد اقترح على رئيس الجمهورية في لقائه الأخير به برنامج إنقاذ مالي واقتصادي وحزمة من التدابير المستعجلة منها استخدام الدينار التونسي عند التعامل مع الجزائر فيما يخص التزود بالمحروقات على أن يستعمل الدينار التونسي من طرف السياح الجزائريين القادمين إلى تونس وهو إجراء من شأنه أن يخفف على الدولة التونسية عبء توفير العملة الصعبة وإجراء آخر يخص الفسفاط بجعل المؤسسة العسكرية تشرف على كل عملية نقله وتصديره ومنها التحكم في القطاع الموازي الذي يمثل حوالي 60 بالمائة من الأنشطة الاقتصادية ويشغل حوالي 44.8 % من اليد العاملة النشيطة 80 % منها تنشط في القطاع الفلاحي ووضع حوافز لتحويلات عمالنا بالخارج التي اتضح أنها أرفع من عائدات قطاع السياحة والتقليل من الضغط الجبائي الذي يتسبب في هزات اجتماعية وتسريع في نسق الهجرة غير النظامية و الذهاب سريعا نحو إنتاج الطاقات المتجددة ونحو الاقتصاد الرقمي للتقليل من العجز الطاقي والتحول إلى بلد منتج ومصدر للطاقة….

رؤية جديدة

اليوم نحتاج إلى تغيير الرؤية والمقاربات التقليدية التي تعرض نفس الحلول الجاهزة للأزمات المتحولة والمتغيرة خاصة في مسألة التضخم والعجز التجاري ومسألة التوريد ومدخلات العجز التجاري. .. لقد بات من الواضح اليوم أننا أمام أزمة متعددة الأبعاد وهي في طريقها إلى التمدد والاتساع وتحتاج إلى رؤية وبرنامج واضحين وتحتاج جرأة في اتخاذ القرار وتغيير آليات التفكير والفهم.
أهم ما نخرج به من هذه الندوة، وهذه المقاربة التي يقدمها الخبير رضا شكندالي عما بات يعرف بالأزمة المالية الخانقة أن الدول القوية هي تلك التي تعرف كيف تحول أزماتها إلى فرص للانعتاق وإمكانيات للخروج من حالة العجز وتحقيق المطامح والرغائب ..
ما نخرج به من هذا اللقاء الفكري أن كل الحكومات التي تشكلت بعد الاستقلال كان سر قوتها ونجاحها أنها كانت تمتلك رؤية واضحة وإستراتيجية ومخططات مكتملة العناصر، وقبل ذلك وبعده قدرة على فهم المشكل وقدرة على طرح الأسئلة الصحيحة والأهم من ذلك توفر مناخ سياسي واجتماعي مستقر ومريح لتتمكن الحكومة من العمل في أجواء هادئة بعيدا عن الاكراهات والاحراجات… وحالة تصاعد الإضرابات و المطلبية المتزايدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى