صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ وقفة مع كتاب: ‘تعبير الوجدان في أخبار أهل القيروان’ لـ رشيد بوحولة

كتب: نوفل سلامة

هو مؤلف جديد صادر عن دار ‘نحن’ للإبداع والنشر والتوزيع سنة 2023 عدد صفحاته 277 صفحة يحكي أشواق الماضي وحنين أمجاد مدينة القيروان الخالدة…
هذه المدينة التي كانت في يوم من الأيام عاصمة العالم ومقصد العلم والمعرفة وهو كتاب حوى بين دفتيه نصوص لم تكتب بالحبر الأسود وإنما حبرت بماء المحبة العميقة والأشواق الدفينة… 

نصوص تحكي وجها آخر لأهل القيروان غير تلك التي نقرأ أو نسمع عنها في أخبار الزمن الراهن، وجه لا علاقة له بقيروان الحاضر وقيروان التهميش والفقر والحياة البائسة…

قادم من عالم الإعلام

صاحبه الأستاذ رشيد بوحولة القادم من عالم والإعلام والصحافة وأحد أبناء القيروان العاشقين لتربتها والمولعين بأسوارها و أحيائها وأزقتها و المهووسين بتاريخها وأمجادها وأهلها وأبطالها .. حاول أن ينقل للقارئ صورة القيروان الحقيقية بكل تفاصيلها اليومية .. قيروان الزمن الذي اختفى بكل تناقضاته وثنائياته التي تراوحت بين الخير والشر، الجمال والقبح، الموت والحياة، المقدس والمدنس و المستور وغير المستور ترويها حكايات أشخاص من عامة القوم وبسطاء الناس وشخوص تركت بصمتها في المدينة باقية ما بقيت هذه المدينة ودوّنت تاريخها حكايات حقيقة القيرواني في الأزقة والحوانيت وصحون المنازل وحديث المقاهي والباعة المتجولين و’الصنايعية’ والتجار وأصحاب المهن الصغرى والأماكن العامة..

إلمام واسع بالموضوع

ما يبهر في هذا المؤلف الذي يشدك إليه بمجرد تصفحه وبداية قراءته دقة الوصف والإلمام الواسع بالموضوع وجزئيات الأمور و الحكاية التي يرويه رشيد بلحولة حتى تخاله يختزل كل القيروان في شخصه أو أنه يجسد كل صورة من صورها أو فرد منها، ولعل الذي ساعده على ذلك وجعله يتقن نقل ما يرويه عن أهل القيروان نقلا أمينا صادقا يجعلك تعيش الحكايات رغم بُعد المسافة وعدم الالتقاء بأبطالها… عمله أثناء العطل المدرسية في مخبزة الحي وبائع خضار متجول، وغير ذلك من المهن الموسمية التي عادت ما يلجأ  إليها الصبية وتلاميذ المدارس في أوقات العطل ما جعله يخالط كل الفئات الاجتماعية ويلتصق بالمهمشين والمنسيين منهم وكل المتعبين في الحياة الذين أرهقهم طول السفر ويطلع على خفايا المدينة وخصوصيات أهلها..

 حكايات أهل القيروان

تعمد رشيد بوحولة أن يروي حكايات أهل القيروان البسطاء من دون عودة إلى مراجع تاريخية كما هي عادة من يروي سردية المدن القديمة فجاء حديثه عن أهل القيروان من جوانب متفرقة فيها المعيش المقلق والمفرح وفيها المعاناة اليومية للإنسان البسيط العادي .. جاء الكتاب سيرة الذات وحكاية الفرد وسردية المجموعة .. سيرة إنسان يحكي تراكمات التاريخ وتجربة الماضي والحاضر والتطلع إلى الأمل المفقود وحنين الأيام الخوالي التي يراها أفضل من أيامه الحالية وحكاية أناس تنّكرت لهم السياسة واحتضنتهم الذاكرة….

الأزقة الشاهدة

حكايات الأزقة الشاهدة على أصحابها ومن مر منها وحجارة الأسوار القديمة وأبواب الحوانيت العتيقة .. حكاية القيرواني بعين أخرى عين الإنسان الذي يسافر إلى الماضي السحيق لاستعادته وفهمه وإدراك حقيقته وحقيقة مدينته ليعيد ترتيب الحياة والوجود من رحم المكابدة والمعاناة هي رحلة في الأمكنة ولكنها رحلة في أغوار النفس العميقة التي تصنع بهجتها من أعاصير الزمن ومن عداء الطبيعة لها وقسوتها عليها…

يقول الروائي كمال العيادي المعروف بـ’الكينغ’ في تقديمه للكتاب ” إن تعبير الوجدان في أخبار أهل القيروان هو رحلة فاتنة بديعة بين أروقة وشخوص القيروان وعلاماتها .. وجوه قيروانية أليفة .. مجانين وعشاق وأولاد باب الله .. رحلة تجوب أمكنة متداخلة تعيد قياس المسافة بين الممكن والمستحيل .. وتتابع الحفر والحجارة المبلطة و البرزخ السري الممتد بين باب تونس وباب الجلادين”
تقرأ الكتاب فيحصل التيه بين باعة الفحم والقاز والتين الشوكي وبين صانع الحائك الأبيض والأسود وعم حسين القهواجي .. ويزداد الشرود شرودا وأنت تنصت إلى قصة المرأة ‘فافاني’ وطيفها الحاضر في الزمان والمكان، وكيف يصفها رشيد بوحولة ويدقق في تفاصيل جسمها ودقائق حركاتها وكيف يتعرض الى قسمات وجهها وشكلها وهندامها وهيئتها وهي ترتدي المريول فضيلة والفوطة والبلوزة، وعطرها السحري حتى ينتابك الاعتقاد بأنه يعيش معها وملازم لها الى الحد الذي يتذكر كيف أن آثار قدميها لا زالت بائنة في السقيفة وصحن الدار وفي كل مكان كانت ترداده في الجامع وأزقته الملتوية، وفي باب القدة وفي السوق وفي مقام أبي زمعة البلوي وفي مقبرة الجناح الاخضر وفي الكثير من الامكنة التي تشهد على غدوها ورواحها وهي تمشي الهوينى…

من الشرود إلى الدهشة

 ويتحول التيه والشرود إلى حالة من الدهشة…حين ينتقل الوصف في الحديث إلى إعداد قهوتها الصباحية من اشعال فتيلة الزيت في الكانون وسط قطع من الفحم إلى الززوة وهي تفيض على جنباتها وسكب القهوة في كأس بلوري تنشر فيه قطرات من ماء الزهر وكيف تعد الفقاقيع الصغيرة وتستنطقها فتنبئ بمال وفير ومرتقب…
قهوة ‘فافاني’ هي صورة من صور الروائح الكثيرة التي تعوض عناوين البيوت وأهلها والسبل التي يهتدى بها ويستدل فالرائحة في القيروان هي هوية المدينة وهوية الجسد وهوية الأنثى وكل العالم الروحي والمحسوس .. القهوة هي الحياة والبهجة واللذة والقتل والدمار والفناء..

‘فافاني’ قصة القيروان وحكاية غسل الصوف ومشروب الحلبة ونسج الزربية وجبة الحرير والجامع الأكبر وصبر أهاليها على مصاعب الحياة وانكسار قلبها لما تأسرها الخطوب ومع ذلك تظل رائحة القهوة قابعة في نفوسهم مترشحة عرق لا تدانيها أرقى العطورات في شذاها..
ماذا بقى من فافاني؟ بقي رنين المهراس وحلقة البئر والقصاع وزغردات الفرح والبهجة وذكريات طيفها تشرق الدنيا من روحها وصمتها الأبديين…

وبقي الحرف وبقيت المدينة .. والمدينة قدرها الحرف .. وفي نهاية المطاف هذه حكاية شذرات خيطها الناظم لروح مدينة تحكمها ثنائيات مناقضة تجسد شخصية القيرواني بتركيبته المتعددة تلبسه ميزة خاصة
هذه هي القيروان وهذه هي حكاياتها وهذه هي أسرارها وخفاياها وهذا هو تاريخها ونفسها العميقة كتبها رشيد بوحولة وعبر عنها بكثير من الحب والأشواق والألم والبهجة فصارت اللغة مطواعا وألبست القبح رداء جميلا ما يجعل هذه النصوص قابلة أن تتحول إلى عمل درامي في المسرح أو التلفاز أو السينما…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى