نوفل سلامة يكتب: السياقات الاستراتيجية لعملية طوفان الأقصى..

كتب: نوفل سلامة
هل كان لا بدّ على كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس أن تقوم بعملية طوفان الأقصى التي أنتجت ردة الفعل المجنونة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وتسببت في تدمير كبير لمدينة غزة وتهجير قصري للأهالي وقتل الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين وصل إلى حد الإبادة الجماعية؟
وهل أحسنت المقاومة الفلسطينية وفصائلها المسلحة التصرف والاختيار حينما باغتت العدو الإسرائيلي وهاجمته في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة وفرضت عليه حربا من أجل ردع عربدته و همجيته؟
هل حققت أهدافها؟
وبمنطق التاجر ومعيار الربح والخسارة هل حققت حماس أهدافها المعلنة وغاياتها التي من أجلها تأسست وهي مقاومة المحتل الإسرائيلي وتحرير الأرض المغتصبة وتأسيس الدولة الفلسطينية فوق حدودها التاريخية؟
كانت هذه بعض الهواجس والأسئلة القلقة التي انتابت بعض المتابعين للصراع الذي يدور اليوم بين حماس وإسرائيل في علاقة بالمآلات القريبة والنتائج الحينية التي انتهى إليها خاصة فيما يتعلق بمآل الهدنة التي أوقفت الحرب وفتحت المجال لعملية تبادل الأسرى بين الجانبين؟
أسئلة حائرة
اليوم وبعد مضي ما يُقارب عن الشهرين من قيام عملية طوفان الأقصى فإن الأسئلة الحائرة تنظر إلى حجم الدمار الذي لحق المباني ومركزة على حجم الخسائر في الأرواح الذي حصل لأهل غزة الكثير منهم لا يزال إلى حد اليوم في عداد المفقودين تحت ركام المباني المهدمة فضلا عن توقف كل مظاهر الحياة للسكان ومعها توقفت كل الخدمات وخاصة الطبية منها جراء تعرض جميع المستشفيات إلى القصف بالصواريخ ما جعلها خارج الخدمة وفاقدة لكل المستلزمات الطبيّة….
هل قرأت التوازنات؟
السؤال اليوم الذي تطرحه جانبا من النخبة الحداثية التي لم تكن متحمسة لما تقوم به المقاومة الإسلامية في غزة يركز على صورة النتائج الآنية وصورة الوضع الحالي الصادم وحجم الخسائر الكبرى التي ارتكبتها إسرائيل ولسان حالهم يقول هل خططت حركة حماس جيدا للمعركة؟ وهل قرأت حسابات الفعل وردة الفعل في علاقة باختلال موازين القوى وتفوق الآلة الحربية الإسرائيلية؟
وهل قرأت حساب التوازنات الإقليمية والعالمية التي لم تكن في صالحها وتعاديها؟ وفي الأخير هل كان لا بد من القيام عملية عسكرية بكل تلك الحجم في ذلك التوقيت الذي اختارته المقاومة؟
البُعد الاستراتيجي الكبير
يقول الفيلسوف الروسي ” الكسندر دوغين ” في تعليقه على حرب غزة لا يمكن فهم حرب غزة ولا يمكن استيعاب ما يدور في منطقة الشرق الأوسط من صراع بين القوات المسلحة التابعة لحركة المقاومة الفلسطينية والدولة الإسرائيلية إلا إذا تجاوزنا النظرة الضيقة التي تحصر الصراع في المسألة الإقليمية لا غير و تتغافل عن ربطها بأبعادها الحقيقية وبعدها الاستراتيجي الكبير، وهو أن ما تقوم به حركة حماس يندرج في الخط العام الذي سارت عليه الكثير من قوى الحرية والتمرد في العالم وحركة الرفض الصاعدة للتخلص من قوى الهيمنة العالمية المتحكمة في مصائر الشعوب والتخلص من المنظومة العالمية الظالمة التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية وتقودها أمريكا وحلفاؤها الغربيين »..
السياق التاريخي والاستراتيجي
وهذا يعني أنه لا يمكن فهم العملية العسكرية لعملية طوفان الأقصى إلا إذا وضعنا هذا الحدث في سياقاته التاريخية وسياقاته الاستراتيجية التي تجعل من المحتم وقوع عملية عسكرية ضد إسرائيل وتفرض على المقاومة الفلسطينية التحرك وفعل أي شيء من أجل تغيير المشهد القائم وتشكيل مشهد آخر.
السياق الاستراتيجي الأول هو سياق المخطط الأمريكي الإسرائيلي لتنفيذ مشروع صفقة القرن وبرنامج إفراغ غزة من سكانها لإعادة تشكيل المنطقة بما يحقق الأهداف الاقتصادية والسياسية من أجل عزل الصين وروسيا وهو مشروع ضخم يرمي إلى إنشاء ميناء بن غوريون التجاري الذي سيعوض ميناء سيناء لبناء خط حديدي بين تل أبيب والهند يمر على جزء من أراضي غزة.
السياق الآخر هو سياق ما شهدته القضية الفلسطينية من تراجع الاهتمام بها وفتور مركزيتها في النظام الإقليمي كأولوية لدى الشعوب والأنظمة العربية التي تعتبر اليوم تحرير فلسطين مطلبا سياسيا غير معنية به وهذا السياق يقود بالضرورة إلى برنامج التطبيع الذي خضعت له معظم الأنظمة العربية واتفاق السلام الإبراهيمي الذي يراد له أن يكون بديلا عن الحل النهائي للقضية الفلسطينية مع إبقاء الحال على ما هو عليه واختزال المسألة الفلسطينية في مجرد تحسين الحياة اليومية للشعب الفلسطيني.
هشاشة السلطة الفلسطينية
من السياقات الأخرى المهمة لفهم الصراع الذي يدور اليوم سياق هشاشة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وحركة فتح وضعف تمثليتها للشعب الفلسطيني وعجزها عن التعامل مع هذه السياسات التي يخطط لها الغرب والخيارات السياسية للقوى الدولية والإقليمية والدولة الصهيونية وخاصة مسعى قوى الهيمنة العالمية والإقليمية تحويل الملف الفلسطيني إلى ملف إداري واقتصادي والتعامل مع قطاع غزة من منظور انساني وتحول القضية من قضية شعب محتل يناضل من اجل حريته الى مجرد ملف انساني نتعامل معه وفق رؤية الإعانات والمساعدات الخيرية.
وسياق ما حصل من تطور لقدرات المقاومة العسكرية وما أصبحت عليه كتائب عز الدين القسام وفصائل المقاومة الأخرى من قوة حربية والحرص على إعادة القضية الفلسطينية الى واجهة الأحداث والاهتمام العالمي وإعادة الملف إلى مركزيته كأولوية كبرى خاصة بعد عودة خط الممانعة الذي تصدع بعد سنة 2011 جراء الحرب في سوريا وعودة الترميم لمكونه.
هذه تقريبا أهم السياقات الاستراتيجية التي رافقت عملية طوفان الاقصى وهذه هي المناخات التي سبقت وهيأت الظروف حتى تقوم حماس بهذه الخطوة النوعية في مسار الصراع العربي الاسرائيلي ومن دون استحضار لكل هذه الملابسات والسياقات فإنه لا يمكن فهم كيف ولماذا قررت حماس الدخول في حرب ضد إسرائيل في ذلك التوقيت الذي اختارته.
نظرة ضيقة؟
ما أردنا قوله هو أن النظرة الضيقة التي يبديها البعض بخصوص النتائج الآنية والمخلفات المباشرة للحرب مع إسرائيل بعد خمسين يوما من الحرب مردها عدم استحضار السياقات الاستراتيجية التي اجتمعت وحتمت على المقاومة وقف قطار التطبيع وإفشال برنامج بناء طريق حرير جديد يعوض الطريق الحرير القديم وفضح برنامج السلام الإبراهيمي وإعادة الاهتمام بالملف الفلسطيني بعد أن خفت بريقه وفرض قضية الشعب الفلسطيني المحتل على المنتظم الدولي من أجل التوصل إلى حل وتسوية نهائية وعادلة.
إحلال نظام عالمي بديل
أمام كل هذه المناخات وهذه السياقات وما يخطط له العدو لقبر القضية الفلسطينية الى الابد كان لا بد على المقاومة الفلسطينية أن تقوم بعملية عسكرية من نوع طوفان الأقصى من دون كثير اعتبار لردة فعل العدو وكلفة تحدي الآلة الحربية الإسرائيلي على الداخل الفلسطيني وما يمكن أن يحصل لـ غزة وسكانها من أضرار فتحرير الأرض والوطن له كلفته في زمن تعاون فيه الجميع للتخلص من القضية الفلسطينية.
يقول الفيلسوف الروسي ” ألكسندر دوغين ” اليوم يدور الحديث حول صراع إقليمي، ولكن إذا نظرنا للمسألة بعمق أكثر ووضعناها في اطارها الاستراتيجي العالمي فإننا نجد أن ما يحصل في غزة كما في أوكرانيا له معنى مختلف تماما ففي نهاية المطاف ما يحصل اليوم هو صراع من أجل القطع مع نظام عالمي تهيمن عليه قوى ظالمة منافقة منحازة والنضال من أجل إحلال نظام عالمي بديل يكون أكثر عدلا وانصافا للإنسانية ويرجع الحقوق للشعوب المضطهدة.
وفق هذه الرؤية الاستراتيجية وسياقاتها مناخاتها التي ذكرناها وتخيم على العالم ودول الإقليم فإن ما قامت به حركة حماس وجناحها العسكري كان عملا لا بد أن يقع رغم الكلفة الباهظة لردة فعل دولة الاحتلال.