صالون الصريح

الأستاذ الطاهر بوسمة يكتب عن الشاذلي العياري…

كتب: الأستاذ الطاهر بوسمة

صدر عن دار ليدرز للنشر هذه الأيام كتاب تركه المرحوم الشاذلي العياري بعنوان:

-Carnet de route d’un artisan de la Tunisie du XXe siècle-

قرأته في عدة أيام قدرتها لكثرة ما جاء فيه من الأحداث والتحاليل والاستنتاجات التي كان دوّنها المرحوم الشاذلي العياري قبل وفاته بأشهر، في زمن الإقامة الإجبارية التي فرضها علينا وباء كورونا، وتعهدت عائلته الكريمة بترتيبه وإخراجه وتزيينه بالصور المناسبة تخليدا لذكراه…

شدّني ذلك الكتاب المحرر بفرنسية رفيعة شدّا تغري القارئ وتسهل عليه تسلسل الأحداث وتبسيط الأصعب.

النشأة

كانت نشأته في عائلة متواضعة فقيرة جدا، تترّكب من أب وأم وعشرة أطفال، ثلاثة ذكور وسبعة إناث، وجدّ وجدة كانوا كلهم يقطنون معا بمسكن متواضع يتركب من ثلاث حجرات ومطبخ، كائن بضاحية الكرم من أحواز العاصمة، وليس لهم من معيل إلا الأب الذي كان يعمل موزع للمشروبات، وأمّ تساعده ببعض الفرنكات، مقابل خدمات تسديها من حين لآخر، لتوفير أدنى المستلزمات من أكل وملبس…

كان المعني بالكلام محظوظا إذ سجله والده بفرع المدرسة الصادقية المخصص للتعليم الابتدائي، حيث تفوق، وارتقى للثانوي في نفس المعهد، ومنه واصل دراسته حتى تحصل على الثانوية العامة التي أهلته لإتمام دراسته العليا بمعهد الدراسات في مادة الحقوق والعلوم الاقتصاد، ونال الإجازة بتقدير مكنه من خطة معيد بمقابل أعانه على تخطي بعض الصعوبات ومواصلة المشوار تحت إشراف الأستاذ (دي برنيس De Bernis) الذي اشتهر وقتها بوضع خطة اقتصادية متكاملة لفائدة اتحاد الشغل، اعتمدها أمينه العام أحمد بن صالح في المؤتمر الذي أقره مكان الشهيد فرحات حشاد.
اشتغل صاحبنا بعدها بتلك الدرجات موظفا بالشركة التونسية للبنك المحدثة بعد الاستقلال وبعث الدينار كعملة وطنية بقيمة 1000 فرنك فرنسي مضمونة ومعتمدة من بنك الإصدار الفرنسي.
وفي وقتها عمدت فرنسا تخفيض عملتها، الفرنك، لمرتين ولم تنسق مع تونس وهو ما دفع بحكومتنا بعدم إتباعها لأسباب تهم السيادة.
لم يتأخر ذلك المجاز حديثا في الحقوق والعلوم الاقتصادية، وانتقد سياسة الحكومة معتبرا أن الموقف مضرّ باقتصاد البلاد ومعطل للتصدير ولأسباب أخرى عدّدها ونشر رأيه في مقال على صفحات يومية ‘لابراس’ التونسية.
أدرك أن ذلك الموقف لن يمر وتونس مازالت تبحث لنفسها عن مركز ومقام، فعجل بالاستقالة توقيا من المضاعفات، وعاد للتدريس كما كان في انتظار ما يحدث من تطورات.

مرحلة دقيقة

كانت مرحلة دقيقة في حياته شجعته على مواصلة التعلم والدراسة، فسجل نفسه في جامعة بفرنسا لنيل درجة التبريز في العلوم الاقتصادية، وفاز بتلك المرتبة بامتياز بعد بحوث طويلة أجراها لسنوات عديدة دعّمها بما تيسر له عندما تواجد بالولايات المتحدة، كعضو بتمثيلية تونس لدى منظمة الأمم المتحدة بنيويورك زمن السفير المتميز المنجي سليم عليه رحمة الله.
وبعد قضاء المدة المحددة لإطارات الخارجية ووجوب التداول والرجوع للعمل بوزارة الخارجية، خيّر الاستقالة والعودة للتدريس، لكن الظروف شاءت أن يحتاج إليه من جديد في خطة ممثلا لتونس وشمال إفريقيا ومصر وإندونيسيا لدى البنك الدولي وغيره من المنظمات المالية بواشنطن ولسنوات مكنّته في أوقات فراغه بأن يتمم أبحاثه ووجد مكتبة الكونغرس الزاخرة بالكتب والمراجع.
في تلك الظروف المواتية نجح في ـ التبريز ـ في العلوم الاقتصادية، فكان من أول التونسيين الذي نالها برتبة مشرفة، فتحت أمامه الأبواب وانخرط في التدريس بعد عودته إلى تونس ولبس اللباس المميز لأمثاله ودرّس أجيالا، وما زال البعض يتذكره في المناسبات.

لقد خولت له تلك الرتبة تبوأ عمادة كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية ومركز العلوم والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، فدرس الحقوق والاقتصاد وتخرج على يديه أجيال، أرسل منهم بعض المتفوقين لجامعات الولايات المتحدة الأمريكية، وعاد منهم البعض للتدريس أو الإدارة والأعمال الحرة، وتولى البعض الآخر الوزارة، كـ مصطفى كامل النابلي الذي سبقه بعد في إدارة البنك المركزي التونسي كما سيأتي.

مدرسة متنقلة

كان رحمه الله لوحده مدرسة متنقلة بين القارات، لم يكن عنصريا، فهو لا يفرق بين المتخرجين من الجامعات، ومصادر تعلمهم، سواء كان بفرنسا أو بغيرها من بلدان، وحتى الذين عادوا من جامعات المشرق، وقد تعرضوا قبله للتمييز، كما رفع الظلم عن كثير من الزيتونيين ونظّرهم في الدرجات.
ويذكر أنه كان من منع البوليس من الدخول لفضاء الكليات ولم يكن متحمسا لأعمال العنف التي توخاها نظام ذلك الزمان بواسطة المغالين من الشباب وعُدت له حسنة من حسناته.
لقد تقلب بعدها في عدد من الوزارات، ومنها التخطيط لمرتين، والتربية الوطنية والشباب والرياضة لمرة، والاقتصاد الوطني لسنين، بذل فيها مجهودات وترك أثرا في التسيير والتنظيم وادخل العلم الحديث في المؤسسات وتابع قانون الاستثمار وغيّر فيه الاستثناءات والامتيازات التي أفرط فيها بعض الانتهازيين في غفلة من المهتمين بالشكليات.
عاد لوزارة التخطيط مرة الثانية، ولم يعمر فيها طويلا،

تجارب وتضحيات…

وفضل الدخول في مغامرة أدت به للسودان أين أسس وأدار البنك الأفريقي لأكثر من عقد من الزمان، وترك أثرا في التعاون بين بلدان العالم العربي وبلدان أفريقيا غيًرت بفضلها اتجاهاتها نحو الكيان الإسرائيلي، وقطعت معه علاقتها الديبلوماسية الى حين.
لقد كانت له تجارب وتضحيات، خصص لها فصلا مطولا في الكتاب جدير بالقراءة والدراسة من أهل الاختصاص.
 وأخيرا وليس بآخر، عاد لتونس بعد تغيير النظام بتولي زين العابدين بن علي الحكم خلفا لبورقيبة، فلم يجد له فيه مكانا، فتولى التدريس بجامعة آكس بفرنسا، وغيرها من الكليات، كمحاضر مستقل إلى وقت تعيينه مستشارا بمجلس المستشارين حتى أدركته الثورة وانحل المجلس تلقائيا وبقي صاحبنا يتابع من بعيد للأحداث، وظن وقتها أنه استحق التقاعد، ولكن الظروف شاءت له أن يعود محافظا للبنك المركزي لدورة وحيدة بستة أعوام قضًاها ناقصة بستة أشهر مرغما على الاستقالة بسبب تصنيف تونس من بين الدول المتهمة بتسهيل تبييض الأموال المشبوهة دون أن يعلم، وكان وقتها رئيسا للجنة التحاليل والتقييم.
كانت لي به علاقة متينة منذ كنت وال على الكاف وحضرت معه ذات يوم مؤتمر الشعبة الدستورية بمكثر بصفتي وال وعضوا باللجنة المركزية للحزب الحاكم قبل أن يقرر مؤتمر المنستير الأول الفصل بين الإدارة والحزب.
وجدته لطيفا متفهما ومحترما للمقامات، بالرغم من مؤهلاته، أدركت قلة خبرته بعلم الاتصال.
شاهدت ذلك في الجمع الذي حضرنا فيه، وتجاوز الحضور أكثر من ألف مشارك بتلك الشعبة، ففوجئنا بحماس الجماهير بمجرد الدخول، وقفوا جميعا ينادون بانتخابه رئيسا لتلك الشعبة اعتمادا على جذوره.
لم يكن منخرطا في تلك الشعبة ولم يتقدم بالترشح إلى المسؤولية، ورأيته محتارا فطمأنته وأخذت الكلمة قبله، واقترحت على المجتمعين القبول به رئيسا شرفيا، وهكذا تجاوزنا الورطة التي أوقعونا فيها…

كان وقتها عضوا باللجنة العليا التي عوضت الديوان السياسي الذي حله بورقيبة وكلفها بإعداد مؤتمر الحزب الذي تأجل مرات بعد الأزمة التي وقعت البلاد فيها وأدت إلى توقيف تجربة التعاضد وإقالة مهندسها أحمد بن صالح الذي حمل وحده المسؤولية وأحيل على المحكمة العليا التي قضت عليه بالسجن لعشر سنوات قضى منها ثلاث وفرّ ذات ليلة بتواطؤ مع كبير الحراس، وتلك قضية أخرى وقف المعني بالكلام موقف الاحتراز.
عبر عن موقفه ذلك في الكتاب، وكان يراها مظلمة دفع ثمنها احد المجتهدين في حين كانت تعتبر مسؤولية دولة…

شارك في مؤتمر الحزب المنعقد بالمنستير واحد وانحاز مثل غيره ممن كانوا ينادون بمزيد من الحرية والديموقراطية وخرج من الوزارة ليعود لها بعد حين بالنظر لمؤهلاته.
رأيته تغير قليلا وانخرط في العمل الحزبي كغيره من الإطارات وتم تعيينه بالديوان السياسي بصفته وزيرا وانتخب عضوا بمجلس الأمة نائبا عن ولاية سليانة التي تعود لها مكثر بالنظر، والتي كانت راودته على رئاسة شعبتها الدستورية كما سبق وقلت، وبذل مجهودا مشكورا في توجيه المسار  اقتصاديا واجتماعيا وماليا للوجهة التي كانت من اختصاصه وفعل مثلما فعلنا جميعا.
  ويظهر أنه من وقتها التزم بالتحزب، وعيّن لمرات بمجلس النواب والديوان السياسي.
 تعاونا معا في المهمات والصعوبات، وخاصة لما وليت على قفصة مهد مناجم الفسفاط وما كان يلزم من تطوير لأساليب استخراجه من الظلمات. وزرنا معا الدواميس التي ينقطع داخلها التنفس لعدم وجود ما يكفي من الأكسجين وكيف كان يقاسي العمال ذلك بصبر وعزيمة، ولكن ‘الخبزة مرة’ كما كان يقال،
لقد بدأ تعصير تلك المناجم من وقتها وبات الفسفاط يستخرج بالآلات وحتى من على سطح الأرض بفضل ما تلى ذلك من اكتشافات.  
تأكدت صداقتنا من جديد لما كنا نلتقي بالصدفة وخاصة لما أصبحت محام واخترت عمارة إفريقيا كمقر لسنين قبل أن تتغير الأوضاع، مثلما كان له قبلي مقرا ثانويا هنالك يدير منه شؤون البنك الإفريقي لما يكون بتونس.

كان يستشيرني…

من وقتها كان يخصني بشؤونه ويستشيرني كلما صادفه أمر له علاقة باختصاصي، واستمر الأمر كذلك حتى وهو محافظ للبنك المركزي وأتذكر أنه بمناسبة توليه لمهمة البنك المركزي تضايق كثيرا من تجريح غير مبرر ناله من بعض النواب والأفراد، وقدر أن من حقه أن يشتكيهم  للقضاء، فنصحته بأن يصبر عليهم ويجتهد ويعمل في صمت وسكوت.
لم ينقطع حبل الود بيننا، وترك لأرملته الفاضلة وصية بأن تستشير ابني المحامي الأستاذ محمد كلما احتاجت لأمر له علاقة بالقانون، وذلك الذي حصل وما زال يحصل، ويشهد بذلك السيد توفيق الحبيّب الناشر، إن أراد، لما وجده منه عند الحاجة وخاصة إخراج هذا الكتاب من الأدراج…

تجربة سنين

ومما بقي في بالي بعد قراءتي لذلك الكتاب طولا وعرضا وبما وجدته فيه من علم وقيمة لتجربة سنين، لخصها كاتبه بسهولة وتيسير بات في متناول القراء، ويمكن للعارفين بأسرار الاقتصاد والتصرف وإدارة المال والأعمال أن يستفيدوا منه و ينهجوا منهاجه.
لذا فإني أؤكد وانصح بالتعمق فيه لمن يريد المزيد، وأتصور أنها فرصة يمكن لنا أن نمنع بها من الغرق الأكيد، ونبني اقتصادنا على قواعد سليمة وننجح بالتشاور والتعاون ونبذ الخصام.  
وختاما لم يبق لي إلا الترحم عليه وأعزي فيه أرملته وابنته وابنيه وأحفاده وحفيداته وكل أفراد عائلته وتونس، وحتى أفريقيا، والعالم المتحضر، دون أن أنسى أرملته الفاضلة التي حفظت قدره، ودوّنت ذكره، واعتنت بإرثه، خدمة للعلم وحق طلبته وأصدقائه، وكل من يريد أن يعرف أكثر، واترك المجال للقراء وحدهم الحكم له أو عليه.
لقد كان من بين بُناة تونس الحديثة، وممن أداروا المرحلة الدقيقة بحكمة ومعرفة ودراية، وخاصة يوم مغادرة المستعمر لبلادنا فجأة، ولما أراد البعض من الشامتين أن يروها تغرق وهم ينعمون بالتفرج…

 تونس في 20 ماي 2023  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى