صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ مديونية مرتفعة ونسبة نمو ضعيفة: أي معادلة في تونس؟

slama
كتب: نوفل سلامة

ذكر الخبير الاقتصادي المكلف بالدراسات بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبد الجليل البدوي في حوار له نشر مؤخرا في الصحافة التونسية أن الدولة التونسية ليس لها من خيار أمام ارتفاع حجم الاقتراض الخارجي، الذي بلغ مستويات غير مسبوقة بعد أن وصل إلى حدود 80 بالمائة من الناتج المحلي…

معضلة كبرى

هذا الاقتراض الخارجي بات يشكل إحراجا وتحوّل مع الوقت إلى معضلة كبرى وصلت إلى حد المخاطر المؤثرة والمتعبة للدولة وتهدد اقتصادها إلا في البحث عن مصادر تمويل أخرى للميزانية وتوفير السيولة اللازمة لتأمين الإنفاق العام من دون اللجوء إلى التداين من المؤسسات المالية العالمية، وتجنّب الذهاب الى صندوق النقد الدولي وعدم المواصلة في الخيارات القديمة القائمة أساسا على فكرة التعويل على الاقتراض الخارجي لتعبئة ميزانية الدولة وتوفير السيولة اللازمة لتنفيذ برامجها والتزاماتها تجاه مواطنيها ومزوديها والتعويل على الذات الشعار الذي رفعه الرئيس قيس سعيد لإيقاف نزيف الاقتراض الخارجي المكبل للدولة والاستراتيجية الجديدة لبداية الخروج من مأزق الارتماء في أحضان المؤسسات المالية العالمية المتحكمة في الدول التي تعيش صعوبات مالية أو تمر بأزمات اقتصادية…

خيارات صعبة

وفكرة التعويل عن الذات والاعتماد على خيار الموارد المالية الخاصة لتجنب اكراهات التداين الخارجي المكلف، وضمان تسديد الديون الخارجية في أوقاتها والرجوع إلى الوضع الطبيعي يقتضي اتباع خيارات صعبة ومرهقة للشعب..
ويستوجب قرارات جريئة وموجعة من قبيل التوقف عن الزيادة في الإنفاق العام الذي يستهلكه التوظيف الجديد، وما يتبعه من الزيادة في أجور الموظفين في المؤسسات العمومية و الزيادة في الضرائب لتوفير مداخيل إضافية والحد من التوريد وخاصة المواد غير الضرورية والتي يمكن الاستغناء عنها والتي تستنزف مخزوننا من العملة الصعبة بما يعني التحكم في المواد الموردة..

سياسة تقشف

وهذا التمشي يفترض التقليص من نفقات الدولة واتباع سياسة تقشفية سواء كانت معلنة أو غير معلنة للحد من توريد المواد الغذائية بكميات عادية ويتطلبها السوق وتعويد الشعب على نقص المواد في الأسواق، والقبول الطوعي بغياب المنتجات الغذائية بالكميات المعهودة وقبول العيش وفق وضعية النقص أو عدم الوجود وذلك بغاية التحكم في الميزانية وتوفير السيولة اللازمة لتسديد الديون في آجالها وحتى لا نضطر الى الاقتراض لتغطية الشراءات الخارجية وتعهدات الدولة…

المشكل الذي تثيره مثل هذه المقاربة في علاقة بخيار التقشف و التوقف عن الاقتراض من الخارج والتعويل على الموارد الذاتية لتمويل ميزانية الدولة وتغطية نفقاتها العامة أنه رغم أن الدولة التونسية قد تمكنت من سداد ديونها بالكامل لهذه السنة…
وهذا في حد ذاته يعد إنجازا في هذا الظرف الصعب الذي تمر به البلاد أمام شح السيولة وتعثر أو توقف التفاهم مع صندوق النقد الدولي الذي كان الاتفاق معه يخفف كثيرا من الضغط المالي ويقلل العبء على الدولة…
فإن النمو الاقتصادي المؤدي إلى إنتاج الثروة المدخل الأساسي والرئيسي إلى توفير الأموال اللازمة لم يعرف تطورا كما أن نسبته لم تبلغ المستويات المرجوة التي تسمح بتعافي الاقتصاد ما يسمح بالتخلص من أعباء التداين وتوفير السيولة المطلوبة المعفية من الاقتراض.

خيار صعب ومكلف

الإحراج في هذه الوضعية أن الدولة تجد نفسها أمام خيار صعب ومكلف وهو خيار التعويل على الذات وخيار التقشف الذي يعفي من الذهاب إلى الاقتراض الخارجي و الذي يسمح بتوفير السيولة اللازمة لتغطية النفقات العامة للدولة والتزاماتها، وفي نفس الوقت فإن الدولة تجد نفسها في وضعية ضعف نموها الاقتصادي وتراجع نسبته، والتي من المقدر أن لا تتجاوز حسب المعطيات الرسمية حدود 1 بالمائة هذه السنة وحتى السنة المقبلة.
الإحراج الآخر أن قرار اتباع سياسة تقشفية حذرة وخيار التعويل على الموارد الذاتية التي تسمح بتسديد كامل ديون الدولة التونسية لهذه السنة وحتى السنة المقبلة لم ترافقه إجراءات صلبة من شأنها أن توقف خيار الاقتراض نهائيا أو جزئيا وبناء الميزانية للعام القادم 2024 من دون التعويل على الدين الخارجي حيث يتضح أن الميزانية الجديدة قد أعدت بالاعتماد بنسبة كبيرة على فرضية مواصلة التداين الخارجي لتعبئة ميزانية الدولة وتوفير السيولة اللازمة في ظل ضعف الموارد الذاتية على أهميتها والمتمثلة أساسا في عائدات السياحة وتحويلات المواطنين بالخارج وما توفره الجباية ومداخيل الضرائب…

الإحراج الأكبر اليوم هو أنه أمام تراجع نسبة النمو وغياب الحلول التي تحقق الثروة وفي ظل ضعف الموارد الذاتية وفي غياب البدائل التي توفر مصادر مالية جديدة لتمويل الميزانية فإنه لا خيار أمام الدولة إلا في مواصلة الاعتماد على التداين والاقتراض، وأن اتباع سياسة التقشف وخيار التخلي عن التوريد للكثير من المنتجات لتوفير العملة الصعبة والتحكم في النفقات العامة والتوقف عن الانتداب في الوظيفة العمومية ومراجعة سياسة الدعم للكثير من المواد الغذائية التي ترهق الميزانية والاعتماد على ما توفره عائدات قطاع السياحة وتحويلات عمالنا بالخارج فإن كل هذه المبالغ المتحصل عليها قد تمكن الدولة من تسديد ديونها السنوية والايفاء بتعهداتها المالية والاستجابة إلى نفقاتها الآنية، ولكنها لا تسمح ولا تقدر أن تخلص الاقتصاد من أزمته ولا أن تحل بصفة نهائية الصعوبات الاحراجات المالية للدولة ولا أن تنتج الثروة وتخلق مواطن شغل جديدة وتحسن من مردودية القطاعات العامة والخاصة…

مقاربة صعبة؟

المقلق في هذه المقاربة المتبعة أنها لن توقف حركة الاقتراض الخارجي ولن توقف الاعتماد على التداين لتمويل الميزانية وإنما إيجابياتها تكمن فقط في نجاحها في تمكين الدولة من سداد أقساط ديونها السنوية المتخلدة والتي حل أجلها ويتأكد هذا التحليل حينما نعود إلى مشروع الميزانية لسنة 2024 لنجد أن حجمها قد ارتفع من 69914 مليون دينار في سنة 2023 إلى 86877 مليون دينار في السنة المقبلة وقد فسرت هذه الزيادة الكبيرة في الميزانية من أجل تدارك الصعوبات المالية التي رافقت الدولة خلال سنة 2023 والتي عسرت عليها شراء المواد الأساسية لعيش المواطن من مادة القمح والفرينة والزيوت النباتية ومادة القهوة ومادة البنزين وغير ذلك من المواد الضرورية للسير العادي للحياة وهذه الزيادة في حجم الميزانية مقارنة بالسنة الحالية سوف يتم تغطيتها من خلال الاقتراض والتداين الخارجي والداخلي.

ما أردنا قوله هو أن اليوم لدينا مشكلة فيما نعلن عنه من خيار التعويل عن الذات في توفير الموارد المالية من دون التعويل على الاقتراض من الخارج ولكن في نفس الوقت فإن اقتصادنا لا يحقق نسب نمو تسمح بخلق الثروة وتوفير السيولة اللازمة وهذه الوضعية تجعلنا أمام خيار وحيد وهو مواصلة سياسة التقشف وسياسة الاقتراض في ظل ضعف الموارد الذاتية من عائدات السياحة وتحويلات عمالنا بالخارج وما تحققه الضرائب وما نجنيه من بيع مادة الفسفاط وبعض الإنتاج الفلاحي من إنتاج التمور وزيت الزيتون…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى