نوفل سلامة يكتب: في الحد الفاصل بين النقد والإساءة..

كتب: نوفل سلامة
لا يزال المرسوم عدد 54 الصادر سنة 2022 يخلف الكثير من الجدل حول مضمونه وخاصة فصله 24 الذي اعتبرته الكثير من الجهات وخاصة المنظمات الحقوقية سالبا للحريات وسيفا مسلطا على الكلمة ومدخلا لمنع الحق في التعبير عن الرأي وخطرا على الديمقراطية… وفيه تضييق كبير يمنع من المشاركة أو الاهتمام بالشأن العام…
حيث رتب هذا الفصل عقوبة سالبة للحرية تقضي حكما بالسجن لمدة تصل إلى خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار على كل من يتعمّد استعمال أنظمة اتّصال لترويج أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان، ونفس العقوبة يعاقب بها الشخص الذي يتعمد استعمال أنظمة معلومات لإشاعة أخبار مصطنعة أو وثائق مزورة بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية و تضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه…
سؤال دقيق
وفي محاولة لتقديم قراءة موضوعية لهذا الفصل المثير للجدل بالعودة إلى السياق الذي جاء فيه والتوقف عند الغايات الأولى التي فرضته. وهي محاولة للنظر والفهم في استتباعاته التطبيقية بعيدا عن الاصطفاف السياسي أو مناصرة جهة على أخرى خاصة وأن مضمونه قد قسّم المجتمع تقسيما حادا بين أطراف مؤيدة له وأخرى رافضة وتقديم رأي يفتح نقاشا هادئا و عقلانيا حول الإشكال الكبير الذي يثيره، فـ زاوية النقاش التي نختارها هي الإجابة على سؤال دقيق لمعرفة الحد الفاصل بين ما نعتبره نقدا وإبداء الرأي في مسألة من المسائل وتقديم تصور وموقف حول قضية من قضايا المجتمع وبين السقوط في الاسفاف و الإساءة لصاحب الرأي المنتقد والاجابة على سؤال آخر كيف نحدد ماهية النقد المطلوب والمقبول ومعنى الإساءة والاهانة؟
وسؤال آخر لمعرفة الجهة التي تحدد هذا الحد الفاصل ومن له الحق في اعتبار قولا ما نقدا مقبولا وقولا آخر حديثا غير مقبول ويدخل في معنى التحريض والتشهير؟
تشريع لا بدّ منه؟
اليوم هناك شبه إجماع حاصل على أن المرسوم عدد 54 كان تشريعا لا بد منه للحد من حالة الفوضى التي عمت المشهد السمعي والبصري والتصدي لحالات الانفلات الكثيرة والكبيرة التي حوّلت حرية الفكر والتعبير وحرية الرأي إلى فوضى عارمة بسببها تنتهك وتستباح أعراض الناس بدعوى الحق في النقد فهذا المرسوم جاء في سياق ما يعبر عنه بأخلقة المشهد الإعلامي ووضع قدر من المعايير الأخلاقية والمبادئ والقواعد التي يتفق عليها وحولها الجميع لإرساء مشهد ثقافي وفكري وإعلامي يبتعد بالقدر الكافي عن نشر الأخبار الزائفة وترويج الإشاعات..
وهو تمش لا تختص به بلادنا بل أنه نهج عالمي تتبعه الكثير من الأنظمة الديمقراطية العريقة التي تضع معايير وضوابط للحرية حتى تبقى مسؤولة ولا تتحول إلى فوضى عارمة فالفهم الصحيح للحرية أنها ليست محررة من أي قيد أو ضابط وإنما تمارس بمسؤولية وفي حدود احترام حرية الآخرين ومواقفهم.
كبح الإشاعات والتشويه
وهذا يعني أن منطلق هذا المرسوم كان كبح جماح الإشاعات والتشويه وانفلات الكلمة و التقليل من منسوب التشهير والإساءة للغير والتوقف عن نشر الحقد والكراهية وتنظيم القطاع الإعلامي وخاصة المشهد الافتراضي حتى لا يتحول إلى منصة لهتك الأعراض والإساءة للأشخاص ودفع الأفراد إلى المسؤولية في إبداء آرائهم بالاعتماد على المعطيات والبيانات والمعلومات الصحيحة بأسلوب خال من التعرض إلى الذوات وللأشخاص والأعراض والحياة الخاصة للناس.
هذا هو التوجه العام الذي حكم فكرة المرسوم وهذا هو السياق الذي جاء فيه مضمون الفصل 24 من المرسوم غير أن التخوفات التي ظهرت في الآونة الأخيرة في علاقة بالإيقافات التي طالت بعض الأشخاص على خلفية مواقفهم في بعض وسائل الإعلام تعتبر أن هناك انحرافا قد حصل في تطبيق هذا الفصل خرج به عن قصده الأول ومعناه الحقيقي وأغراضه وأهدافه الأولى ليتحول إلى أداة لمحاكمة الرأي الحر ومحاصرة الكلمة والحد من هامش الحرية المكسب الوحيد الذي بقي بعد أن فشلت الثورة وتخلت عن أهدافها الكبرى التي من أجلها قامت، وهي التشغيل والكرامة والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية وكل مطالب الجهات المهمشة والمنسية والمقصية من برامج التنمية لعقود من الزمن.
خوف من الإنزلاقات
التخوف الذي يبديه أصحاب هذا الرأي من مخاطر الانزلاقات التي حصلت أثناء التطبيق تتعلق بالتوسع في تأويل عبارات الفصل 24 والتوسع في التكييف القانوني باعتماد قراءة تخرجه عن غاياته الأولى ومراميه الأساسية التي لم تكن بتاتا الحد من حرية الرأي والتعبير و تأويل مدد يتجاوز منطوقه وسياقه ليجعل منه مدخلا يستعمله الأفراد للتشفي أو التنكيل بغيرهم من الأفراد ومطية لمحاسبة ومعاقبة كل من له رأي في خيارات سياسية تضعها الحكومة أو نقد لسياسات عمومية تضعها الدولة أو تقديم تصور لكيفية إدارة الشأن العام مخالف لما رسمته الدولة من منطلق اختلاف النظرة وحق المشاركة في الشأن العام.
الاشكال اليوم في تحديد معنى النقد المقبول ومفهوم الإساءة تجاه الغير في علاقة بالموقف من انفعالات الأفراد وتفاعلاتهم مع ما يحدث في المجتمع من قضايا مختلفة…
إشكال آخر
وهنا يُثار إشكال آخر يتعلق بمسألة أخرى تحتاج نقاش في علاقة بما يقوله رجل الشارع بخصوص الوضع العام قد لا يقبل به إذا صدر عن شخصية عامة مؤثرة في الإعلام أو السياسة أو الثقافة فالسخرية التي يبديها رجل الشارع والمواقف المنتقدة للسياسات الحكومية هي مقبولة إذا صدرت من العامة ومن أفراد الشعب وهي مسألة عادية يتم تناولها في الفضاءات العامة غير أنها غير مقبولة ولا يسمح بها وتدان إذا صدرت عن صناع المحتوى في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لدورهم الخطير في صناعة الرأي العام وتوجيهه.
إلى أي مدى يعتبر هذا الموقف وجيها في علاقة بالقيم الديمقراطية ؟ وأين الوجاهة في هذا التمشي وهذا الطريق الذي يحاول تحقيق المعادلة الصعبة بين الحق والواجب والحرية والالتزام والفوضى والانضباط؟