صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: نظام عالمي قديم يتصدع وأزمة في البحث عن البديل والمخرج…

slama
كتب: نوفل سلامة

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية أن النظام العالمي الحالي والذي تأسس في منتصف الأربعينات من القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من الدول الغربية الذين يشكلون الاتحاد الأوروبي ومنظمة الحلف الأطلسي الهيئة العسكرية التي جعلت لحفظ الأمن والاستقرار في مناطق النزاع والتوتر حول العالم والذي وعد بتحقيق الأمن للشعوب، أنه نظام بدأ يتصدع…

وبدأ هذه النظام يعرف حالة من التمرد عليه وحالة من الخروج عن مساره ونهجه الذي رسم له كقوة عالمية مالية وتجارية واقتصادية وسياسية وعسكرية تقود العالم وتفرض الانصياع لها والتقيد بخياراتها…

قطب واحد

حيث أوضحت هذه الحرب أن الكثير من الدول غير راضية على السلوك المتبع في إدارة العالم وأن صورة عالم بقطب واحد وقيادة واحدة لم يعد ممكنا ولا متاحا وقد تأكدت هذه القناعة بعد اندلاع الحرب على مدينة غزة من طرف الكيان الإسرائيلي الغاصب وحلفاؤه من الغربيين على خلفية عملية طوفان الأقصى التي قامت بها الفصائل الفلسطينية المسلحة في نضالها من أجل استقلال فلسطين والاعتراف بحق شعبها في أن تكون له دولة حرة ومستقلة.

متغيرات عالمية

لكل هذه المتغيرات العالمية والتطورات التي يشهدها النظام العالمي الحالي وطبيعة التحولات الممكنة والتي سوف يشهدها العالم في قادم السنين، نظمت ” المكتبة العمومية بمنطقة النصر” من ولاية أريانة ندوة فكرية أثثها سفير تونس السابق في الأمم المتحدة السيد المنصف البعتي، وتولى تقديمها وإدارة النقاش والحوار الدبلوماسي الأسبق أحمد ونيّس وحضرها عدد من مثقفي الجهة وسفراء سابقين.

وضعية النظام العالمي

في هذا اللقاء الفكري قدم المنصف البعتي عرضا مفصلا ودقيقا حول وضعية النظام العالمي الحالي وظروف تشكله وطبيعته و المآزق التي انتهى إليها بعد سنوات طويلة من التطبيق عرفت تأرجحا بين تحكم نظام القطب الواحد ونظام القطبية الثنائية وما تشهده اليوم مؤسساته وهياكله وبناه المالية والحقوقية والاقتصادية من تصدع كهيئة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها كـ مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية ومنظمة الصحة العالمية التي فقدت مصداقيتها أمام غطرسة الإبن المدلل الكيان ودولته الغاصبة، وتحكم أمريكا في هذه الهياكل وسيطرتها على الهيئات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي الأدوات التي تتحكم في مصائر الدول والحكومات والتي تعرف اليوم معارضة شديدة من قبل العديد من الدول لطبيعة عملها وتدخلها في سيادة الدول وتوجيه خياراتها السياسية وفرض أنماط عيش على الشعوب لم تخترها في مواصلة للهيمنة القديمة التي بدأها الاستعمار القديم، ويواصل فيها هذا النظام العالمي الذي بدأ اليوم يفقد مصداقيته وثقة الشعوب فيه وقدرته على معالجة القضايا الكبرى التي تمثل هواجس الإنسان المعاصر كـ تنامي ظواهر الفقر ونسب البطالة وفقدان الوظائف وتمدد حالة البؤس والتهميش وتراجع الوضع الصحي، وفقدان العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة وعجزه على مقاومة الظواهر الجديدة التي انتجها تغير المناخ في مجال الطاقة وارتفاع حرارة الأرض وتراجع الموارد المائية والتلوث بجميع أنواعه وكل المشاكل الايكولوجية المعروفة…

الإنسان الآلي

وآخر هذه التحولات الخطيرة مسألة الإنسان الآلي الذي يقدم اليوم على أنه المعوض للإنسان العادي في الكثير من الأعمال والوظائف والخدمات وإمكانية تحكمه في كل شيء بعد أن يتم الإعلان عن موت الإنسان الطبيعي والطفرة التي يعرفها مجال التكنولوجيا في العالم، والتي يخشى منها أن تصبح منفلتة ويصعب السيطرة عليها.

انعطافة مؤثرة

كل هذه المشاكل وكل هذه التحولات التي رافقت تشكل النظام العالمي الحالي والتي كشفت عنها الحرب الروسية الأوكرانية وحرب غزة حتمت البحث عن طريق جديدة للتفكير وعن شرعيات أخرى لتبرير الوجود وحتمت النظر بوضوح أكثر خاصة وأن الإنسانية في راهنها تعيش زمنا مفصليا وتعرف انعطافة مؤثرة وخطيرة أوضحت أنه لم يعد من الممكن أن نواصل في تبني نظام عالمي يقوم على قطب واحد متحكم وأن الرغبة متجهة نحو نظام متعدد الأقطاب يكون أكثر عدلا وإنسانية ولكن القلق الذي رافق هذا التفكير يتمثل في التنبه إلى أن المرور من نظام إلى آخر عواقبه غير مضمونة وكلفته قد تكون عالية مع الخوف أن تعرف هذه المرحلة الانتقالية حالة من التأرجح والفوضى وحالة من اللايقين دائمة وحالة من فقدان التوازن بين القوى الفاعلة.

عالم ظالم وغير آمن

الحقيقة الواضحة اليوم أمام ما نشاهده في طريقة التعاطي مع القضايا الإنسانية العادلة ومع ما حصل مع المنظمات والهياكل التي جاء بها النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها الغربيين أننا نعيش عالما ظالما وغير آمن ونظام متنكرا لقيمه ومبادئه ومتجاوز لهياكله ومؤسساته التي يقوم عليها وتمثل مصدر قوته وشرعيته.
أمام هذا الوضع تعالت الأصوات منذ فترة تطالب بتجاوز مرحلة النقد والتشريح للمنظومة العالمية المطبقة والانتقال إلى المرحلة العملية والتفكير في كيفية ارساء نظام جديد بقواعد جديدة وبفاعلين جدد وبدأ هذا التوجه يظهر بكل وضوح ويفصح عن نفسه علنا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وما رافقها من تصريحات صادرة عن قادة دول الجنوب وروسيا والصين تعلن عن ضرورة ميلاد نظام كوني بديل تقوده روسيا والصين ويضم عددا من دول أمريكا الجنوبية والإفريقية وانضمام الهند ودول أخرى لها وزنها والتي تشكل اليوم منظومة البريكس و منظومة العشرين وهي قوة مالية واقتصادية كبرى تضم تقريبا حوالي 48 % من مجموع سكان العالم وقد زاد هذا التوجه وضوحا مع إعلان روسيا عن فك ارتباطها مع الدولار واليورو العملتان العالميان في المتبعتان في التبادل التجاري بين الدول والإعلان عن فتح طريق جديد لسلاسل المبادلات الغذائية وبيع الغاز والمنتجات الفلاحية لا يمر عبر التراتيب التي أقرها النظام العالمي الحالي.

تحول كبير

هذا التحول الكبير وإن كان يدل على حدوث تحول كبير في النظام العالمي ورغبة في إرساء قواعد حوكمة جديدة إلا أنه يظهر تخوفات كبرى في معرفة مآل هذه التحولات وطبيعة النظام المرتقب وهل فعلا نحن على اعتاب منظومة عالمية جديدة بقيادة جديدة تكون أفضل وأكثر عدلا؟
حول هذا الهاجس يعتبر المنصف البعتي أن العالم يعيش مرحلة حرجة نتيجة صعوبة الميلاد الجديدة وتعثر الوصول إلى حل لمعضلة النظام العالمي الحالي ويبسط ثلاث خيارات ممكنة متاحة هي اليوم مدار نقاش واسع.
الخيار الأول يتمثل في مواصلة الاعتماد على النظام الحالي مع إدخال جرعات تحسين جديدة عليه وإصلاح مكونه وهياكله والعمل على تحقيق مزيد من التكامل والانفتاح كما هو الحال اليوم فيما يقوم به الاتحاد الأوروبي من درس مقترحات لاستيعاب ست دول من منطقة البلقان بالإضافة إلى أوكرانيا ومولدوفيا وهذا ما عبر عنه وزير خارجية النمسا ألكسندر شالنبرج عندما قال ” التوسيع ليس مسعى بيروقراطيا إنه يتعلق بتصدير وحماية أنموذج معين من الحياة في الديمقراطيات الغربية الحرة المنفتحة ” وعبرت عنه رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين عندما دعت إلى اتحاد أوروبي موسع يقدم ” إلتزامات أمنية ذات مصداقية ” وهذا ما حصل في حلف شمال الأطلسي المعاد تنشيطه عندما احتضن مؤخراً كل من فنلندا والسويد.

نظام عالمي جديد

الخيار الثاني وهو الذهاب نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب لا يهيمن عليه الغرب يكون للصين وروسيا ودول أخرى دور ومكانة متقدمة فيه كالهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وقد نجحت الصين في تبني هذه الرؤية وتقديمها للعالم على أنها هي طريق الخلاص مما تعيشه الإنسانية في ظل النظام الحالي ونجحت في جلب دول الاتحاد الأفريقي إلى صفها وإلى عضوية مجموعة العشرين وتوسيع مجموعة البريكس وانفتحت على العالم العربي وأغرته بالانضمام إلى الحلف الجديد وهذا ما حصل مع السعودية ومصر ودولة الإمارات فضلا عن منظمة شنغهاي الأسيوية للتعاون وتوجهت نحو إعادة تشكيل البنية المالية العالمية عبر البنك الآسيوي للاستثمار وتحويله إلى بنك دولي يكون البديل للصين والدول المتحالفة معها.

قوة اقتصادية لا سياسية

المشكل في هذا الخيار أنه رؤية اقتصادية أكثر منها رؤية سياسية وعبارة على نظام عالمي بديل يكون قوة اقتصادية ومالية لا غير أما أن يتحول إلى نظام مكتمل العناصر وخاصة عنصره السياسي وبقيادة الصين وروسيا بدل أمريكا والغرب فهو مطمح غير مطروح ولا تتحمس له الصين التي ترى قوتها في بقاء النظام الحالي ضعيفا وهي تستمد مكانتها المتقدمة من الوضع الحالي أما أن ينتقل كل الثقل والقيادة إليها ووراثة كل مشاكل العالم التي سوف تنتقل بالضرورة إليها فهذا أمر غير مطروح على الأقل في الوقت الحاضر هذا فضلا على أن بناء نظام عالمي جديد بقيادة روسيا والصين والهند وغيرها هو مسار حوله الكثير من التحفظات وتشوبه الكثير من المخاوف الطبيعة الاستبدادية المعادية للحريات التي عليها النظام الصيني والروسي والهندي بما يعني أن هذا النظام البديل لن يكون أفضل للبشرية والإنسانية من نظام تقوده أمريكا مع غياب الضمانات من أن العالم سوف يكون أفضل مع الصين وروسيا.

مخاوف كامنة

ما يثير المخاوف بخصوص هذا الخيار في تشكل نظام عالمي جديد بقيادة روسيا والصين أنه مجرد تعديل في ممارسة السلطة والنفوذ حول العالم وأنه نسخة أخرى من التنافس على خيرات الشعوب ونهب ثرواتها وهو لن يكون أفضل في تأسيس عالم يكون أفضل وأكثر أمانًا ويحقق العدل للجميع والرفاه للبشرية بأقل حروب ومجاعات وفقر وبطالة، وتهميش واحتراما للبيئة والطبيعة.
أما الخيار الثالث فهو رؤية تقدمها الدول المتأرجحة التي لم تحسم أمرها في هذا الصراع المحموم حول من يقود العالم ومن يتحكم فيه ومن يقدم أفضل عرض للإنسانية وهو خيار يقصى فرضية التصادم ويقترح إجراء إصلاح واسع وكبير في هياكل الأمم المتحدة للوصول إلى عالم أكثر عدلا وإنسانية واحتراما لحقوق الإنسان ويضمن أكبر قدرا من الحياة الكريمة بعيدا عن المخاطر والهزات هو إصلاح يضمن توفير قدر من الأمان ويحقق تكافؤ الفرص للجميع خاصة بالنسبة للبلدان الأكثر فقرا ونموا.
هذه الرؤية التي تتبناها دولة نيجيريا والبرازيل وإندونيسيا ودول أخرى لا تراهن على التخلي عن النظام العالمي الحالي رغم مساويه ولا تراهن على المخاطرة والمغامرة ببناء نظام عالمي جديد بقيادة جديدة للتخوفات التي يثيرها خاصة في مسألة الديمقراطية والحريات ومنظومة الحكم القائمة على الديكتاتورية ومخاوف أخرى بخصوص النظرة الاستعمارية المتواصلة في علاقة بدول الجنوب بثرواتها الطبيعية ومواردها.

أكثر من سؤال

انتهت هذه الندوة كما بدأت حائرة وانتهت مخلفة وراءها أكثر من سؤال حول مستقبل البشرية في ظل عالم تشقه صراعات كبرى وغموض في الرؤية وحالة من ألا يقين حول كيفية إدارة القرن الحادي والعشرين وحيرة لا مخرج لها ومنها بخصوص خيار الإنشاء والتأسيس الجديد وخيار الانضمام وتوسيع التحالفات الأمنية والائتلافات والتكتلات الاقتصادية والمالية والتجارية وخيار الإصلاح والترميم والحفاظ على الموجود المعلوم بدل المغامرة في مسار عواقبه غير مضمونة ونتائجه لا تقدم جديدا للدول المتضررة من النظام العالمي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى