صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب/ محمود المسعدي 1911 ـ 2004: رائد الفكر الوجودي في العالم العربي (2)

issa bakouche
كتب: عيسى البكوش

” وافتح فؤادك للوجود وخلّه
لليمّ للأمواج للديجور
حتّى تعانقه الحياة ويرتوي
من ذغرها المتأجّج المسجور”.
حدّث أبو هريرة قال

يقول بوشوشة بن جمعة في مجلة المسار عدد 56 سنة 2002: ” إنّ محمود المسعدي صاحب مذهب فريد في الكتابة الروائية يستمدّ خصوصيته الفكرية والجمالية من اتخاذ الوجوديّة منطلقا يصدر عنه في أدبه”.
فالوجودية عند صاحبنا إنّما هي المعالجة الفكرية لكلّ ما يطرح على كلّ كائن واع بمسؤولية كيانه من أسئلة.

إرادة الله

ويضيف بن جمعة في ذات المقال: ” إن كان الوجوديون يرون أنّ إرادة الإنسان مطلقة ولا حدود لها فإنّ المسعدي وعلى النقيض من ذلك يؤمن بأنّ إرادة الله تبقى هي الأقوى”.
والدليل على ذلك ما صرّح به المسعدي نفسه في حوار مع ماجد صالح السامرائي في مجلة ” الحياة الثقافية” عدد 13 من سنة 1981 ” إنّ الإنسان لا يتمرّد على الله، بل يتمرّد على عجزه ولا يرضى بأن يكون مستسلما لضعفه وعجزه”.
لقد أنجز المسعدي أغلب فصول مدوّنته أثناء الحرب العالمية الثانية وبُعيدها ثمّ صرف بقيّة أيّام عمره في بناء الإنسان التونسي المتحرّر من ربقة الاستعمار والتبعيّة وتأصيله في كيانه العربي الإسلامي كما الإفريقي والمتوسّطي”.
ولم يكن لوحده من حَمَلة الفكر الذين شغلتهم السياسة عن الكتابة، خذ مثلا الأدباء علي البلهوان والشاذلي القليبي ومحمد مزالي والأمين الشابي ومصطفى الفيلالي والحبيب بولعراس، ولو أنّ هذين الأخيرين عادا من قبل يفارقنا إلى الحبيب الأوّل فأصدر الأوّل موائد الانشراح ومانعة والثاني حنبعل وتاريخ تونس.

يسألوني؟

يقول المسعدي: ” يسألوني هل كتبت من جديد؟ رواية كالسدّ أو غير ذلك؟ من غير أن يدركوا أنّ الإنسان سؤال واحد لا يتكرّر”.
السدّ؟ ما السدّ؟ هي رواية ذهنية شكّلت زمنا فارقا في تاريخ الأدب العربي ولو أنّ صاحبها بحسب تصريح المنعّم الشاذلي القليبي ” كتبها بالفرنسية ثمّ أعاد كتابتها بالعربيّة” جريدة الأسبوع الثقافي عدد 4 سنة 2011 لصاحبها عز الدين المدني
ـ ولم تعمّر ـ، مع العلم أنّه وقعت ترجمتها إلى الفرنسية سنة 1981 من طرف المنعّم عز الدين قلوز كما أنّها قُدّمت في عمل إذاعي فريد من نوعه من إخراج الصديق محمد عزيزة.

غيلان حاول وصارع

في تقديمه للطبعة الأولى سنة 1954 كتب الشاذلي القليبي: ‘إنّ مأساة غيلان
ـ بطل الرواية ـ إنّما هي في الحقيقة مأساة جيل كامل من شباب تونس في أعوام ما قبل الحرب العالمية الثانية’.
ويضيف: ‘إنّ عالم المسعدي ليس بعالم استسلام بل هو عالم ثورة وطلب ومحاولة وعلاج، وإن انتهت ثورة غيلان بالفشل والهلاك فلقد حاول وصارع والكفاح فضل الإنسان وشرفه الأسمى”.
أمّا في مقدّمة الطبعة الثانية فيكتب المنعّم المحجوب بن ميلاد عن لغة المسعدي في السدّ: ‘تطالع السدّ فتبهرك هذه اللغة المتينة التي تُذكّرك بأروع عصور العربية وأفصح أساليبها، تذكرّك بلغة الأصفهاني في أغانيه، ولغة التوحيدي في مقابساته وهي مع ذلك لغة فريدة، هي أدبنا العربي قديمه وحديثه”.
ويضيف: ” فما من عبارة يأتي بها المسعدي إلاّ ولها معناها، وظيفتها في الجملة كوظيفة مقاطع الشعر إن أردت إدخال أي تغيير على ترتيبها اختلّ الوزن وانتفى النغم”.

إيقاع اللغة عند المسعدي

وهذا ليس بالغريب عن رجل ولهان بلغة الضاد. يقول عنها ” إنّ من أخصّ خاصيات عبقريتها هو إيقاعها، فاللغة إنّما هي قبل كلّ شيء موسيقى”. وهذا هو الذي حدا به إلى البحث عن الإيقاع في العربيّة و”إلى محاولة ضبط سلفاجها”.
والجدير بالذكر أنّه كان سجّل بجامعة السوربون في باريس موضوع أطروحة تكميلية للأطروحة الأساسية حول أبي نوّاس تحمل عنوان ” الإيقاع في السجع العربي”. ولقد نشرت بتعريب هشام الريفي ورشيد الغزي من قبل مؤسّسات بن عبد الله عام 1996. وقد كانت نفس الدار نشرت ‘تأصيلا لكيان’ سنة 1979 وهو مجموعة من مقالات ودراسات ومحاضرات، أمّا كتاب “مولد النسيان” فلقد صدر عن الدار التونسية للنشر عام 1974.
ثمّ أصدرت دار الجنوب للنشر من ‘من أيّام عمران’ سنة 2002 من تقديم المختصّين الاثنين في أدب المسعدي: توفيق بكار ومحمد طرشونة صاحب كتاب ” الأدب المريد في مؤلفات المسعدي”.
أمّا عن الكتاب الحدث أبو هريرة قال، فلقد صدر مرّتين الأولى عن الدار التونسية للنشر سنة 1973 والثانية عن دار الجنوب للنشر سنة 1979.

مدرسة فريدة

يقول المنعّم توفيق بكار في هذا الصدد: ‘أبو هريرة من أقوى نصوص أدبنا المعاصر كتابة متجذّرة في صميم التراث نموذج من الإنشاء الفني المبتكر”. ويضيف: ” لا جدال في أنّ المسعدي رائد مدرسة فريدة في الأدب ظلّت سنوات طوالا بلا تلاميذ وتكمن طرافتها في كيفية المزج بين الماضي والحاضر والشرق والغرب”.
انتمى مترجمنا إلى مجمع اللغة العربية بعمان سنة 1987 وكان الأحرى أن يقع انتخابه في بقية المجامع وهو الذي كان بحسب شهادة الصديق عبد الواحد براهم في ” مجلة الفكر الحر” عدد 3 سنة 2012 والذي رافقه ردحا من الزمن: “شديد الاهتمام بنصوصه يبالغ في تدقيق الألفاظ واستوائها مع المعاني ويطلب الكمال في تركيب الجمل والتألق فيها مبنى ومعنى”.
ولكن تلك حكاية أخرى مثل حكاية جائزة نوبل التي أثارها الصديق حسن بن عثمان في الحوار الذي أجراه في العدد المائة من “مجلة الحياة الثقافية” سنة 2005 : ” أنا لا أرى فائدة في الاهتمام بموضوع نقاش تختلف فيه الآراء بدون حدود، أمّا ما هو رأيي في جائزة نوبل فهو أمر عندي لا قيمة له بتاتا”
من أقواله المأثورة:
” كن من تشاء، إنسانا ثائرا، أو صخرا صلدا، فأنت إلى الفناء صائر لا يرحمك إلا الله”.
” إنّ أمّة ليس لها أدب لأمّة خرساء ميتة أو صائرة إلى الموت من قبل أن تحيى”.
” لا يمكن اكتساب ملكة اللغة العربية بدون حفظ القرآن”.
“ليس في الحدود والعراقيل حدّ واحد ولا عقل واحد يعجز عن كسره العزم”.
لبّى محمود المسعدي نداء ربّه فجر يوم الخميس 16 ديسمبر 2004 ودفن رحمه الله بمقبرة الجلاز إلى جوار رفيقته الشريفة المتوفاة يوم 5 أوت 1990.
“أنا الحق يناديك
أنا الحبّ يناغيك
أنا الشوق طغى فيك
فكان رجع فكان الصدى
أيا حقّ لبيّك
تباركت لبيّك
حبيبي جلاليك
أنا الآن إليك”
حدّث أبو هريرة قال…

طالع أيضا: عيسى البكوش يكتب/ محمود المسعدي 1911 ـ 2004: رائد الفكر الوجودي في العالم العربي (1)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى