صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب/ علي بن عيّاد (1930-1972) أسطورة المسرح التونسي

issa bakouche
كتب: عيسى البكوش

علي بن عيّاد رجل موهوب، وموهبته هي أن يخدم المسرح، فتفرّغ له: إنّ إشعاعا ينبثق من شخصه و يستهوي خصومه أنفسهم … بحيث سيدخل علي بن عياد بفضائله ونقائصه إلى الأسطورة التي هي من خصائص المسرح »…

هكذا كتب المنعّم الشاذلي القليبي وزير الثقافة عن الفنان علي بن عياد المولود بمدينة حمام الأنف يوم 15 أوت عام 1930.
يقول عن نفسه في حديث لمجلة فائزة لشهر جوان 1960: ” في العاشرة من عمري أنجزت عملي المسرحي الأوّل وكانت تتمّ معاقبتي نتيجة ما أقوم به من تقليد”، ويضيف: ” حصلت على جائزة في مدرسة التمثيل العربي وظهرت صورتي في إحدى الجرائد ولقد أسعدتني بحق »…

أمّا عن طريقته في الإخراج فيقول: ” إنّي أعدّ مشاهد في بيتي بواسطة عساكر من الرصاص أضعها على ركح صغير”.

أحبّ العرض العظيم

وفي حديث آخر لمجلة جون أفريك بتاريخ 27 جويلية 1971 يقول: ” أنا أحبّ العرض العظيم، أحبّ المجازفة مثلما فعلته في مسرحية أوديب الملك لتوفيق الحكيم، و هملت لشكسبير بمناسبة تدشين مسرح الحمامات، كما أني أميل إلى إخراج نصوص لمؤلفين جدد مثل “صاحب الحمار” لعز الدين المدني.
ويضيف: “أنا لا أحب العقلية الدونية ولا الاستعلاء، صحيح أنا كثير الصراخ عليّ أن أقلّص من تشنّجي ومن قلقي”.
هذه الفقرات أوردها الدكتور محمود الماجري في كتابه “في شواغل التأسيس للمسرح التونسي” الصادر عام 2009 عن دار الحرية في الفصل الرابع الذي يحمل عنوانا مضيئا “في جماليات المسرح التونسي ومرجعيتها” ويفتتحه بما أسماه بيان علي بن عياد وهو منشور بمجلة الفكر عدد جويلية 1961 ويقول فيه المبدع الشاب: ” المسرح معبد بالنسبة لي .. فإذا أفسدت فيه صنعا … كفرت”.
هو ذاك الأيقونة التي عبرت زمانها كالشهاب وهو القائل وقوله عبرة للمتأخرين: ‘لو بلغ كلّ عمل شرعت فيه درجة الكمال لأصبحت الحياة مقلقة لا تطاق’.
لقد نذر علي بن عياد جلّ عمره القصير للفن الرابع ـ كدت أقول الرّائع ـ حتى انه اختصر مشواره المدرسي بالصادقية ليُحلق نحو الأفق الأرحب حيث سيشفي غليله من التعليم والتكوين بأعتى المدارس المهتمّة بالمسرح على غرار مدرسة René Simon بباريس وما أدراك ما هذه المحضنة لكبار الفنانين في فرنسا من أمثال Michel Piccoli وSerge Reggiani وRobert Hosein وAlain Resnais وMichelle Morgan وAnne Roumanoff.
ثمّ ولى وجهته نحو المشرق حيث تابع خلال عام 1955 بالقاهرة التدريب على الإخراج المسرحي ومن هناك عاد إلى باريس للتدرّب هاته المرّة في أعتى الفرق المسرحيّة آنذاك: المسرح الوطني الشعبي بقيادة Jean Vilar ثمّ ارتحل إلى أنقلترا والولايات المتحدة للاستكثار من الخبرة.

العقد الذهبي

وإثر عودته إلى تونس باشر العمل ضمن الفرقة البلدية كمساعد لمديرها محمد عبد العزيز العقربي ثمّ مديرا لها سنة 1963 لينسج العقد الذهبي لهاته المؤسّسة الرائدة في تاريخ المسرح ببلادنا، فأنجز ما لا يقل عن 30 عملا فنيا متفرّدا فكان يقدّم ما لا يقلّ عن ثلاثة عروض كلّ سنة فكان ممّا ليس منه بدّ أي أن ينال هذا المُلهم شرف افتتاح مهرجانات قرطاج والحمّامات والمنستير بل إنّه حلّق بفرقته عاليا خارج الوطن إذ أنه قدّم مسرحيّته مراد الثالث في مسرح الأمم بباريس و”يارما” بمناسبة ألفية القاهرة وبمهرجان بعلبك و”كاليغولا” بمهرجان بتهوفن بالنمسا.
يقول الصديق محمد المي في تقديم لكتاب وقع إعداده بمناسبة المعرض المخصّص لـ علي بن عيّاد خلال دورة 2024 لأيّام قرطاج المسرحيّة :” قياسا على التأريخ بقبل الميلاد وبعد الميلاد يصحّ أن نقول أنّ مسرح علي بن عيّاد هو لحظة ميلاد المسرح التونسي الذي أشعّ خارج الحدود ومثّل تونس في المحافل الدوليّة”.
كما أنّه حاز على شرف حضور الرئيس بورقيبة العروض الأولى لمسرحياته وخصوصا بالمسرح البلدي، ولقد كنت شاهدا على ذلك.

برز في السينما أيضا

لم يكتف بالركح لإبراز مواهبه بل برز في أدوار عدّة في ثمانية أشرطة سينمائية ومن أهمّها Mort trouble من إخراج فريد بوغدير وClaude d’Anna وAngelique et le Sultan من إخراج Bernard Borderie إلى جانب ذلك فلقد كان سخيّا لا فقط تجاه جمهوره بل وتجاه العاملين من حوله.
يقول الصديق علي بن العربي في كتابه المرجع “سياسات ثقافة التي نريد” الصادر عام 2017 عن دار سحر.
لقد فسح علي بن عيّاد المجال للممثلين العاملين إمّا لإخراج المسرحيات مثل محسن بن عبد الله الذي أخرج مسرحيّة “نحب نعرّس” وعبد المجيد لكحل الذي أخرج مسرحيّة ” ثمان نساء”.
ويضيف: ” لقد مكّن من أراد من ممثليه إجراء تجربة إدارة فرقة خارج البلدية على غرار جميل الجودي وعبد اللطيف بن جدّو للفرقة الجهوية بصفاقس ونور الدين القصباوي للفرقة الجهوية بسوسة.
وللتذكير فإنّ هذا الأخير هو الذي اقتبس المسرحية التي طبقت في الآفاق “الماريشال” من مسرحية Le Bourgeois gentilhomme لموليار هاته المسرحيّة التي كتب عنها وقتها أي سنة 1967 المؤرخ المنعّم حمادي الساحلي (أنظر مجلة الصادقية عدد 68): مثلت هاته المسرحية ظاهرة اجتماعية في تونس لم يسبق لها مثيل، ومن أسباب هذا التميّز هو عبقرية المخرج علي بن عيّاد الذي أضفى على المسرحية من خياله الخصب ما جعلها روعة من روائع الفنّ التونسي. هذه المسرحية قدّمت آخر مرّة بحضور المخرج “العبقري” يوم 4 فيفري 1972 بالمسرح البلدي.

لحظة وداع

يقول علي بن العربي “يومئذ خرج علي بن عياد عند رفع الستار مع الممثلين وحيّ الجمهور الذي رحّب به كثيرا وكانت فعلا لحظة وداع سافر إثرها إلى باريس لإجراء اتصالات قصد وضع اللمسات الأخيرة لمسرحيته عن الثورة الفلسطينية ولكن ما شاء الله فعل.
كما أنّ المنعّم رشيد إدريس الدبلوماسي والأديب كتب في صفحة 74 من كتابه الصادر عن دار التركي للكتب عام 1990 تحت عنوان ” أرق على أرق”.
“كان علي بن عيّاد الممثّل الشاب يقوم بدور البطولة في رواية Caligula لـ Albert Camus على ركح المسرح الأثري بقرطاج.
كان التمثيل بديعا والرواية تتقدّم إلى خاتمتها وفجأة وقع علي بن عيّاد على الركح، وحسب المشاهدون أنّ وقعته تقضي بها جنون الإمبراطور، لكن الحقيقة سرعان ما ظهرت فقد سقط علي بحكم علّة أصابته وكان منهك القوى بما قام به من مجهود وقد حُمل إلى مستشفى وتعافى من مرضه ثمّ عاوده الداء فلم يعمّره ومات شابا كما مات شباب جيرار فيليب الممثل الفرنسي الذي هيأ للمسرح رواية “كاليغولا” كذلك”.
وفعلا لقد فوجئ مترجمنا بباريس يوم السبت 12 فيفري بنزيف في الدماغ استوجب نقله إلى مستشفى Salpetrière بالدائرة التي الثالثة عشر لكن الأجل المحتوم وافاه عشيّة الاثنين 14 فيفري من سنة 1972 فأعيد جثمانه إلى تونس حيث دفن صبيحة الخميس 17 فيفري بمقبرة الجلاز.

لن ننساه

يقول الصديق الشاذلي بن يونس المحامي والرئيس الحالي لجمعية قدماء الصادقية في معرض حديثه عن تجربته المسرحية ومنها تقمّصه لدور في رواية صاحب الحمار من إخراج علي بن عيّاد على ركح رباط المنستير عام 1970: ” الخميس 17 فيفري 1972 لم يكن يوما كغيره من الأيّام، لقد اجتمعنا في بهو المسرح البلدي حيث وضع جثمان الفقيد علي بن عيّاد المودعين، وقبل نقله إلى المقبرة انطلاقا من المسرح البلدي قضينا وقتا طويلا معه قبل الوداع الأخير، ثمّ رافقته إلى مثواه الأخير وبقيت ذكراه عالقة فينا لم ولن ننساه”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى