صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي… ومعركة السرديات

كتب: نوفل سلامة  

تمر بنا هذه الأيام الذكرى الثانية عشر لحدث الثورة التونسية التي انطلقت شراراتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010 عندما أقدم محمد البوعزيزي بائع الخضار المتجول على حرق نفسه أمام ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على منعه من نصب عربته في الطريق العام، لتندلع بعد هذا الحدث موجة من الاحتجاجات والتحركات الشعبية اليومية لم تتوقف…

وانتقلت مع الأيام إلى كل الجهات الداخلية والمناطق المحرومة شاركت فيها أغلب الفئات الشعبية وخاصة فئة الشباب العاطل عن العمل وبالتحاق الطبقة الشغيلة اتسعت رقعة الاحتجاجات حتى وصلت إلى يوم 14 جانفي إلى العاصمة في مظاهرة ضخمة أمام وزارة الداخلية، وكان الشعار البارز الذي رفع بكثافة يومها هو “شغل حرية كرامة وطنية” والمطالبة برحيل الرئيس زين العابدين بن علي، ولم يحل ظلام ذلك اليوم حتى تم الإعلان عن مغادرة الرئيس تراب الوطن في طائرة أقلته هو وعائلته إلى السعودية لتطوى صفحة من كتاب البلاد الطويل، وبرحيله تبدأ حقبة جديدة من تاريخ تونس المعاصر عرفت فيه البلاد خيبات كثيرة وتقلبات عديدة وعرفت فيها الثورة منعرجات ومنحدرات ومحاولات الالتفاف عليها وتحويل وجهتها نحو إفشالها وإغراقها بقضايا ومواضيع بعيدة عن استحقاقات من قام بها وأهدافها التي قامت عليها ونادت بها.

ذكرى..وانقسام حادّ

تمر بنا ذكرى الثورة التونسية في عامها الثاني عشر والشعب التونسي ليس في أفضل حالاته سياسيا واجتماعيا واقتصاديا… والبلاد مقسمة انقساما حادا في الكثير من القضايا بل نكاد نجزم أنه ليس هناك اليوم قضية واحدة توّحد الشعب التونسي وليس هناك موضوع واحد حوله إجماع واتفاق شعبي، فحتى حدث الثورة الذي انهى حقبة عرفت فيها تونس استبدادا سياسيا غشوما وفسادا في الحكم مستفحلا واستحواذا على ثروة المجموعة الوطنية من قبل فئة صغيرة مقرّبة من العائلة الحاكمة عمها الجشع…

فحتى هذا الحدث الذي غيّر وجه العالم العربي وجرّ وراءه شعوبا أخرى تمكنت من كسر جدار الصمت وتخطت حاجز الخوف وخرجت في ثورات عربية اسقطت بها أنظمة حكم لحكام مستبدين أضروا كثيرا بشعوبهم ولم يقبلوا الخروج من السلطة والتنازل عن الحكم، حتى هذا الحدث لم يوحد الشعب التونسي.

3 سرديات للثورة

اليوم مع كل أسف هناك ثلاث سرديات للثورة التونسية تشق الشعب التونسي وتمنع عنه وحدته وهناك ثلاث رؤى لما حصل قبل اثنى عشر عاما تجعل هذا الشعب مقسما وغير موحد على قراءة جامعة للثورة..
السردية الأولى تعتبر أن ما حدث بداية من 17 ديسمبر 2010  و14 جانفي 2011 هو ثورة حقيقية قام بها الشعب التونسي الذي طالب برحيل نظام حكم بن علي وإنهاء حقبة الاستبداد، وهي ثورة كانت نتيجة تراكمات كثيرة من النضال خاضتها أجيال كثير من الشعب ونتيجة محطات عديدة من المعارضة والرفض للانفراد بالحكم…
ونتيجة سنوات قهر وظلم تواصلت لسنوات خلال فترة حكم بن علي عرفت بسنوات الجمر كانت أحداث الحوض المنجمي التي اندلعت سنة 2008 أبرز محطاتها وهذه التراكمات من نضالات أبناء الشعب التونسي المطالبين بحقهم في العيش الكريم و بنصيب عادل من ثروة البلاد، وبحقهم من التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية وحقهم في العمل والشغل والحق في التعبير عن الرأي بكل حرية قد توجت يوم 14 جانفي برحيل رأس السلطة وانهيار منظومة حكمه…
وهذا يعني أن ما حصل بداية من يوم  17 ديسمبر وحتى يوم  14 جانفي هو ثورة شعب حقيقية شاركت فيها كل أطياف الشعب التونسي من أجل الشغل والحرية والكرامة الوطنية ومن أجل الانعتاق والذهاب إلى أفق أرحب من أفق الاستبداد والديكتاتورية.

‘سرقة’ الثورة في 14 جانفي…

السردية الثانية تعتبر أن تاريخ الثورة الحقيقي هو يوم 17 ديسمبر 2010 وليس يوم 14  جانفي 2011 يوم رحيل الرئيس بن علي وأن الثورة التي قامت بها الدواخل والمناطق المنسية والمهمشة وأبناء الفئات المفقرة والمحرومة قد تم سرقتها منهم يوم 14 جانفي، حين استولى عليها السياسيون بعد أن أبرموا صفقة مع المنظومة القديمة للوصول إلى السلطة والحكم والحلول محل النظام القديم ومصالحة مع من تسبب في تفقير الشعب واقتسام الحكم مع المنظومة القديمة بعد أن رحل رأسها ومن كان يحكمها.. وهي صفقة حسب هذه القراءة قد مكنت الرموز التي تنتمي إلى جهة الساحل من الهيمنة على الحكم من جديد واستحواذها على السلطة، وأقصت أبناء الدواخل ومنعت عنهم حقهم في ممارسة الحكم.

هذه السردية تعتبر أن تاريخ 14 جانفي 2011 هو سطو على تاريخ 17 ديسمبر 2010 وتحويل وجهة الثورة من المناطق المحرومة والجهات التي تمت معاقبتها طوال نصف قرن من الزمن إلى المناطق الساحلية وحواضر العاصمة التي كانت دوما هي المستفيدة من الحكم والسلطة، من أجل ذلك فإن هذه السردية تعتبر أن حراك 25 جويلية 2021 وما قام به الرئيس قيس سعيد من تصرف سياسي انهى به العمل بدستور الثورة وحل الحكومة القائمة وإيقاف عمل البرلمان هو تصحيح لتاريخ الثورة التونسية واسترداد لوهجها الذي خفت واستئناف لمسيرتها التي تعطلت مع تاريخ 14 جانفي 2011 ومن ثم فإن التاريخ الحقيقي للثورة التونسية هو 17 ديسمبر 2010 يوم أقدم محمد البوعزيزي على حرق نفسه احتجاجا على ظلم المنظومة الحاكمة القائمة فما قام به الرئيس قيس سعيد عشية يوم 25 جويلية هو استعادة التاريخ الحقيقي للثورة وإرجاعها إلى أصحابها الحقيقيين الذين قاموا بها…

قرار أجنبي؟

السردية الثالثة: ترى أن ما حصل بداية من يوم 17 ديسمبر 2010 من تحركات شعبية ومن احتجاجات واسعة ومظاهرات شعبية متواصلة في كل الجهات والتي انتهت بمظاهرة ضخمة يوم 14 جانفي 2011 أجبرت الرئيس بن علي على الرحيل ومغادرة البلاد ما هو في الحقيقة إلا قرارا أجنبيا صدر عن القوة العظمى في العالم وعن من يحكم العالم ويدير اللعبة السياسية فيه ويتحكم في مصائر الحكومات والشعوب .. هذه السردية تميل إلى اعتبار ما حصل قبل اثنى عشر عاما كان قرارا خارجيا اتخذ في مراكز النفوذ العالمي التي قررت بداية من سنة 2004 بعد انتهاء حرب الخليج أن تتخلص من كل الحكام العرب الذين انتهت صلاحيتهم السياسية، ولم يعودوا يفيدون السياسة الغربية أكثر وخاصة بعد أن أصبحوا عبئا على الولايات المتحدة الامريكية حينما قرر أغلبهم تأبيد السلطة وتوريثها لأفراد من عائلاتهم وبعد أن وصلوا بحكمهم إلى مداهم الأقصى وفقدوا ثقة شعوبهم التي بدأت تتحرك وتكسر حاجز الخوف وتفكر في الخروج عليهم.
هذه السردية تعتبر أن قيام الثورة التونسية والثورات العربية الأخرى هي ترتيب أجنبي وقرار أمريكي بإنهاء حكم كل الحكام العرب وإعطاء الفرصة إلى غيرهم من قوى المعارضة السياسية وخاصة الأحزاب والحركات الإسلامية المعتدلة والسماح لها بممارسة الحكم…
هذه السردية تعتبر أن مراكز البحث الاستراتيجية الغربية والأمريكية قد أوصت أصحاب القرار السياسي بضرورة تغيير الحكم في الدول العربية ونبهت إلى انتفاضات شعبية على وشك الاندلاع في الوطن العربي نتيجة تدهور وضع الحريات فيه وخاصة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للشعوب الذي تأزم كثيرا وهذا يعني أن القرار الخارجي قد استثمر في حالة التعفن التي كانت عليها الاوضاع في مختلف الدول العربية ووظف احتقان الشعوب العربية وغضبها على حكّامها وجند جهات عدة من سياسيين وإعلاميين ومدونين وأعدها خصيصا لاندلاع ثورات في الوطن العربي للإطاحة بالأنظمة السياسية القائمة…

حكاية شعب مُقسّم..

هذه سرديات ثلاث عن الثورة التونسية وهذه حكاية شعب قسمته الثورة وانقسم حول حقيقتها .. وهذه روايات متصارعة حول حقيقة ما حصل في تونس قبل اثنى عشر عاما من حدث سياسي لم يغير وجه المنطقة العربية فحسب بل وصل تأثيره إلى العالم الغربي .. وهذه سرديات ثلاث لكل واحدة منها منطقها وحججها ومعقوليتها وهي تتصارع من أجل الوجود والبقاء والإقناع أكثر من غيرها من أجل أن تتحول بمفردها إلى  السردية الوحيدة للشعب التونسي التي يتفق عليها ويتوحد حولها…
فهل تنتهي هذه الحرب حول فهم حقيقة ما حصل؟ أم أن صراع السرديات سيتواصل إلى سنوات أخرى حتى يجد الشعب ضالته وسرديته التي يتفق حولها ويكتب بها تاريخه؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى