صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب/ الدكتور سليمان بن سليمان (1905-1986): مثال الدستوري اليساري ومآله

ISSA BACCOUCH
كتب: عيسى البكوش

منذ مائة وعشرين عاما ولد أحد زعماء الوطن الذين نذروا حياتهم لتحريره ولم يبتغوا جزاءً ولا شكورا وهو من الذين تناستهم السرديّة الرسمية. ولكن مثلما هو معلوم فالتاريخ لا يرحم من نظموا هاته السردية بخيوط العنكبوت.

هو سليمان بن محمد بن سليمان المولود بزغوان يوم 13 فيفري 1905 في عائلة متوسطة الدخل.
يقول عنها هو نفسه في كتابه “ذكريات سياسية” الصادر عن دار سيراس عام 1989:” كانت عائلتنا بأكملها مسيّسة تلقائيا” وفعلا فلقد حُكم على شقيقه قاسم من قبل سلطات الاحتلال بستة أشهر سجنا لأنه تمنّى قدوم الألمان أعداء الفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى”.

التحق بالصادقية

ثمّ جاء دور الطفل سليمان لما التحق كتلميذ مقيم بالمدرسة الصادقية عام 1919 فكانت هذه هي المحطة الأولى في مسيرته النضالية من أجل استقلال البلاد.
ولقد روى ذلك ابنه الصديق المنصف في محاضرة ألقاها على منبر جمعية القدماء بمناسبة مرور 150 سنة على تأسيس هذا الصرح.
ولقد كانت صورة والده تزدان بها ـ إلى جانب أقرانه في الصادقية ـ جدران القاعة الكبرى للمقر التاريخي للجمعية بنهج دار الجلد بالحاضرة.

المدرسة عاقبته

ولقد سرد على الأسماع ما خطّه والده من الوقائع التي شارك فيها هذا التلميذ المتحمّس والمتألق في آن فلقد نجح في المرتبة الأولى في شهادة ختم الدروس سنة 1925 ولكن ذلك لم يسمح له بمواصلة تعليمه بمعهد كرنوا للحصول على شهادة الباكالوريا لأن إدارة المدرسة ارتأت عقابه، عما بدا منه من “تشويش” وتحريض خاصّة عندما كان هو ورفاقه بين مظاهرة مساندة للباي الناصر عند تهديده بالتخلي عن العرش إن لم تستجب سلطات الاحتلال لمطالب الوطنيين، وكان ذلك يوم 04 أفريل 1922…

سافر إلى باريس

وكذلك انخراطه بمبادرة من التلميذ “المسيّس جدّا” الحبيب جاء وحدو في صفوف الحزب الدستوري بزعامة عبد العزيز الثعالبي، فاضطرّ الفتى للسفر إلى فرنسا لإحراز ما لم يتمكن منه في تونس، وكان له ذلك فالتحق بكلية الطب بباريس هذه المحطة الثانية والمؤثرة في حياته السياسية إذ أنه سرعان ما انخرط في جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين التي تأسّست عام 1927 وأصبح منذ سنة 1930 من أبرز أعضائها إذ وقع تكليفه بإدارة المطعم الجامعي التابع للجمعية، كما أنه انتدب للمشاركة في لجنة النظام الجديد لجامعتي الزيتونة في تونس والقرويّين في المغرب إلى جانب الحبيب ثامر ومحمد الفاسي وذلك إبّان المؤتمر الثالث للجمعية المنعقد بباريس في شهر ديسمبر 1933.
ولقد قام يوم 05 أفريل 1930 بتنظيم لقاء صلب الجمعية احتفاءً بمسيرة 05 أفريل 1922 التي مثّلت بالنسبة إليه النواة الأولى للنضال ضدّ المستعمر فوقع حرمانه من الإقامة بالحي الجامعي ومن القرض الشرفي.

مع بورقيبة

كما التحق بن سليمان بجمعية نجم شمال إفريقيا وارتقى سنة 1935 إثر هروب رئيسها مصالي الحاج إلى دفّة القيادة صحبة الهادي نويرة ولقد ساهم في تحرير لسان حال الجمعية “الأمة” واصطحب بصفته تلك الزعيم الحبيب بورقيبة عند قدومه إلى باريس للقاء كاتب الدولة المكلف بالمستعمرات Pierre Vienot يوم 14 جويلية 1936.
ولقد سبق له أن أسّس غداة اعتقال الحبيب بورقيبة في 03 سبتمبر 1934 لجنة في فرنسا للدفاع عن الحريات بتونس وكان من جملة أعضائه الهادي نويرة ومحمود المسعدي وعلي البلهوان وصلاح الدين بوشوشة وعبد الوهاب باكير.
ولقد قامت هاته اللجنة بعمل دؤوب كتنظيم اجتماعات ونشر فصول من جريدة “لوموند” مما أزعج السلطات التي حاصرت هذه المجموعة وأحكمت تطويقهم.
ولكن كلّ ذلك لم يمنع بن سليمان من مواصلة النشاط صلب عدد من الجمعيات المناهضة للاستعمار والحرب كـ الرابطة ضد التعسّف الاستعماري والهيئة الوطنية ضد الحرب ورابطة الدفاع عن السود.

مهووسا بقضايا أمميّة

لقد أصبح صاحبنا مهووسا لا فحسب بالقضية الوطنية بل بقضايا أمميّة، أمّا بالنسبة لنشاطه صلب الحزب الدستوري الجديد الذي انتمى إليه منذ اللحظة الأولى فلقد كان يعدّ العدة قبل عودته إلى أرض الوطن لتأسيس أوّل شعبة دستورية في باريس وهو ما تمّ من بعده. ولقد كان تحدث مع الزعيم بورقيبة في ذلك الشأن فوافقه في فرنسا منذ يوم 11 سبتمبر 1934.
وعند عودته قام بتأسيس الشبيبة الدستورية التي تحصلت على التأشيرة القانونية يوم 6 أوت 1936 وقد ترأّسها فيما بعد الصادقيان محمود المعموري و حسيب بن عمار ومن قبلهم كان محمد العيد الجباري أسّس الشبيبة الدستورية الجديدة، ولكن لم ينل وجودها الاعتراف الرسمي.

اعتقالات قبل انتفاضة 9 أفريل

انضّم سليمان بن سليمان لعضوية الديوان السياسي وذلك أثناء المؤتمر الثاني للحزب المنعقد بنهج التريبونال من 30 أكتوبر إلى 02 نوفمبر 1937، إلى جانب ذلك فقد ترأّس شعبة الحلفاوين قبل أن يقع اعتقاله صحبة يوسف الرويسي واقتياده إلى سجن سوق الأربعاء وكانا متوجّهيْن إلى وادي مليز لعقد الاجتماعات التي دعا إليها الحزب لتحريك السواكن، كان ذلك يوم 4 أفريل 1958 فكانت فاتحة الاعتقالات التي مهّدت لانتفاضة 9 أفريل.
فقضى صاحبنا خمس سنوات من عمره بين المنافي والسجون ولقد أصابه المرض في سجن Fort Saint Nicolas بمرسيليا.
بعد إطلاق سراح قادة الحركة التحررية عاد بن سليمان للنشاط صلب الحزب ولكن يصطدم بمواقف الكاتب العام صالح بن يوسف والفاعل الأساسي في غياب رئيس الحزب الحبيب بورقيبة في القاهرة، فبينما كان بن يوسف يميل إلى العالم الرأسمالي كان بن سلمان منتصرا للمعسكر الاشتراكي ممّا جعل الأوّل ينعت الثاني بالشيوعي.
يقول الحبيب بورقيبة الابن في الكتاب المشترك مع محمد كرو Notre histoire الصادر عن دار سيراس عام 2013 :”لقد كنت مساندا لسليمان بن سليمان ولعلّ ذلك ممّا دفع صالح بن يوسف إلى التوجه لوالدي عند عودته عام 1949″ أبشّرك بأنّ ابنك أصبح شيوعيا فلقد تحالف مع بن سليمان” ص113.

تم رفته من الحزب

وسوف يحتدّ الخلاف إلى أن يتمّ رفته إثر عدم انصياعه بمغادرة لجنة الحرية والسلم التي شارك فيها الحزب، ثم انفصل. تمّ ذلك القرار يوم 18 مارس 1950 والذي أغضب عددا من الطلبة الدستوريين في فرنسا ومن ضمنهم الحبيب بورقيبة الابن والبشير بن يحمد اللذين أنكرا على الديوان السياسي اتخاذ مثل ذلك القرار الذي يمثل تجاوزا للقانون الداخلي.
وهكذا وقع إجهاض التيار الدستوري اليساري وهو ما ستكون له تداعيات على مستقبل الحزب ومستقبل الديمقراطية في البلد.
لكنّ ذلك لم يفتّ في عزيمة هذا الرجل الفذ، فلقد واصل نضاله صلب اللجنة التونسية للحرية والسلم وأصبح اسمه رديفا للاندفاع من أجل السلم في العالم وكذلك الشأن بالنسبة للجنة التونسية للعفو عن السجناء السياسيين.
ثمّ بدا له سنة 1960 صحبة ثلة من أهل الفكر بعث مجلة شهرية تحمل اسم “منبر التقدم” La tribune du progrès تواصل صدورها إلى سنة 1962 فوقع إيقافها بحكم قضائي يوم 29 جانفي 1963 فولى وجهه إلى بعث لجنة مساندة الشعب الفيتنامي وكان من بين أعضائها الدكاترة الهاشمي العياري وأحمد بن ميلاد وزهير السافي وسليّم عمار والأستاذان محمد الشرفي و هشام سكيك.
ولكن كالعادة تعرّض بن سليمان للمضايقات فطالته آلة الزجر فعزل من شغله كطبيب في قسم طبّ العيون بمستشفى الحبيب ثامر.

رحل بن سليمان

وهكذا طويت آخر صفحة من كتاب هذا الوطني الأغر الذي غادرنا يوم 24 فيفري من سنة 1986 ودفن بمقبرة الجلاز ولكن لم يوارى جثمانه تربة الزعماء فهل يكون الوقت قد حان لتلافي الأمر وإيتاء المرحوم المقام الذي هو به جدير.
كان طوال حياته منحازا للضعفاء والمساكين والفقراء والكادحين.
جازاه الله خيرا وأسكنه فراديس جنانه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى