صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ كتاب جديد عن الثورة: سياسيون بلا أفكار أو زمن الجيل الخائب

slama
كتب: نوفل سلامة

الحبيب بوعجيلة هو أستاذ فلسفة وناشط سياسي عُرف بمواقفه المعارضة لحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، مسيرته السياسية كانت ضمن محطات كثيرة خاض خلالها تجارب سياسية كثيرة أهمها تجربة اليسار الإسلامي أو ‘الإسلاميون التقدميون’ التسمية التي يحبذها…

وهي مجموعة فكرية ظهرت في ثمانينات القرن الماضي وانشقت عن الحركة الإسلامية وكوّنت تيارا فكريا وسطا بين الإسلام والماركسية،
وتجربة أخرى مع أحمد نجيب الشابي وحزبه الحزب الديمقراطي التقدمي وجريدته الموقف التي ضمت حينها نخبة من خيرة المناضلين والمثقفين وانتهى بانخراطه المكثف في الحراك الثوري بعد سقوط نظام حكم الرئيس الراحل بن علي…

عُرف بكثرة كتابته في الصحف والمجلات التونسية، خاض معارك فكرية وسياسية كثيرة وكان له في بداية الثورة حضورا إعلاميا مهما في المنابر الحوارية.
هذا الكاتب والناشط السياسي والمثقف الفاعل كما يحلو أن يسمي نفسه أصدر في الأيام الأخيرة كتابا مهما اختار له عنوانا ” سيرة قلم شاهد مقدمات في الإصلاح والثورة ” صادر عن دار العلوي للنشر 2025 واحتفاء بهذا الإصدار الجديد والتعريف به ومحاورة مضمونه نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ندوة فكرية صبيحة يوم السبت 14 جوان 2025 تولى فيها تقديم الكتاب وإدارة الحوار الكاتب والناشط السياسي خالد شوكات.

تجربة سياسية

منذ البداية يطرح الكتاب إشكالا كبيرا في تصنيفه، هل هو من قبيل السيرة الذاتية التي تتيح للكاتب أن يتحدث عن تجربته السياسية قبل وبعد الثورة ؟ أم هو من قبيل كتب الذاكرة السياسية التي يرصد فيها صاحبها محطات مهمة من تاريخ البلاد والفعل السياسي ويستغلها ليطرح فيها الكثير من الأسئلة الحائرة حول الثورة وفكرة الانتقال الديمقراطي وحلم الثوريين في بناء دولة ديمقراطية ومشاعر الفشل والخيبة من عدم تحقق الآمال؟ أم هو من قبيل كتب الشهادات على عصر عاشه الكاتب وتحدث عن أحداثه من زاوية نظره الخاصة؟

حقائق وقناعات

الكتاب تجاوز كل هذه التصنيفات ليرتقي إلى نوع من المؤلفات التي تأتي بعد تجارب سياسية فاشلة، وبعد مسيرة نضال دامت لأكثر من ثلاثين سنة وانتهت بصاحبها إلى جملة من الحقائق والقناعات الجريئة منها الإقرار بأنه يعيش حالة من الخيبات النفسية وانتمائه إلى جيل يعرف اليوم خيبات لا يراد لها أن تفصح عن نفسها أو الاعتراف بها وأحلام تحطمت على صخرة الواقع، فكل التيارات السياسية الكبرى التي عرفتها البلاد قد اصطدمت بعد الثورة بواقع ما بعد الثورة وعرفت خيبات موجعة وارتطام الأيديولوجيات الكلاسيكية على صخرة الواقع وصخرة ممارسة الحكم والسلطة وإكراهات المجتمع التنموية.

نحو مراجعات جذرية

طرح الحبيب بوعجيلة في الكتاب جملة من القضايا الكبرى مثلت خيبات نفسية جعلته يطالب جميع الفاعلين بالقيام بمراجعات جذرية أولها موضوع الثورة وسؤال هل ما حصل في تونس كان فعلا ثورة بمقاييس الثورة الكلاسيكية، وأي علاقة مع فكرة الإصلاح وكيف يمكن أن تنتهي الثورة إلى مسار إصلاحي مُجْدٍ ومنها موضوع الهوية التي كانت محورا مركزيا شوّش على تحقيق الأهداف وجعل الثورة تحيد عن مسارها الحقيقي وحصر النقاش المجتمعي في ثنائيات قاتلة..
والحال أن الكثير من مواضيع الهوية كانت قد حسمت قبل الثورة ومنها موضوع التوافق الذي يصفه الكثير من الناس بالمغشوش الذي دمر الثورة و موضوع التنمية والخيارات الكبرى التي تحولت إلى خلافات حادة ومسألة فرقت من قاد الثورة وأوكلت له مهمة تحقيق أهدافها و المسألة الديمقراطية والحرية وكيف استفاد النظام القديم من هامش الحرية المرتفع ليستعيد أنفاسه ومواقعه القديمة وسؤال هل كان الفاعلون السياسيون مشبعين بالقيم والأفكار الديمقراطية..
وهل كانت الأحزاب السياسية مؤمنة حقا بالديمقراطية وموضوع التعامل مع القديم وكيف يمكن الذهاب نحو المستقبل من دون معالجة هذا القديم وقد كان السؤال الكبير وقتها كيف نتصرف مع الماضي وكيف نعالج ملف النظام المنحل وبمعنى آخر موضوع هل من مصالحة و تسوية وتوافق مع القديم بالقديم.

خلاصات واستنتاجات

الفكرة الأساسية التي يدور حولها الكتاب ومحاوره الكبرى و الخلاصات التي انتهى إليها الحبيب بوعجيلة و بها فسر ما حصل للثورة التونسية من فشل وما وصل إليه الفاعلون السياسيون من خيبات هو أن السياسة مورست بعد الثورة وخلال عشرية كاملة من دون أفكار وكيف تخلت الحركة السياسية التونسية عن كل أفكارها بعد الثورة وانطلقت نحو الواقع الجديد وكأنها لا تملك أفكار وتنكرت إلى كل النقاشات والقضايا التي تم حسمها وكأنها تكتب من جديد في ورقة بيضاء من دون مراكمة لكل الأفكار التي ناقشتها كل التيارات الفكرية والسياسية قبل الثورة وأصبحت ممارسة الحكم والسلطة من خارج الفكرة والتنظير الفكري وتحولت الممارسة السياسية دون بوصلة واضحة ولا رؤى ولا أفكار وتحول الصراع السياسي من صراع على البرامج والأفكار والرؤى إلى مناكفات مدمرة فلو وعينا بهذه القضية لما حصل ما حصل ولما وصلنا إلى هذه الخيبات وهذا الفشل.

لكل ذلك يعتبر الكاتب أن عشرية كاملة من الثورة ومن تجربة الانتقال الديمقراطي ومن ممارسة السلطة من دون فكر ولا رؤية قد أوصلت إلى حصول مشاعر الخيبة والقناعة بأنه ينتمي إلى جيل الخيبات، وهو اعتراف جريء يشبه ما صرح به الكاتب غالي شكري في ثمانينات القرن الماضي عن تجربته التي دونها في كتابه ” اعترافات الزمن الخائب”.

شعور مرير بالخيبة

القضية الأخرى التي أثارها الحبيب بوعجيلة في كتابه هو سؤاله المهم حول أهمية الوعي بالخيبة حيث يعتبر أن الأهم من الإقرار بأن الطبقة السياسية برمتها قد فشلت وحصلت لها خيبة مدوية من ضياع الحلم وانحدار المسار هو الوعي بالخيبة لأن هذا الوعي هو الذي يضمن بأن لا تعاد الخيبات من جديد مع الأجيال القادمة التي عليها أن تستفيد و تستوعب درس خيبة هذا الجيل فالتوافق الذي حصل بين الشيخين كان خيبة قاصمة للظهر لأنه لم يؤسس على أفكار ولا رؤى وإنما على الأشخاص وعلى تقاسم الحكم والسلطة وهو يعترف بأن فكرة التوافق هي في ذاتها ليست سيئة وتحتاجها الشعوب في مراحلها الحرجة التي تمر بها كمرحلة الثورة ومرحلة الانتقال الديمقراطي وهي آلية لحل المشاكل بين الفرقاء السياسيين ومعالجة موضوع رموز النظام الحكم القديم .
المشكلة التي أرقت الكاتب وجعلته يشعر بمرارة الفشل والخيبة هو كيف أمكن للنخبة السياسية التي حكمت بعد الثورة أن تتنكر لكل تراثها الفكري ومخزونها النظري وما أنتجته من نصوص وأفكار ونقاشات كانت مهمة وخلنا أنه من خلالها قد حسمنا الكثير من المواضيع التي شكلت نقطة ضعفها بعد الثورة فما حصل أن الطبقة السياسية بكل أطيافها لم تحسن استثمار ما أنتجته من أفكار.
المشكل الآخر الذي أبرزه الكاتب في حصول مشاعر الخيبة، ما حصل من تسلق لأفراد وأصبحوا في لمح البصر في الصفوف الأمامية وأثروا وكانوا هم أحد أسباب الخيبة وما وصل إليه الحبيب بوعجيلة من نتائج وخلاصات حول الجيل الخائب وجيل الخيبة أو الجيل المأزوم قد جعل كتابه يصنف بعد قراءته و تقديمه ينتمي إلى صنف معروف في الأدب يعرف بأدب الأزمة أو أدب الخيبة وهي نفس النتيجة التي وصل إليها الناشط السياسي صلاح الدين الجورشي في كتابه الأخير ” أقواس من حياتي شهادة حول عصر مضطرب من تاريخ تونس المعاصر ” حيث انتهى إلى الإقرار بأنه ينتمي هو الآخر إلى خيل خائب.

عشرية جيل خائب

أهمية الكتاب تكمن بالإضافة إلى جرأة صاحبه في تقديم قراءة لعشرية كاملة بعد الثورة وصفها بأنها عشرية جيل خائب وجيل تنكر لأفكاره وجيل مارس السياسة من دون فكر ولا برامج وجيل مارس السياسة من خلال الفعل اليومي والتعامل مع الأحداث وفق قاعدة المناكفات في طرح أسئلة أصلية وأجوبة جريئة حاول من خلالها إزالة حمل ثقيل كان يثقل كتفيه وفرض على الجميع الإقرار بحقيقة الخيبة والأهم من ذلك دعوته إلى القيام بالمراجعات الضرورية سواء ما تعلق منها بالمواقف السياسية الخاطئة أو المراجعات الفكرية التي تحتمها اللحظة التاريخية من هذه الأسئلة هل كنا فعلا شعبا ونخبا متشبعين بالقيم والأفكار الديمقراطية؟

هل كان لدينا وعي ديمقراطي متأصل؟ هل فعلا كانت فكرة التوافق خاطئة أم أننا شيّطنا هذا التمشي لتدمير الثورة؟ وكيف لو حصل التوافق على أفكار وبرامج لربما كنا قد نجحنا؟ هل فعلا لم تحسن الطبقة السياسية برمتها قراءة الواقع التونسي بعد الثورة وفي كل لحظاته وتعاملت معه من دون فكر ودون تنظير وهذه الحقيقة قد انتجت لنا في النهاية سياسيين لم يفهموا الواقع وسطا عليهم نهم الحكم والسلطة على حساب الفكرة.
النتيجة أن الجيل الذي حكم الثورة وكان من مشارب فكرية مختلفة و مشبعا بالأفكار والنقاشات وله رؤى واضحة قبل الثورة وله تجارب نضالية ضد الاستبداد قد انتهى به الأمر إلى أن أصبح جيلا من دون قدرات سياسية وفقيرا من الناحية المضمونية و خائبا في خياراته ولم يقدر أن يتجنب المطبات والمنزلقات.

حالة قلق كبرى

هذه الندوة هي ندوة قلقة ومضمون الكتاب هو الآخر مقلق وصاحبه يعيش حالة قلق كبرى وهو من الكتب التي حاولت تقييم تجربة الانتقال الديمقراطي من الداخل و بأعين رمز من رموز الثورة ومن مثقف كان فاعلا فيها ومؤثرا. ولكن السؤال الأخير الذي أفرزته هذه الندوة أنه بقدر ما هي مفيدة هذه الأعمال الفكرية التي تتناول الثورة التونسية بالتقييم الموضوعي ودون تحامل عليها ولا تصفية حسابات مع الفاعلين فيها…
فإن عملية التقييم ووصف الفاعلين فيها بالخائبين لا يجب أن تغيب أهمية السياقات التي حكمت التجربة السياسية وخاصة أن الثورة التونسية كان سياقها زمن اللامعنى وزمن التفاهة والتافهين وزمن تحكم الرداءة في كل المجالات من إعلام وثقافة ومتسلقين ومتنطعين وثورجيين..

وهذا كله أثر بقوة على التجربة التونسية وأحرج الفاعلين الحقيقيين فيها بل أضعفهم لذلك فإن تقييم أي تجربة إنسانية من دون مراعاة لسياقها التاريخي الذي تتحرك فيه هو تقييم متحامل ومضلل فـ الكتاب حاول تقييم تجربة الثورة ومرحلة الانتقال الديمقراطي والمسار السياسي بعد حكم استبدادي من خارج سياق كان صعبا حكم وتحكّم .. ولكن مع أهمية هذه الملاحظة فإن الكتاب في النهاية أراد أن يقول بكل جرأة بأن هناك مشكلة حقيقية في الطبقة السياسية التي حكمت مرحلة الثورة نحتاج أن نتوقف عندها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى