نوفل سلامة يكتب: تأملات محمد إقبال في تجديد التفكير الديني..

كتب: نوفل سلامة
تمر بنا هذه الأيام الذكرى السابعة والأربعين بعد المائة لميلاد المصلح و المفكر والفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال في التاسع من نوفمبر 1877 وبهذه المناسبة نظمت جامعة الزيتونة بالتعاون مع سفارة دولة باكستان ندوة علمية احتفاء بإرثه الفكري وخاصة كتابه الذي اشتهر به وظهر في ثلاثينات القرن الماضي ” تجديد التفكير الديني في الإسلام “…
قضية محيّرة
القضية التي ظل الفكر الإسلامي حائرا في طريقة التعامل معها ومثلت إحدى الأزمات المعرفية التي مر بها المسلمون والمعضلة التي يعدها البعض من معطلات تطور المعرفة والثقافة الإسلامية وتقدم المجتمعات الإسلامية والمسألة التي ارتبط بها تقدم وتأخر المسلمين والاشكالية الذي ظلت إلى اليوم محل نقاش وجدال متواصل لم ينته…
وتعد محاولة محمد إقبال الاهتمام بموضوع التجديد الديني من أهم المحاولات المبكرة التي ظهرت في العالم الإسلامي غير أنها لم تلق من العناية والاهتمام ما تستحقه ولم تجد من المسلمين من يستأنفها ويبني على ما وصل إليه من أفكار ورؤى أو يطور في ما أسماه محمد إقبال تأملات قي عملية الإحياء للروح الإسلامية من جديد في سياق تاريخي عرف تغول النزعة العقلية وانتشار النظريات والفلسفات الغربية، وتراجع كل ما هو مجال روحي وديني تزامن مع سقوط الخلافة الإسلامية على أيدي كمال أتاتورك وتفكك العالم الإسلامي وانبهار المسلمين بالحضارة الغربية ومنجز العالم الحر المتقدم في مجال العلم والمعرفة وحداثته وعصر أنواره.
تجديد الفكر الديني
السياق العام الذي دعا محمد إقبال إلى الاهتمام بقضية تجديد التفكير الديني في الإسلام، هو سياق سقوط الخلافة الإسلامية وتداعياتها المؤلمة على العالم الإسلامي وما خلفته من هزة عنيفة في وجدان المسلم وما فتحته من نقاش واسع بين النخب الدينية والفكرية والسياسية حول حاضر العالم الإسلامي ومستقبله ومكانته بين أمم تسير نحو الريادة و القوة والتفوق…
فقد كان في ظل الوحدة الإسلامية من الصعب التفكير من خارج بوتقة الإسلام الموحد واليوم بفعل سقوط الخلافة العثمانية وجد العالم الإسلامي نفسه مجبرا على التفكير بصورة مجزأة خاصة بعد أن أعلنت تركيا الكمالية التخلي عن الهوية الإسلامية والانسلاخ من محيطها الإسلامي والتنكر لتاريخها وتراثها وتقاليدها، وتبنت النهج الغربي والحداثة الغربية أعلت من قيمة الفكر والمعرفة الغربيين وجعلتهما طريقا للولوج الى عالم التقدم والحداثة..
ومنذ تلك اللحظة بدأ الجدل حول القرآن الكريم وتفسيره والسنة النبوية وتدوينها
والعبادات والتشريعات الدينية وموضوعات أخرى لامست موضوع المرأة وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية وقضايا السياسة والحكم ..
تأملات فكرية
في هذا السياق التاريخي المتشنج وهذا المخاض الفكري الذي انتجه التحول السياسي في المجتمع الإسلامي بدأ محمد إقبال في تأملاته الفكرية و في البحث عن كيفية لاستئناف الحياة للجسم الإسلامي وإعادة إحياء الروح الدينية للمسلم المحمول عليه في ذلك المنعرج من التاريخ أن ينهض من جديد وسط عالم فرض نفسه وفي عالم بدأ يسير بسرعة فائقة تحت سيطرة الرجل الأبيض.
في هذا المناخ قدم محمد إقبال رؤيته ونظرته لإصلاح المجتمع الإسلامي وتقديم تصوره لكيفية استئناف التفكير الديني في نظام الإسلام كله من دون أن يقطع ما بينه والماضي وتراث المسلمين وتجربتهم التاريخية وهي تأملات في قضايا حساسة تأثرت بالمؤثرات الغربية وساهمت في تشكيل ذهنية العقل وبنية التفكير الإسلامي من وراء سؤال مهم ومحرج كيف يمكن للنتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تعيننا في إعادة النظر في التفكير الديني الإسلامي و بنائه من جديد بناء يعيد الأمة الإسلامية إلى الحضارة والتاريخ.
المقاربة التي يقدمها محمد إقبال لــ تجديد التفكير الديني الطريق الذي سوف يجعل المسلمين ينخرطون في العالم الحديث وملاءمة حياتهم مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها تقوم على جملة من المقدمات المنهجية ونظرة جديدة لأصول الشريعة التي يقوم عليها الاجتهاد الديني والاجتهاد الفقهي:
إعادة بناء العقل الإسلامي
المقدمة الأولى: الأخذ بعين الاعتبار في عملية تجديد التفكير الديني المأثور من فلسفة الإسلام لا المسلمين إلى جانب ما عرفته المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة والمقصود من هذه المقدمة العودة مباشرة إلى القرآن في اكتشاف فلسفته وفي التعرف عليها نحو فهم جديد معاصر للنص الإلهي وللوحي ودعوة المسلم إلى فهم القرآن على ضوء المستجد من علوم ومعارف لذلك نراه في تفسيره للقرآن وفهمه له لا يستشهد بأي تفسير من التفاسير القديمة ولا يعود إلى أقوال أصحابها.
المقدمة الثانية: فك الارتباط بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليونانية التي يعتبرها قد اضرت أيما إضرار بالفكر الإسلامي وكانت موغلة في التفكير النظري في حين تمتاز الفلسفة الإسلامية ببعدها العملي في عملية لجعل الفكر الإسلامي متميزا ومستقلا بذاته وفكرا عمليا مؤثرا ومتحركا في بيئته.
المقدمة الثالثة: إعادة بناء العقل الإسلامي وإعادة صياغة العقل الديني على ما جد من جديد في عالم العلم وتفرعات المعرفة الحديثة وربط الصلة من جديد بين العلم الحديث والدين في ظرفية وسياق حصل فيهما تقليص كبير لمكانة الدين، بل وازاحته من الحياة وحددت له مساحة ضيقة لا تأثير لها إلا في المجال الفردي وبصورة سطحية للغاية وفي المقابل أصبح للعلم مكانة متقدمة في الحياة ولذلك كان مشروع إقبال التأكيد على أن روح القرآن لا تتعارض مع العلم ونظرياته الجديدة وهي قادرة على مواكبة روح العصر.
المقدمة الرابعة : إن أوروبا بما وصلت إليه من تقدم مادي وبما ينشر فيها من وابل من الأفكار والفلسفات والرؤى باتت أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي والدين في نظره هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري اعدادا أخلاقيا يؤهله لتحمل التبعة العظمى والسمو الإنساني بعد أن اعتبرته الحداثة الغربية غير معني ببناء وتكوين المجتمع والدولة والأمة ولا مكان له في المسائل الكبرى المتصلة بمجالات الحداثة والتمدن والتقدم لذلك كانت محاولة إقبال في التأمل في مسألة تجديد التفكير الديني هي إعادة العلاقة بين الدين والعلم الحديث الميزة والخاصية التي قامت عليها الحضارة الإسلامية والنظر الديني في بداية تشكله فالدين في نظره في حاجة إلى الفلسفة بل أن وظيفة الدين في أشد الحاجة إلى المبادئ العلمية المسلمة وفي حاجة أكثر إلى أساس عقلي لمبادئه الأساسية لفهم الواقع والتأثير فيه وتفسيره يقول ” إن عصور الإيمان هي عصور النظر العقلي لا بمعنى التعالي وإنما بمفهوم التعاون والتشارك” لذلك كان يعتقد بأن الفلسفة عليها أن تسلم بأن الدين ليس مسألة جزئية وشعورا مجردا وإنما الدين هو جوهر الحياة لذلك كان الدين عنده يهدف إلى الاتصال بالحقيقة بصورة أوثق وطريقة أقرب.
المقدمة الخامسة : الدفاع عن النزعة الروحية التي حاولت النزعة العقلية في الفلسفات الأوروبية تجفيف منابعها وهي النزعة التي تميز بها إقبال وتحدث بها مبكرا وأقام عليها مشروعه الإحيائي وهو يرى أن الحداثة الغربية قد فقدت توازنها حينما تخلت عن جوانبها الروحية فهناك في نظره ما هو أسمى من العقل يمكن أن يصل إليه الانسان وهو التجربة الروحية الشعورية وهو المنتهى الأخير و هو الوصول الى مبتغى الله في رحلة العقل الشاقة والطويلة إلى هذا المنتهى بما يعني أن كل مشروع إحيائي وكل نهضة إنسانية تحتاج إلى ابعاد روحية و تأويل الكون تأويلا روحيا و تحرير الفرد تحريرا روحيا وضع مبادئ ذات أبعاد روحية لتطور المجتمع الإنساني في حركة لإعادة التوازن العالمي المفقود بين البعدين العقلي والبعد الروحي
هل الشريعة قابلة للتجديد؟
بعد هذه المقدمات التي أقام عليها محمد اقبال تفكيره وتأملاته ونظره في مسألة جمود العقل الديني وفي كيفية تجديد التفكير الإسلامي يطرح السؤال المحرج هل أن شريعة الإسلام قابلة للتجديد والتطور؟ بهذا السؤال فتح اقبال أمام الفكر الإسلامي آفاق النظر في موضوع لا يخلو من التعقيد والحساسية وكانت إجابته مركزة على الأصول العامة للتشريع الإسلامي الألية التي وضعها الفقهاء والأصوليون للتفكير والاجتهاد حيث قدم مشروعا يتكون من أربعة عناصر:
أولا: يرى محمد إقبال أن أصحاب المذاهب الفقهية لم يدعوا أن تفسيرهم للأمور واستنباطهم للأحكام هو منتهى العلم وآخر كلمة تُقال.
ثانيا: ليس هناك في نظره ما يمنع شرعا ودينا من تفسير مبادئ الشريعة تفسيرا جديدا على ضوء تجارب المسلمين المعاصرة وما يحدث من متغيرات.
ثالثا : يقر أن الناظر في القرآن الكريم يجد أن النص الإلهي يتحدث على أن خلق العالم وتكون النظام فيه وارتقائه قد حصل بالتدرج ما يعطي الحق لكل جيل في أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه التي لا تمثل عائقا أمام التفكير في حل مشكلاته الخاصة وهو ما يجعل من الشريعة الإسلامية متحركة ومتطورة ولا تقبل الجمود وبداخلها القابلية للتطور والقابلية للتلاؤم مع مستجدات الحياة و للتدليل على فكرة قابلية الأصول الإسلامية للتناغم مع فكرة التطور استجابتها لتطور للفكر الإنساني في المجتمع المعاصر فقد اعتبر أن المتأمل في القرآن الكريم يجد آياته قد تناولت الثوابت والمتغيرات وأن هذا الوجود يحتوي على الثبات والتحول وبه عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم وأخرى تدفعك للذهاب نحو المستقبل وحث على الحركة الدائمة والتفكير المتواصل يقول ” لو أننا درسنا شريعتنا في علاقة بما يحصل من تطور هائل إلى حد الانقلاب في الحياة الاقتصادية الحديثة لكان من المرجح أن يكتشف العقل المسلم في أصول التشريع نواح أخرى جديدة لم تكشف بعد…
فلو أننا واصلنا الجهد الذي قام به علماء الحديث والمشتغلين بالسنة النبوية و تركيزهم الكبير على المنهج والنظر المجرد لـ حفظها وتدوينها وصيانتها دون مراعاة الأحوال الواقعية لأمكن لنا أن نصل إلى افهام جديدة معاصرة للواقع كما حصل في العهد الإسلامي الأول من تأويل للسنة في علاقة الحياة العامة للمسلمين بمبادئ التشريع التي صرح بها القرآن.
رابعا : آلية الإجماع في نظره من أهم الأفكار التي قام عليها التشريع في الإسلام على الرغم من أن هذا الأصل قد عرف خلافا شديدا حوله بدأ مبكرا منذ عصور الفقه الأولى وتواصل وظل مجرد فكرة لا غير وقلما اتخذ شكل نظام دائم في أي بلد من بلاد الإسلام وتحوله إلى نظام تشريعي ثابت قد تعارض مع تجربة الحكم و مع المصالح السياسية للحكم المطلق الذي نشأ بعد عهد الخليفة الرابع يعتبر محمد إقبال أن العالم يحكم بفكرة الإجماع في قراراته وأفكاره وهو فكرة يمكن الاستفادة منها وجعلها ألية لتنظيم الحياة فقط تحتاج إلى توسيع في دائرة الانتماء إليها لتشمل أفراد من غير علماء الدين وإلى تخصصات أخرى في مجالات العلم الأخرى وبهذه الطريقة وحدها يمكن لنا أن نبعث القوة والنشاط فيما خيم على نظمنا التشريعية من سبات ونيسر الطريق إلى التطور.
رابعا : آلية القياس تناول محمد إقبال ظروف نشأته ومن كان وراءه من علماء الأحناف الذين استنبطوا هذه الأداة في التفكير المرتبطة بسياق تاريخي وجغرافي محدد لإيجاد حلول والاستجابة إلى أسئلة عصرهم وما أوحت به أحوالهم وهو يعترض على هذه الآلية في تطبيق الدين وشريعته فالقياس في نظره لم يعد مقبولا في العصر الحاضر وهو منطق مضر لأنه أوقف حركة وحرية الإبداع وما في الحياة من إكراهات تفرض على المسلمين إقامة نظام تشريعي نظري وعالم متخيل لا يمت للواقع بأي صلة.
أهم الملامح
هذه أهم ملامح مشروع محمد إقبال لإعادة فهم الأصول الدينية وإعادة تجديدها من أجل روح دينية معاصرة وهذه رؤيته لتجديد التكفير الإسلامي وفق نظرة للاجتهاد في النص الديني تقوم على فكرة الاجتهاد المطلق غير المقيد بأي مذهب من المذاهب الفقهية..
وانما العودة إلى الأصول الثابتة وخاصة النص القرآني والنص الحديثي مع الأخذ بجديد العلوم والثابت من المعرفة الإنسانية وفي توافق بين العلم والدين والنزعة المادية والنزعة الروحية لإحداث التوازن المطلوب لسلامة المجتمع وخير الإنسان ينتهي إلى الإقرار بأن الدين أمر ممكن وحاجة ضرورية للعالم…