صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: في فهم كيف يُدار العالم ومن يُدبّر شؤونه؟

كتب: نوفل سلامة

منطلق هذا السؤال الفكرة التي تقول بأن هناك تأثير هائل لأنظمة الدعاية الخفية على تفكيرنا وميولاتنا وسلوكنا بما يعني أن حركة الإنسان المعاصر محكومة وتحت وقع أنظمة خفية تعمل على السيطرة المطلقة على العقول والسلوك بما يجعل التحولات التي تعرفها الشعوب محكومة هي الأخرى بما يخطط لها ويسطره الآخر من خلال منظوماته المتفوقة التي يصنعها لهذه الغاية…

قوى خفية؟

هذه الفكرة عن القوى الخفية المؤثرة ونظرية المؤامرة التي تضعها مراكز نفوذ عالمية ودوائر صناعة القرار يرفضها البعض من منطلق فكرة أخرى أساسها أن السمة الثابتة في تاريخ البشرية هي التقدم المستمر والتمرد الدائم على الراكد والسائد والمتعارف عليه والمتحكم وما ينتجه الإنسان من معارف ومنتجات مادية بما يعني أن ما نحسبه هيمنة الآخر علينا ومحاولات سطوته المستمرة على عقولنا وسلوكنا، وما نظنه فرضا لأنماط تفكير وعيش ما هو في الحقيقة إلا نتاج التقدم العلمي والمعرفي الذي حققه غيرنا ووصل إليه بعد سنوات من الجهد والبحث المضني في جميع المجالات…
أبحاث علمية شملت ميدان الزراعة والغذاء ومجال الطاقة ومصادرها وميدان الطب والصناعة وكل وسائل العيش التي تعبر عن مدى التطور والتقدم الذي وصل إليه الآخر الذي نتهمه بأنه يتآمر علينا…

علماء تمرّدوا

وللتدليل على هذه الفكرة الرافضة لـ نظرية الهيمنة الخفية والغرف المظلمة التي يتحكم فيها وتديرها القوى المتحكمة في العالم يستعين أصحابها بمثال المفكر الإيطالي ” نيكولا كوبرنيك ” الذي لولا تمرده على المبدأ الموروث والمفروض من الكنسية القائل بمركزية الأرض في النظام الكوني ودوران الشمس حول الأرض لا العكس لما كان لعلم الفيزياء أن يشهد كل تلك القفزة التي عرفها والتطور الذي تحقق من بعده في هذا المجال على أيدي علماء آخرين نعيش نحن اليوم تحت وقع نتائج ما توصلوا إليه بفضل العالم كوبرنيك الذي غيّرت الحقائق التي وصل إليها مجرى تاريخ الإنسانية.
وكذلك العالم ” ألان نورينغ ” ( 1912 / 1954 ) الذي لولا إختراعه للآلة الحاسبة الذكية التي طورها في عام 1938 رغم سخرية زملائه وأرباب عمله، لما أمكن فيما بعد اختراع جهاز الكمبيوتر وشبكة الانترنت التي باتت اليوم محرك الحياة في هذا العصر.

أمم حيّة وأمم ميّتة

هذا هو منطق الأشياء وهذه هي حقيقة الواقع الذي نعيشه ونحياه وهذه هي النظرة الواقعية الماثلة أمامنا التي تفرق بين أمة في حالة حركة مستمرة وابداع دائم وتطور وتقدم وتمرد متواصل على الموجود، وأمم أخرى ومنها أمتنا نحن العرب والمسلمين في حالة عطالة وركود وانصياع وتبعية وحالة من الاستهلاك لما ينتجه الآخر المتفوق علينا معرفيا وتكنولوجيا وصناعيا…
وهذا التمييز المهم يقلل من مقاربة هيمنة الآخر ونظرية المؤامرة والاحتواء الأجنبي وينسّب فرضية أو مقولة أن الآخر يخطط لنا ويضع البرامج والاستراتيجيات للهيمنة على العالم واحتوائنا لإبقاء شعوب عالم الجنوب تحت سطوته وسيطرته في مسار جديد للاستعمار وتثبيت الإمبريالية، ويصحح نظرتنا للواقع العربي والإسلامي الذي يلقي بكل فشله وتدني أوضاعه على الآخر ويرجع تأخره وانحطاطه وضعفه إلى أسباب خارجة عنه ويتهرّب من المسؤولية التي وجب أن يتحملها لفهم وتفسير لماذا واقعه متخلف؟ ولماذا هو على هذه الحالة من الضعف وهذا الارتهان الطيع للآخر؟..

قوى الهيمنة

ولكن السؤال الذي لا يزال عالقا هو كيف يمكن أن نوفق بين هذا الاستنتاج المثبّت علميا من أن ما نراه هيمنة واحتواء وسيطرة وتوجيها من الآخر ما هو في الحقيقة إلا نتيجة حتمية لتفوق العالم الحر وتمرده على الطبيعة من أجل كسب الريادة والقيادة ومسايرة حركة التقدم والتطور اللازمين التي تفرضهما طبيعة الحياة والنظام الكوني، وبين القناعة الحاصلة بأن العالم لا يسير على هذه الشاكلة من الوضوح والبساطة وإنما يدار من وراء ستار وبأيدي خفية تعمل على استمرار الهيمنة والسيطرة والقيادة…
وأن جهاز الدعاية العالمي الذي يعمل لصالح قوى الهيمنة التي لها تأثيرها المباشر علينا، وأن البيئة الاجتماعية التي تشكلت بفضل هذه الدعاية والأنظمة التي وضعها تتدخّل في التفكير والسلوك بما يجعل الإنسان في ظل هذا العالم المحكوم بالسيطرة والهيمنة عاجز عن كسر طوقها ومجبر على السير في الطريق الذي رسمه المتفوق الغالب.

حقيقة الأشياء وصورتها

قد نجد جوابا لهذه الإشكالية عند الفيلسوف ‘إيمانويل كانط’ وفكرته حول التفريق بين حقيقة الأشياء وصورتها في الذهن بما يعني أن ما نتصوره ونتخيله في أذهاننا عن الأشياء ليس دوما ما يطابق الحقيقة الواقعية، فالصورة الذهنية للواقع تحتاج إلى معاينة وإدراك حقيقي لها وإلا بقيت متعارضة مع حقيقتها الواقعية.
لقد نبه كانط إلى ضرورة التفطن إلى أن الإنسان كثيرا ما ينظر للأشياء من خلال صورتها في الذهن عن الواقع التي غالبا ما تكون مخالفة لهذا الواقع كثيرا أو قليلا، وهذه المسألة هي التي يشتغل عليها جهاز الدعاية في ترسيخ هذا القليل أو هذا الكثير بين صورة الذهن وصورة الواقع ويحاول تثبيت صورة ذهنية عن الأشياء بغض النظر عن واقعها.
وهنا يحيلنا كانط على فكرة أخرى مهمة وهي ضرورة التمييز بين العقل العملي الذي يدبر حياتنا اليومية والعقل النظري الذي يتأمل حقائق الأشياء ويفكك معانيها باحثا عما وراء ظاهرها من أجل تجاوزها فيتحرر من الحاجة إليه ويستبدله بما يغني عنه.

لا مكان إلا للأقوياء

فالواقع هو الذي قاد إلى اختراع الطائرة لما شعر الناس بأن السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا هذا العقل هو الذي تمرد على تأثير الدعاية والتربية والبيئة واختار طريقه المنفرد، وهذا هو الذي وجب فهمه وأن يحتفظ به أصحاب نظرية المؤامرة والمؤمنين بفكرة أننا شعوب مهيمن عليها وتم احتواؤها بفضل برامج وخطط وضعها الغرب المتفوق، علينا أن نفهم أن ما حسبناه استعمارا وهيمنة إمبريالية وسيطرة على الشعوب ما هو في الحقيقة إلا نتاج العقل النظري الذي يعتمد عليه الغرب لفهم العالم وتفسير الوجود من أجل الاحتفاظ بالتفوق وإدارة قيادته وهذا حق الشعوب الحيّة التي فهمت أنه لا مكان في هذا العالم إلا للأقوياء.

مشكلة أزلية

يقول الكاتب الأرجنتيني بورخيس (1889 / 1986) إن مشكلة الإنسان الأزلية في الهوة الكبيرة بين الخطاب والواقع وبين الشعارات والممارسة والحياة اليومية بين ما نعيشه ونحياه وما نفكر فيه وننظّر له بين عالم المرايا وعالم البشر.. عالمان منفصلان عن بعضهما البعض منذ الأزل وستبقى الإنسانية بين من يعيش داخل المرايا وبين من يعيش خارجها فالإنسان محكوم بطبيعتين طبيعة الخيال وعالم المتخيل وطبيعة الواقع والعالم المعيش الحقيقي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى