صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: انتخاب اليسار الفرنسي الموّحد وأزمة الصمود …

slama
كتب: نوفل سلامة

في الوقت الذي كان فيه الاعتقاد سائدا بأن الطريق ممهدا لفوز حزب اليمين المتطرف بقيادة ” ماري لوبان ” في الدورة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية السابقة لأوانها بعد أن حقق تقدما في الدورة الأولى على كل الأحزاب التقليدية وجاء في المرتبة الأولى وخاصة تقدمه على حزب الرئيس إيمانويل ماكرون…

خالف كل التوقعات

وفي الوقت الذي كانت فيه القناعة حاصلة بأن الشعوب الأوروبية قد اختارت التيارات الشعبوية والأحزاب الوطنية ذات المرجعية القومية التي تدافع عن هوية البلاد وخصوصية الشعوب، وأن التاريخ يُكتب من جديد بوصول هذه الأحزاب إلى الحكم والسلطة بعد أن وصلوا إلى البرلمان الأوروبي…

وفي الوقت الذي خلنا فيه أن الأحزاب القادمة من رحم الأيديولوجيات الكلاسيكية في طريقها إلى الاندثار والتلاشي أمام صعود الشعبويات وأن الشعوب قد تخلت وطلّقت هذه النوعية من التشكيلات الحزبية، تفاجئنا الانتخابات الفرنسية الأخيرة على عكس ما أعلنت عنه مؤسسات سبر الآراء بفوز الجبهة الشعبية الفرنسية في الدور الثاني وانتصار أحزاب اليسار التاريخي الموحد في سابقة هي الأولى من نوعها في أوروبا…

مفاجأة مدوية

حيث لم نشهد من قبل أن تكتل كل اليساريين والشيوعيين وكل التنظيمات ذات التوجهات الماركسية في جبهة انتخابية واحدة نظرا للخلافات الفكرية الكبيرة التي تشقها وخاصة مشكلة الخيارات والمواقف و مأزق المرجعيات، فهل كان انتخاب جزء كبير من الشعب الفرنسي للجبهة الشعبية ذات الميولات اليسارية من أجل استعادة هوية اليسار المفقودة أم كان هذا الإنجاز الذي تحقق وراءه خوف الفرنسيين من تمكن اليمين من الحكم وخشية الناخبين من تحول وجهة ‘فرنسة’ العلمانية المنفتحة نحو التصلب والانغلاق والتخلي عن المكاسب التي تحققت في ظل الجمهورية الفرنسية؟

هل يصمد اليسار؟

فهل يقدر هذا اليسار التاريخي الموحد أن يصمد أمام تحديات الواقع واكراهات الحكم والسلطة، وأمام ما يطلبه الشعب وخاصة قدرته على معالجة كل المسائل الخلافية التي تشق هذا المكون غير المتجانس وتجاوز الاختلافات الكبيرة في المواقف في علاقة بكبرى القضايا التي تُتعب فرنسا وتُتعب أوروبا بكاملها؟

بعد هذا الفوز التاريخي لليسار الفرنسي مجمعا ولو أنه لا يسمح له بالحكم بمفرده لكونه لا يشكل أغلبية مريحة في البرلمان ويحتاج إلى عقد تحالفات أخرى مع أحزاب قريبة منه لتشكيل حكومة تقودها الجبهة الشعبية من دون حاجة إلى أصوات اليمين المتطرف، إلا أنه يعد إنجازا كبيرا وتجربة يمكن الاقتداء بها والسير على منوالها في البلدان التي يعاني فيها اليسار من آفة الانقسامات والاختلافات غير أن المشكل الذي يطرحه هذا الإنجاز الانتخابي لأحزاب اليسار في معرفة هل أن فشل هذه الأحزاب الماركسية بمختلف تشكيلاتها الأيديولوجية في مختلف المحطات الانتخابية السابقة يعود إلى خلل في الفكرة الماركسية في حد ذاتها كونها غير مواتية للحياة الإنسانية..
وبالتالي يتعلق الأمر بخلل في هذه الأيديولوجيا التي بشّرت الإنسانية بعالم أفضل من العالم الرأسمالي لكنها فشلت وانتهت إلى مآس أكبر من الرأسمالية؟
أم أن موطن الضعف الذي جعل الشعوب تهجرها وتخيّر عليها الأحزاب القومية والتيارات الشعوبية يعود إلى الرموز اليسارية التي تتحكم فيها النزعة النرجسية والذات المتعالية وحب الظهور والزعامة بما يجعل المشكل داخل هذه العائلة اليسارية الموسعة هو مشكل قيادة ومشكل من يحكم؟

فرصة جديدة لليسار

لا نعتقد أن التصويت لليسار الموحد كان من أجل استرجاع جزء من شرفه واستعادة قيمه النبيلة ونزعته الإنسانية التي تأسس عليها والقائمة على نصرة الشعوب المضطهدة ومحاربة العنصرية والانحياز لقضايا حقوق الشعوب والإنسان المضطهد ومقاومة الاستبداد والحكم التسلطي والانخراط في الدفاع عن ضحايا السياسات ‘النيو ليبرالية’ التي انتجت الفقر والبطالة والتهميش فلا يسار يمكنه أن يعيش في مستنقع ممسوخ الهوية والقيم، وإنما الذي حصل وجعل جانبا من الشعب الفرنسي يميل إلى الجبهة الشعبية اليسارية المتكونة من الاشتراكيين والشيوعيين وحزب الخضر البيئي وحزب فرنسا الأبية المصنف في أقصى اليسار وهو حزب ماركسي متطرف بقيادة زعيمه ” جان لوك ميلونشون ” هو العرض الانتخابي بمضمونه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي قدمته الجبهة والتي رأى فيه الناخب الفرنسي أنه وعد مقبول يمكن الثقة فيه وبالتالي إعطاء فرصة لهذه الأحزاب اليسارية مجتمعة لكي تحققه وتفي بوعودها رغم أنها فشلت في السابق لما حكمت منفردة أو كانت في موقع الضعف.

الوضع الاجتماعي

هذا العرض الانتخابي الذي جعل الكفة تميل لصالح الجبهة الشعبية يشمل ملف الوضع الاجتماعي للعائلات الفرنسية وملف تحسين المقدرة الشرائية للعمال والموظفين، وذلك بالترفيع في الأجر الأدنى إلى حدود 1600 يورو والتراجع عن الإجراء الذي اتخذه الرئيس ماكرون في الترفيع في سن التقاعد إلى سن 64 سنة وهي القضية التي عرفت احتجاجات كبيرة في فرنسا ورفضتها النقابات واغضبت الشعب الفرنسي الذي عبّر عن رفضه لهذا الترفيع في سن العمل الذي يعتبره مجحفا ولا يراعي صحة العمال وعدم قدرتهم على العمل فوق سن الستين وطالب بالرجوع عن هذه الإجراءات ولكن الحكومة الفرنسية قد فرضتها بالقوة ومررت القانون دون الاستماع لأصوات المعارضين…

واليوم الجبهة الشعبية تعد بمراجعة سن التقاعد بما يناسب الفرد الفرنسي والملف الثالث هو ملف الهجرة غير النظامية الذي كان محل خلاف بين كل الأحزاب وخاصة مع أحزاب اليمين التي كانت تنوي اتباع إجراءات أكثر صرامة وشدة تجاه المهاجرين تصل إلى حد طردهم وعدم القبول بأي مهاجر فوق التراب الفرنسي والإعلان بأن بلدانهم أولى بهم وهي كفيلة بهم.

سياسة جديدة في الهجرة

في هذا الموضوع وعدت الجبهة الشعبية باتباع سياسة مرنة مع المهاجرين وأنها لن تمرر قوانين وتشريعات متشددة تجاههم وتعهدت بالتراجع عن كل الخيارات التي ألزمت فرنسا بمواقف فيها معاداة لحقوق الإنسان وتنم عن نبرة عنصرية وتنتهي إلى فقدان السيادة الوطنية وفقدان سلطة القرار السياسي.
في العرض السياسي وعدت الجبهة الشعبية بالقيام بإصلاحات في النظام السياسي والبدء في إجراء تغيير يخص الهندسة الدستورية، وذلك بالانتقال من النظام الرئاسوي الذي طبقه الرئيس ماكرون بكل مساوئه نحو تبني النظام البرلماني الذي تحكمه الأحزاب السياسية والحد من صلاحيات وتدخل الرئيس في الحياة السياسية حيث اتضح أن كل شيء يمر من خلال وعبر الرئيس مما جعل كل الحياة السياسية تدور حول شخصه مما قلل من دور الأحزاب والبرلمان وهذه الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها الرئيس ماكرون في ظل الجمهورية الخامسة هي التي سوف تمنحه صلاحيات لمواصلة الحكم و إدارة الحكومة مباشرة درءا لكل فراغ سياسي في صورة فشل الفرقاء السياسية وعدم قدرة الجبهة الشعبية وتوصلها إلى تشكيل حكومة ائتلافية تمكنهم من التعايش معا…

وبمرور سنة دون التوصل إلى ذلك يكون بإمكان الرئيس ماكرون حل البرلمان مجددا ودعوة الناخبين إلى انتخابات أخرى على أمل أن تفرز أغلبية واضحة قادرة على الحكم طبقا للفصل 16 من الدستور الفرنسي.
تعمدنا عدم التعرض إلى موضوع القضية الفلسطينية وما يحصل في غزة من تقتيل وتدمير عشوائي وما ترتكبه الدولة العبرية وآلتها الحربية من جرائم إبادة جماعية وتهجير قصري في حق الفلسطينيين هي اليوم قضايا محل متابعة في محكمة الجنايات الدولية و تعمدنا عدم التركيز على القضية الفلسطينية وتأثيرها في الانتخابات الفرنسية رغم حضورها البارز في الحملة الانتخابية
لقناعة حصلت لنا وهي أنه رغم حساسية الموضوع ورغم أهمية ما يدور في غزة بعد عملية طوفان الأقصى والحرب على الشعب الفلسطيني والتي شكلت نقطة خلاف كبرى بين الأحزاب اليسارية التي تتشكل منها الجبهة الشعبية وأحزاب اليمين وخاصة حزب ماري لوبان المتطرف، وقد كان ملفا حاضرا بقوة في كل الحملة الانتخابية وخاصة موقف ميلونشون الواضح والمبدئي بالإعلان صراحة عن تعهده بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فوزه في الانتخابات، إلا أننا نعتقد أن القضايا الداخلية التي تهم حياة المواطن الفرنسي والمشاكل الاجتماعية التي تتعبه هي التي رجحت كفة الجبهة الشعبية و جعلت جانبا من الشعب الفرنسي ينتخب أحزاب اليسار التي لا تعرف تجانسا فيما بينها وموقفا موحدا مما يجري في غزة وخاصة الموقف من حماس وجناحها العسكري كتائب عز الدين القسام التي تقود الحرب ضد الصهاينة والموقف مما حصل في عملية طوفان الأقصى الذي يعتبرها جانب من الأحزاب اليسارية عملية إرهابية بحق الشعب اليهودي.

سؤال يطرح نفسه؟

و اليوم وبعد هذا الإنجاز التاريخي لأحزاب اليسار التاريخي الفرنسي الموحد في جبهة انتخابية فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يصمد هذا التكتل اليساري وينسى خلافاته القديمة ويتجه نحو مزيد من التجانس والتوافق ويشكل حكومة أم أن خلافاته التاريخية و الأيديولوجية ستعود من جديد لتنتهي التجربة ويعود مشتتا كما حصل لـ جبهتنا التونسية التي تشكلت من أحزاب قومية ويسارية ذات مرجعية ماركسية لتحقيق أهداف الثورة في 7 أكتوبر 2012 ولم تصمد طويلا بعد أن دخلت في صراعات داخلية كبرى انتهت بها إلى الاندثار قبل انتخابات سنة 2019 ولم نعد نسمع لها اليوم صوتا ولا لمسنا لها حضورا..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى