نوفل سلامة يكتب: كيف حققت عملية ‘طوفان الاقصى’ الوعي المتزايد بزيف قيّم وأفكار الحداثة الغربية

كتب: نوفل سلامة
اليوم بعد ما يقارب عن السنتين من الحرب على قطاع غزة ذو المساحة الصغيرة التي لا تتجاوز 360 كيلومتر مربع وهي مساحة أصغر من مساحة ولاية أريانة، وعلى شعبها المحاصر برا وبحرا وجوا من قبل الآلة الحربية الإسرائيلية…
وما خلفته من دمار في الأرواح والممتلكات و المباني والمنشآت المدعومة من طرف الغربي الأطلسي و المسنودة عسكريا وماديا ومعنويا من قبل الحليف الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد أقوى قوة عسكرية في العالم…
لا شيء غير القوة…
واليوم بعد كل الذي نشاهده حول العالم من أحداث خطيرة كان آخرها قيام الحرب بين إسرائيل وإيران برغبة منفردة من قادة الكيان والكيفية التي يُدار بها النظام العالمي الحالي، والذي تقوده أمريكا وحلفاؤها الغربيين، فإن القناعة التي ترسخت لدى جزء مهم من الشعوب الغربية وكل شعوب دول الجنوب هي أن العالم في هذا السياق التاريخي يُدار وفق منطق القوة ولا شيء غير القوة…
دعاية كاذبة
وتحديدا القوة المادية وأن كل الذي روجته الحداثة الغربية منذ قيامها وتشكل أفكار عصر الأنوار الأوروبية من أن الحضارة الحالية التي تسود العالم تقوم على العقل والعقلانية، وعلى المنطق العقلي وعلى احترام حقوق الإنسان الأساسية ومنها حقه في الحياة وحقه في اختيار نمط العيش الذي يرتضيه و يلائمه واحترام سيادة الدول من دون تدخل في شؤونها الداخلية ولا تدخل في اختياراتها وفرض الشروط والإملاءات عليها، وأن الخلافات تحل وتسوى وفق آليات عقلانية انشأت من أجلها مؤسسات وهيئات ومنظمات دولية ومنطق الإحترام المتبادل بعيدا عن أسلوب الفرض والغصب والاكراه، كل ذلك لم يعد له قيمة واتضح أنه زيف ودعاية كاذبة وخداع وتضليل مارسه هذا الغرب للسيطرة والهيمنة على الشعوب الأخرى الموجودة خارج فضائه الجغرافي.
نتائج غير مسبوقة
هذه الحقيقة قد تكون معروفة من قبل عدد الكثير من الأفراد والشعوب ولكن الجديد اليوم والذي جعل الحديث عنها يُعاد بقوة هو ما حققته عملية طوفان الأقصى من نتائج غير مسبوقة وهو حدث قيمته فيما حققه من حالة الوعي المتزايد لدى كافة شعوب العالم المحبة للسلام والمنتصرة للحق والتعايش السلمي بهشاشة الحضارة الغربية، وتهافت مقولات وأفكار عصر أنوارها وكل من انجزه فلاسفتها ومفكروها من رؤى وأفكار ونظريات تم إنتاجها ليحكم بها العالم بدعوى تفادي حالة التوحش والهمجية التي كانت سادت بين أمم الغرب والأمم الأخرى، قبل الحداثة وقبل عصر الأنوار الغربية وقبل إرساء النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية ونظامه للعولمة ومنظومة حقوقه الكونية وكل المنظومات الأخرى من أخلاق وقيم ومبادئ.
حدث غيّر المعادلة
اليوم رغم كل الدمار الذي حصل بعد عملية طوفان الأقصى وما خلفته من خسائر جسيمة في الأرواح والبنية التحتية فإن كل العالم يعترف أنه حدث غيّر جذريا معادلة الصراع الفلسطينية الإسرائيلية، وكشف للعالم كذبة إسرائيل الضحية وأعاد النظر في مسألة عقدة الشعور بالذنب التي يشعر بها الغرب تجاه الشعب اليهودي ولا زالت ترافقه وتتحكم فيه ومسألة التكفير عن خطيئته، ودفع ثمن ما حصل لليهود من محرقة على يد ألمانيا النازية المسألة التي عليها اليوم أسئلة كثيرة وكشف للعالم عدالة القضية الفلسطينية وعرى نفاق هذا الغرب المتحالف مع كيان يستعمر شعبا أعزل ويفتك منه أرضه ويمارس ضده إبادة جماعية اعترفت بها محكمة الجنايات الدولية وأقرتها منظمة الأمم المتحدة…
سؤال محوري؟
وجعل الشعوب الغربية تطرح لأول مرة سؤال لماذا و إلى متى نساند إسرائيل؟ وإلى متى نواصل في دفع كلفة المحرقة اليهودية؟ وبدأ السؤال التاريخي يطرح في الغرب هل نحن كشعوب غربية مطالبون بتأييد إسرائيل في كل جرائمها ملزمون بدفع الأموال لها ومساندتها عسكريا في كل ما تقوم به من إبادة وتهجير قصري وقتل جماعي وتدمير جنوني؟
اليوم شعوب العالم لم تعد تناقش كما يناقش قادتها مسألة شرعية أو عدم شرعية ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر 2023 من عملية عسكرية نوعية ضد الكيان الغاصب، وما نتج عنها من أسر لعشرات من الأسرى لأن هذه الشعوب تعتبر أن من يكون تحت الاحتلال ويعيش وضعا استعماريا من حقه تحرير أرضه بكل الوسائل ومن حقه مقاومة محتله..
حقيقة اسرائيل
اليوم هذه الشعوب وأمام تعري حقيقة إسرائيل وحقيقة هذا الغرب بدأت في إعادة النظر في كل النظام العالمي المتحكم وتطرح الأسئلة الكبرى المغيبة حول قيمة الحداثة الغربية وأفكار عصر الأنوار الأوروبية، وتطالب بالقيام بمراجعات جذرية لمنظومة أفكارها وحداثتها وأنوارها وما انتجته من معارف وتسائل منظومة قيّمها وأخلاقها التي سقطت أمام صمت العالم، وهو يشاهد ما يحدث لأطفال ونساء وشيوخ غزة وما يحدث من دمار لحق كل مرافق الحياة ويشاهد كيف يمنع ادخال الدواء والغذاء في عملية ممنهجة ومقصودة لتجويع السكان وقتلهم، وكيف تقصف المدارس والمستشفيات ومراكز الإغاثة وتتم تصفية الصحافيين لمنعهم من إيصال حقيقة ما يجري على يد دولة تدعي أنها كانت يوما ما ضحية إبادة على يد هتلر ونظامه النازي، وهي اليوم تحتل أرضا ليست بأرضها وتبيد شعبا مصرا على الحياة…
قلبت موازين الوعي
لكل ذلك كانت عملية طوفان الأقصى قد قلبت موازين الوعي لدى الشعوب وغيرت نظرتها تجاه القضية الفلسطينية وخاصة غيرت صورة إسرائيل في ذهنها ووعيها وترسخت لديها حقيقة الدولة المارقة والمجرمة.
قد يبدو في الظاهر أن طوفان الأقصى كان بمثابة مأساة جديدة تضاف الى كل المآسي المتكررة التي عانى منها هذا الشعب طوال تاريخه الطويل وأن تداعياتها كانت كارثية على جميع الأصعدة، لكن الذي يتناساه الكثير من الناس أن ما حققته هذه العملية وما خلفته من نتائج لم يكن أحد يتوقعه حيث أعادت بقوة إلى الأضواء المشكلة الفلسطينية التي أريد لها أن تقبر وملف أريد له أن يُغلق نهائيا وفرضت الاهتمام العالمي بأهميتها، والأهم من ذلك حققت وعيا غير مسبوق بعدالتها لدى الشعوب وكسبت تأييدا كبيرا مازال إلى اليوم آثاره بادية في كل الاحتجاجات التي تجوب شوارع العالم، وأنهت فكرة إسرائيل الدولة التي لا تُساءل ولا تُحاسب باعتبارها محمية من المساءلة وتفعل ما تريد وما تشاء من منطلق عقدة الذنب التاريخي التي كبلت بها العالم.
إيقاف قطار التطبيع
طوفان الأقصى أوقف عملية التطبيع العربية الإسرائيلية التي كانت في مراحلها الأخيرة رغم أنها لم تكن من ضمن الأهداف التي وضعتها حماس لهجومها ولا مبرر له، ولكن ما حصل أن العملية العسكرية لكتائب القسام قد أوقفت قطار التطبيع وكشفت كل المخطط وما يُحاك للمنطقة العربية، ورفعت الحرج عن الدول التي كانت مرغمة على التطبيع.
نهاية الأسطورة
طوفان الأقصى غيّر موقف العالم تجاه إسرائيل وأنهى أسطورة الدولة المارقة التي يتعاطف معها كل العالم وتفعل ما تريد وفرض معادلات جديدة للصراع العربي الإسرائيلي، وحقق وعيا حقيقيا بحقيقة الغرب الأطلسي وحقيقة النظام العالمي المتحكم وحقيقة المؤسسات العالمية التي انشأتها أمريكا وتقود بها العالم وتحكمه بها وحقيقة منظومة القيم والأخلاق والمبادئ الغربية وحقيقة نظرة الرجل الأبيض إلى باقي الشعوب الأخرى وحقيقة شعاراته عن الديمقراطية والحقوق والحريات…
والأهم من ذلك حققت وعيا متزايدا بأن الذي يحكم العالم اليوم ليست الأفكار والأخلاق والقيّم، وإنما الذي يحكم اليوم هو منطق القوة ولا شيء غير القوة .. اليوم كل شيء يُدار وفق هذه القاعدة ولا اعتبار لكل المعارف والأفكار والقيم التي سادت فترة عصر الأنوار وزمن الحداثة الغربية وزمن تشكل منظومة العولمة والنظام العالمي الحالي الذي اتضح أنه قائم على القوة المادية وعلى الزيف والخداع والتضليل ….