صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: حتى لا نواصل التخبط في شباك استنزاف العجز…

slama
كتب: نوفل سلامة

الحقيقة الواضحة اليوم والتي لا اختلاف حولها أن الأمة العربية تعيش مرحلة الانسحاق الأعنف في تاريخها المعاصر في ظل التحولات التي تعصف بالعالم والانعطافات الخطيرة التي تؤثر باستمرار في كل شيء ثابت، وخاصة انعطاف التقدم العلمي الرهيب…

وخصوصا ما يحصل في التكنولوجيا الحديثة من تطورات مذهلة كان آخرها الإعلان عن دخول البشرية عصر الذكاء الاصطناعي وعصر تحكم الآلة في كل شيء وعصر تجاوز الإنسان والاستغناء عنه في الحياة وعصر جنون العقل البشري الغربي الذي لا يعرف حدودا للتقدم، وهو في تقدم مطرد وفي مسار وخط مستقيمين لا يعرفان التوقف من أجل كسر نظرية ابن خلدون بخصوص نشوء الحضارات وانحدارها في الوقت الذي يعيش العالم العربي حالة من التخبط والاستنزاف نتيجة وضعية العجز المكبل والمقيد لإنتاج المعرفة أو على الأقل المشاركة في صناعة العلم المواكب للحياة العصرية، وما يقتضيه العصر الراهن من تقدم وتطور في جميع المجالات الفكرية والعلمية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحربية وغيرها…

لماذا تتواصل الأخطاء؟

فلماذا نجحت شعوب أخرى تزامن استقلالها وتحررها من محتلها مع استقلالنا وتحررنا من مستعمرنا في تحقيق نهضة وتقدم وتعثرنا نحن ؟ ولماذا تتواصل الأخطاء عندنا ولماذا كل محاولاتنا للتقدم تفشل ؟ فهل يعود ذلك إلى خياراتنا التي كانت خاطئة أم إلى اسئلتنا التي طرحناها للخروج من التخلف، ولم تكن في محلها ولا كانت هي الأسئلة التي وجب أن تطرح في البدء ما جعل الإجابة عنها تكون خارج المأمول في إسعاد الإنسان العربي؟

موروث ثري

ثم كيف يمكن التفكير في كل هذه القضايا من داخل الثقافة العربية وبواسطتها على ضوء ما يشتمل عليه تاريخها من انتاجات نظرية عقلانية ومادية وروحية، ومن موروث متعدد ثري من دون حاجة إلى ما انتجه الغرب وما حققته الحداثة الغربية وفكر أنوارها وكل التاريخ من انتاج المعرفة التي تحكم العالم اليوم ومن دون حاجة إلى مرجعية الآخر الأطلسي الذي اتضح اليوم بعد عملية طوفان الأقصى والحرب الظالمة على غزة التي تقودها إسرائيل ومعظم الدول الغربية المساندة لها أن حداثته وأنواره ومنظومة قيمه وأخلاقه ونظامه العالمي وأسسه الفكرية والفلسفية والنظرية ومؤسساته وهياكله خادعة ومزيفة وغير عادلة ومنحازة، وتعمل لصالح الإنسان الغربي و جعل الإنسان العربي تابعا له على الدوام؟
يذهب البعض إلى أن أزمتنا وانكسارنا وانسحاقنا وعجزنا غير مرتبط بـ قلة الثروات الطبيعية وندرتها ولا يعود إلى الاستعمار وحده، وما حصل من استراتيجية دوام بقائه رغم خروجه من الأوطان التي استعمرها وإنما وضعنا الراهن راجع بالأساس إلى حالة التدحرج الفكري التي أنتجت فقرا معرفيا حال دون إنتاج المعرفة والمشاركة في العلم المؤدي للتقدم والنهضة.

أمة مأزومة

يقول المرحوم محمد شحرور في سياق حديثه عن التراث الإسلامي نحن أمة مأزومة فهي تريد أن تعود إلى التاريخ و في نفس الوقت تريد أن تبقى متمسكة بذاتها وتراثها والإنسان حينما لا يستطيع أن يقدم شيئا للعالم ويعجز عن مسايرة الآخرين في التأثير في الحاضر وصناعة المستقبل فإنه يحتمي بنفسه ويعود إلى ماضيه وذاته العميقة ولا يرى نفسه الا في هذا الماضي الذي يقدسه عوضا على أن يرى نفسه في مرآة المستقبل، ويتحول إلى مرجع لاستلهام حلول الراهن ونعود إليه لنبحث فيه عن أي شيء يحل لنا أجوبتنا ونستفتي حلولا لحاضرنا وهذا هو أحد أسباب حالة العجز العربي الراهنة والغياب عن إنتاج المعرفة في الوطن العربي وإنتاج حاضر ناهض وحياة متقدمة ووطن له من عناصر القوة ما يجعله غير مرتهن للأجنبي وسيادته وأمنه غير مرتبطين بقوى الخارج.

حالة عجز

إن حالة العجز التي تأسرنا عن تحقيق نهضة عربية وانتاج تقدم مرتقب سببه كما يقول شحرور هذا العقل العربي في راهنه العاجز على إنتاج الأفكار وغير قادر على صناع المعرفة ولا المشاركة في إنتاج العلم لأنه عقل تراثي ماضوي وعقل قياسي غير إبداعي يحتاج دوما إلى نسخة أصلية يقيس عليها ومرجع سابق يستقي منه الحلول لمشاكله الراهنة ومن دون مرجع هو عقل لا يعمل وعملية القياس على القديم المقدس هو النشاط العقلي الوحيد الذي منحه الفقه والفقهاء للإنسان العربي وهو عقل اتصالي وليس بالعقل العلمي بمعنى هو دوما مع كل منتج علمي وتكنولوجي جديد لا يبحث عن كيفية صنعه وما هي الإفادة التي يقدمها للبشرية وإنما يبحث في المقام الأول عن محتوى يوضح له هل هو حلال أم حرام فهو عقل يعود باستمرار إلى فكرة المسموح والممنوع بدل طرح السؤال المهم لماذا صنع ؟ وكيف صنع هذا المستجد الجديد؟

ثقافة مبتكرة

هذا الموقف الذي يصدع به محمد شحرور يفرض السؤال التالي : أي معنى لفكر معطل حين تسقط هويته الثقافية في مقاربات أولية غير متكافئة مع فكر الآخر الناهض؟ هذا أسوأ سؤال يحاصرنا في مرحلة تأسيس تاريخي جديدة فيها إعلان واضح وصريح عن التزام واعي بتعزيز الإنتاج الفكري العربي بأدوات تفكير معرفة من داخل فضاء الهوية والماهية والثقافة المحلية ونشاطها الذهني الذي يقدم المحتوى النظري والمبادئ والقواعد والأفكار التي تتجاوز وتتعدى الآخر وغير متبنية لثقافة المنتصر فكريا، ثقافة مبتكرة وفكر غير مكرر للوصول إلى اكتساب المعرفة والعلم المطلوب وتحقيق نهضة بعيدة عن هيمنة المستعمر القديم واستعادة التاريخ ومسار الحضارة .
إن الثقافة والتاريخ هو ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء ويتم تهميش كل شيء و برمجة الحياة على نمط حياة الآخر وفكره أي أن الثوابت هي التي تبرز لنؤسس بنية الفكر وتشكل الزمن الثقافي الخارج عن زمن الأحداث والتوقيت الطبيعي الذي يحدده المهيمن والمسيطر وتحقيق إضافة تاريخية تعيدنا الى مسار التاريخ…
وهنا يتم التنبه إلى عوائق وموانع تحريم الاقتراب العلمي من إخضاع التراث لضغوط الواقع وهذه موانع مقصودة بفعل المهيمن والمسيطر ومن يتحكم في العالم ومصير الشعوب .. عودتنا إلى الماضي هي عودة برؤية نقدية تستلهم دون اعتبار ما انتجه الأجداد المكون لثقافتهم هو الممكن السائد الوحيد وبرؤية إمكان إضافة حقائق جديدة من أجل تأسيس حداثة وفكر جديدين ملازمين لتطلعاتنا وتمثلا مختلفا لـ تمثلات الغرب الذي احتكر التكلم بالعلم والحداثة وفكر عصر الأنوار و من أجل انتاج عقل غير تابع و حر غير مقيد بما انتجه الآخر المنحاز ونظام كوني جديد أكثر انسانية فنحن شاء أم أبى هذا الغرب شركاءه في منتوج الحداثة وفكر عصر الأنوار لذلك اليوم محمول علينا إنتاج حداثة جديدة بتمثلات متصالحة مع ثقافتنا وقيمنا وهويتنا .

تأهيل الفكر العربي

عودتنا هي عودة إلى الروح النقدية التي تسلح بها أجدادنا واليوم نفتقدها وعودة إلى حرية الممارسة والمبادرة التي كان يمتلكها علماؤنا القدامى لإعادة تأهيل الفكر العربي حتى يكون صالحا للمستقبل بعيدا كل البعد عن الفكر الأسطوري وبيئة الخرافات وثقافة الشعوذة التي كانت أحد مداخل التخلف وطريقا للاستعمار وهي عودة من أجل طرح مشروع مجتمعي وحضاري برؤية تقديمة تجديدية حداثية ولكن برؤيتنا وليست من خلال ما يراه الغرب ونظام أخلاقي وقانوني وسياسي عادل يستمد قيمه وأسسه مما تحقق في ثقافتنا وحضارتنا وما به ساد العرب العالم وحكموا نحن نريد موقعا في المستقبل وحضور وفرادة من دون هيمنة ولا استحواذ ولا استغلال ولا تبعية ولا استعمار جديد والطريق الوحيد هو إعادة إنتاج الفكر العربي كما تكوّن في تاريخنا بتلك الروح المحبة للعلم القائمة على النقد والمراجعة والاستفادة وعلى مناخ تحرري يكون قادرا على فرز وإنتاج نظريات علمية وفلسفية ومواقف جديدة بعيدة عن مركزية المعرفة الغربية وهيمنة الفكر الأوروبي الذي بان تهافته أمام طوفان الأقصى وانكشفت حقيقته في ظل حرب غزة.

حتى نسترد سيادتنا…

عودتنا إلى الماضي للإجابة على سؤال الحاضر وبناء المستقبل و هي عودة من أجل استعادة اللغة العربية مكانتها فالفكر والعلم لا يتكلمان إلا من خلال اللغة ونحن نريد أن نتقدم وننهض وطريق هذا المسعى و المدخل الوحيد هو اللغة التي حاربها الآخر وقلل من شأنها ووظف لها من يروج عنها أنها لغة لا تستقيم مع العلم وجند لها المثقف الوظيفي الذي قلقل من قيمتها وقدرتها على أن تكون لغة العلم والحضارة والتقدم.
هذه هي رؤيتنا للماضي وهذه هي عودتنا حتى نسترد سيادتنا وكرامتنا وحريتنا في إدارة شؤوننا و خيراتنا من دون تدخل من الآخر ولا وصايا منه. هي عودة من أجل مشروع مجتمعي حضاري يقطع مع حالة التخبط في شباك استنزاف العجز والفشل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى