صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: ‘تابعة’ توفيق الجبالي وفهم العالم…

slama
كتب: نوفل سلامة

مسرح الفنان توفيق الجبالي مسرح غير عادي ليس بوسع أي كان أن يفهمه أو يتابعه…وجمهور توفيق الجبالي لا يمكن أن يكون عاديا من عموم الشعب الكريم المُكبل بمشاكله اليومية ـ البسيطة ـ ولكنها بالنسبة إليه مُتعبة ومُرهقة وهو يفهمها بكل بساطة وبلا تعقيد ولا كثير كلام ويفهمها في توفير النقود في الجيب لتلبية حاجياته الأساسية..

إنه جمهور مختار وجمهور خاص يحظى بقدر من الثقافة والوعي، وقبل ذلك قدرا من الراحة النفسية والاجتماعية حتى يخصص حيزا من وقته لمشاهدة عمل مسرحي يحتاج بذل الجهد العقلي لفهم ما يشاهده وأقرب تعريف لما يقوم به توفيق الجبالي من عمل إبداعي هو أنه مسرح نخبوي موجه إلى نوعية معينة من الجمهور، وذلك لطبيعة هذا المسرح الموغل في الرمزية والقائم على لعبة القول وما وراءه والصورة وما خلفها والحركة ورمزيتها والألوان ودلالاتها..

مسرح الجنون

يُصنِف النُقّاد مسرح توفيق الجبالي ضمن ما يعبر عنه بمسرح الجنون أو الثرثرة العدمية والأسئلة الحائرة التي لا أجوبة لها لكونه متمردا ومنفلتا وصادما ومسرح الحيرة واللا معنى فكل شيء في هذا المسرح فاقد العلاقة مع المنطق المعتاد والعقل المتعارف عليه والتفكير المتعامل به..

آخر هذه الأعمال المجنونة لتوفيق الجبالي مسرحية ‘التابعة’ التي شارك بها في أيام قرطاج المسرحية لهذه السنة، وهي عمل مسرحي لا يخرج من حيث المنطلقات والرؤية الفنية والمعالجة عن مسرحياته الأخرى السابقة القائمة على السخرية النشاز أو السخرية العرجاء أو العاجزة أو السخرية الحزينة والمؤلمة من دون حلول فكل شيء في هذه النوعية من المسرح نشاز، الأضواء والألوان والحديث والمعجم المستعمل والحركة و الركح بما يوحي إلى أنك في حضرة الفوضى والعجز والعدم واللا معنى.

‘تابعة’…أو نحس وشؤم

‘التابعة’ كلمة نستعملها كثيرا في حديثنا اليومي لوصف الوضعية التي يجد فيها المرء نفسه عاجزا عن الخروج من حالة المشكل أو عن حالة تتابع المشاكل فما يكاد الإنسان يخرج من أزمة حتى تحل به ازمة أخرى، ويقع في مشكلة جديدة ويفسر العامة عادة هذه الحالة من تلبس الأزمات والمشاكل بأن صاحبها وراءه تابعة أو نحس وشؤم هي من تسبب وقوعه في الأزمات..
و’التابعة’ من أدوات التفسير التي لجأ إليها الإنسان البسيط لفهم وتفسير ما يحل به من أزمات متتابعة ولازمة ومن حالة العجز عن الخروج من المشاكل وتوفيق الجبالي يستنجد بهذا المعنى والفهم لإثارة الأسئلة الوجودية المعتادة والأسئلة الحائرة التي تُكبل وتأسر الإنسان العربي والتي عالجها في كل مسرحياته، لماذا نحن هكذا؟ لماذا يحل بنا هذا الدمار وهذا الخراب؟
ولماذا لم نقدر أن نخرج من حالة العجز العربي أمام تفوق العالم الآخر؟ وأسئلة أخرى من أين نبدأ العلاج لأمراضنا؟ وكيف السبيل لإنهاء حالة الضعف والعجز الذي لم يقدر العقل العربي المبدع أن يجد لها جوابا؟

رمزية وغموض

” التابعة ” مسرحية على ما فيها من رمزية وغموض وفوضى وثرثرة مبالغة أحيانا وأحيانا أخرى عبثية ومقلقة، فهي تثير فيك السؤال وتدعوك إلى التفكير والتأمل في كل القضايا التي من حولنا المحلية والعالمية لماذا يسير العالم على هذه الشاكلة من عدم احترام الانسان؟
ولماذا نرى الظلم منتشرا في كل العالم أمام مرأى الجميع دون أن نُبدي حراكا أو نملك القدرة في إيقافه؟ لماذا تتواصل الحرب على غزة ويتواصل الدمار ولا يتوقف التقتيل حتى أصبحنا نتعايش معه عاجزين عن وضع حد لإيقافه؟
لماذا يعيش عالمنا العربي حالة دمار وخراب وجهل وتراجع حضاري وارتهان للغرب وتبعية مقيتة وعجز عن فك الارتباط مع قوى الهيمنة والاستعمار الجديد؟…

هل هي لعنة تلازمنا لـ تفريطنا في مقومات القوة والريادة؟ هل هي التابعة التي تتبعنا منذ أن فرطنا في منحة السماء حينما جعلتنا في لحظة من التاريخ سادة العالم وقادته وحولت مركز العالم عند العرب؟ أم هي نقمة السماء حينما تركنا جانبا نماذج إرشادنا وطريق تفوقنا وارتمينا في أحضان الغير بإرادتنا ووعينا ولبسنا لبوسه وتبينا أفكاره وأنماط عيشه وطريقة تفكيره؟

عجز مركب ومعقد

حاول توفيق الجبالي أن يقدم عملا مسرحيا راهنيا يبسط فيه مشاكل العالم العربي بكل آلامه وأحزانه التي نعرفها وضعفه وخيباته التي تتعبنا من كثرة ترديدها ويقدم مشاهد من هذا العجز المركب والمعقد والمزمن والمتواصل، والذي يلازمنا رغم كثرة الحديث عنه ويصور حالا مريضة أضحكت وأبكت وأوجعت الحاضرين كما حاول مع هذا المشهد القاتم أن ينهي ‘تابعته’ ببريق أمل يخرجه توفيق الجبالي من دائرة الإنسان و فعله ويرميه في أحضان القدر…

عالم مجنون

فما يحصل في هذا العالم المجنون الفاقد للمعايير والمتنكر للقيم والمبادئ وهذا العالم الظالم غير المنصف الذي أدار ظهره للعدالة حلّه حسب ظنه فيما يحصل من لعبة الأقدار ومن تشابك المسارات والمصائر ومن غموض الطريق .. لعبة الأقدار التي عساها أن تنصف عالم شعوب الجنوب المتعبة والمرهقة.
إنها رؤية فنية إبداعية جمالية تحاول انقاذ البشرية من خيار انتحارها وتفتح طريق أمل لخلاص الانسان أراده الجبالي من دون تعويل على الإنسان نفسه أن يجد لنفسه طريق خلاصه، كان خلاصه ليس بيده مهما خطط ومهما برمج ومهما صمم..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى