صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ الدكتور فتحي القاسمي: هل من معنى لاستحضار شخصية الثعالبي في الزمن الراهن؟

slama
كتب: نوفل سلامة

لماذا الحديث اليوم على شخصية الشيخ عبد العزيز الثعالبي ؟ وهل من معنى في زمن التحولات الكبرى والتقلبات العاصفة التي يعيشها العالم وتعيشها تونس من العودة إلى شخصية عاصرت أحداث سنوات العشرين من القرن الماضي وعاشت تحدياته ثم اختفت في صمت؟

وهل من المفيد اليوم أن نستجلب فكر رجل أثر في زمانه ثم انسحب من المشهد العام مقهورا بعد أن انقلب عليه صحبه ونبذته العامة؟ وفي الأخير أي رهان وأي راهنية اليوم لـ مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات من وراء تأثيثها لندوة علمية للحديث عن شخصية تعمد الكثير نسيانها وتغييبها؟

أسئلة مشروعة

كانت هذه تقريبا بعض هواجس رواد المؤسسة وهم يواكبون ندوة انعقدت مؤخرا وأثثها أستاذ الحضارة والتاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب والعلوم الانسانية بتونس الدكتور فتحي القاسمي الذي بدد بلسان عربي فصيح وبأسلوب من قبيل السهل الممتنع وبكم عزيز من المعلومات التاريخية والمعرفية كل هذه الأسئلة المشروعة التي يريد أصحابها أن يكون اهتمامهم راهنيا وملتصقا بمشاغل الحاضر وقضايا الراهن.
أول مدخل لتنظيم هذه الندوة والدافع إليها هو الهم المشترك الذي يجمع الدكتور عبد الجليل التميمي و الدكتور فتحي القاسمي في الانشغال بموضوع المغرب العربي الكبير وقضاياه الحارقة وخاصة هاجس ” كلفة اللامغرب ” والنتائج السلبية الناجمة عن غياب أي اندماج بين شعوب المنطقة المغاربية والخسائر التي تتكبدها الدول المغاربية جراء تواصل سياسة الإنكار والقطيعة مع فكرة الوحدة المغاربية.. والمدخل الثاني لعقد هذا اللقاء هو تأسيس الدكتور فتحي القاسمي لمؤسسة علمية بحثية تعنى بقضايا المنطقة المغاربية وهي “المؤسسة المغاربية للطباعة والمثاقفة والتوثيق” التي انطلق نشاطها بطباعة مؤلفين هامين الأول بعنوان ” التواصل الفكري بين النخبة الإصلاحية في المغرب العربي ” للكاتب الجزائري مولود عويمر والثاني كتاب ” تونس الشهيدة ” للشيخ عبد العزيز الثعالبي وفيه حديث مهم عن خطر الاستعمار وعن رد كل حججه الزائفة التي خدع بها شعوب المنطقة وحكامها ورد دعواته من كون الاستعمار مفيد لهذه الشعوب لإخراجها من التخلف وتمدينها وجلب الحضارة إليها وبذلك يكون هذا الكاتب خطاب قد عرى به الثعالبي مبكرا المستعمر الفرنسي وفتح طريقا سوف يكون له شأن في قادم الأعوام لبث روح جديدة من أجل التحرر والانعتاق وحصول حالة من الوعي النضالي المتطور سوف تستفيد منه النخبة السياسية التي جاءت بعد الثعالبي وأخذت عنه المشعل لتواصل النضال بأشكال ووسائل توافق مرحلتها التي ليست بالضرورة الحظة التاريخية التي عايشها الشيخ الثعالبي.

تونس الشهيدة

من هذا المنطلق فإن العودة إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي قد فرضتها الطبعة الجديدة لكتاب تونس الشهيدة التي كان وراءها الدكتور فتحي القاسمي وهو المؤلف الذي كان سببا في اعتقال الشيخ و محاكمته قبل تبرئته حينما أنصفه القضاء الفرنسي لقناعة حصلت لديه بقوة حجج الثعالبي وهو يحاور سلطة الاحتلال وصحة خطابه تجاه تهافت موقف فرنسا الاستعمارية .
كما أن لهذا اللقاء راهنية أخرى في كون كتاب تونس الشهيدة كان قد حجب من المكتبات لسنوات عديدة وربما كان من وراء قرار رسمي من دولة الاستقلال لما يحتويه من نزعة ثورية ومن نبرة حجاجية عالية ومن موقف واضح وجلي من سلطة الاحتلال ومن فرنسا الاستعمارية وهو أسلوب يعتمد عليه من يكتب التاريخ الرسمي في تعمد تغييب كل من يزاحم المنتصر في الزعامة والريادة ولعل هذه الندوة وغيرها من الندوات تعدل قليلا وتصحح جزءا من ذاكرتنا الوطنية المشتركة التي عانت كثيرا من الاقصاء والتهميش ومحاولات النسيان والتغافل عن رموز كثر لعبوا أدوارا مختلفة من أجل حرية الشعب التونسي واستقلال ترابه والشيخ عبد العزيز الثعالبي واحد من هؤلاء الكبار الذين سعت الرواية التاريخية الرسمية التي كتبها باني تونس الحديثة ومؤرخوه إقصاءه وإخراجه من الذاكرة الوطنية والتقليل من شأنه ثم تشويهه.

علاقات الثعالبي

لقد قيل الكثير عن الشيخ الثعالبي وكتب الكثير في إنصافه ورد الاعتبار إليه وقيل الكثير عن أدوارها الريادية التي لعبها لما حل في المشرق العربي والعلاقات الكبيرة التي كانت تجمعه بكبار العلماء والمفكرين في عصره والتقدير والاحترام والمكانة التي كان يحتلها واعتراف حكام المنطقة العربية و نخبتها المثقفة بجهده في عديد القضايا وخاصة قضية القدس والقضية الفلسطينية ومع ذلك لازال هناك الكثير ما لم يقل عن هذا الشيخ الذي يصفه ضيف المؤسسة الدكتور فتحي القاسمي ” بالمشاكس الهرم ” ويقول عنه البعض إذا كان على الدوعاجي منبوذا وأحمد الدرعي مغمورا فإن الثعالبي عاش في أيامه الأخيرة بعد عودته من المشرق مقهورا رغم كل التضحيات التي قام بها والعمل الذي أنجزه من أجل القضية التونسية في مرحلة كانت فرنسا تحكم قبضتها على كامل المشهد بالبلاد.

قناعات مشتركة

ركز الدكتور فتحي القاسمي في حديثه عن الثعالبي وكتابه تونس الشهيدة على ابراز أن الكتاب كان في الأصل نصا باللغة الفرنسية عكس من خلاله الشيخ أفكار وهموم الطبقة المفكرة في زمانه وهواجس الانتلجنسيا التونسية في فترة العشرينات من القرن الماضي والمخاوف التي كان يحملها الشعب من تواصل الاستعمار وتواصل بسط قبضته على كل مفاصل المجتمع وكل مقدرات البلاد التي بانت واتضحت بعد اكتشاف مادة الفسفاط وما رافقها من حرص كبير من سلطة الاستعمار على استغلالها وتوظيفها لصالح فرنسا التي كثيرا ما كانت تصرح بأن دخولها الى تونس لم يكن من أجل احتلالها ولا استعمارها وإنما من أجل حمايتها وحماية أراضيها من كل اعتداء مرتقب، وعلى هذا فالكتاب هو حصيلة عمل جماعي وقناعات مشتركة كانت النخبة التونسية تتداولها وتتحدث بها وقام الثعالبي بجمعها والتأليف بينها وإخراجها في هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره بيان النخبة التونسية الموجه الى السلطة الاستعمارية يحمل مطالبها ومطالب الشعب التونسي المشرعة مما يجعل الكتاب وأن كان قد ألفه الشيح الثعالبي إلا أن نسبته تعود في الحقيقة إلى كل الطبقة المثقفة في تلك المرحلة من النضال الوطني وهي مسألة كثيرا ما كان يعترف بها الثعالبي ولا ينكرها ولإبراز هذا المعطى الهام في نسبة الكتاب الى كل الطبقة المفكرة في تونس فإن الثعالبي تعمد افتتاح الحديث وهو يواجه سلطة الاستعمار بعبارة “نحن ” للدلالة على أن خطاب الكتاب هو خطاب كل المثقفين التونسيين وليس موقف الشيخ لوحده.

مظالم على يد الاستعمار

أوضح الدكتور فتحي القاسمي أن النص الفرنسي قد حصلت له ترجمتان إلى العربية ترجمة أولى قام بها المفكر السوري سامي الجندي سنة 1975 وترجمة ثانية قام بها حمادي الساحلي واعتبر أن ترجمة الجندي كانت أول ترجمة عرفت بأفكار النخبة التونسية في العالم العربي ونقلت قبح وبشاعة الاستعمار وكانت مناسبة للوقوف عما يحصل للشعب التونسي من مظالم على يد سلطة الاستعمار الفرنسي غير أن المأخذ على ترجمة سامي الجندي أن مقدمته لم تكن كاملة ولا منصفة للشيخ الثعالبي حيث كال له بعض التهم في غير محلها و اقتصر في تقديمه للشيخ على بعض السطور في حين خصص الأفغاني والشيخ محمد عبده صفحات عدة .
أما ترجمة حمادي الساحلي الصادرة في سنة 1988 فهي أكثر متانة والتصاقا بالنص الأصلي كما جاء في لغته الفرنسية غير أن الخطأ الوحيد التي جاء في هذه الترجمة كان في تحديد تاريخ ميلاده حيث ذكر حمادي الساحلي أن الثعالبي قد ولد في سنة 1874 في حين أن تاريخ ميلاده الحقيقي كان في يوم 5 سبتمبر من سنة 1876 على ما ذكره الأستاذ فتحي القاسمي اعتمادا على مخطوطة بخط يد الشيخ الثعالبي يملكها.

تغيير هيئة المجتمع

قيمة الكتاب في كونه يصور ما كان يدور من مخاض فكري وسياسي ونضالي في مرحلة تاريخية دقيقة من تاريخ تونس المحتلة ويصور الشكل النضالي الذي كان متبعا في مواجهة الاحتلال الفرنسي وهو طريق محاورة فرنسا والاحتجاج عليها ومحاججتها بصوت عال حول حق الشعب التونسي في الحرية والانعتاق ..
ما جاء في الكتاب قد أحرج فرنسا وأربك سلطتها المحتلة وعرى حقيقة التواجد الفرنسي فوق التراب التونسي وكشف زيف الاستعمار وخداعه في أهم مقولاته أنه لم يأت إلا من أجل خير التونسيين وتقدمهم وإخراجهم من تخلفهم .. الكتاب عرى الاستعمار وفرنسا في أوج نخوتها وتفوقها وانتصارها .. لقد ذكرها الثعالبي بكل المنسيات عن البلاد التونسية وعن شعبها وذكرها أنه ما كان لها أن تحقق ذلك الانتصار على قوات المحور لولا الجنود المغاربة والجنود التونسيين الذين شاركوا إلى جانب فرنسا .. ذكرها بأن هذه البلاد التي جاء لإخراجه من تخلفها لها تاريخ عريق وثقافة تمتد إلى ألاف السنين جعلت من الشخصية التونسية شخصية لا تقبل بالدون ولا تقبل بالاحتلال ولا ترضى بالمهانة والاحتقار .. نقد الاستعمار في مقولاته الأساسية وذكرها بأن البلاد قد تعرضت إلى مظلمة تاريخية حينما اعتمدت فرنسا سياسة التضليل والإيهام بأنها قدمت من أجل بسط حمايتها وتطوير المجتمع ولكنها تعمدت إلى إبرام المعاهدة تلوى المعاهدة من أجل تكبيل الباي وبسط النفوذ وافتكاك الأراضي والانتقال إلى مخطط تجنيس الأرضي والتحكم في المجال الفلاحي وسن قوانين تشجع على قدوم المعمرين وهيمنة الأجنبي على أراضي التونسيين منها قانون الثلث الاستعماري الذي يمنح الموظفين الفرنسيين زيادة ثلث عن الراتب الذي يتقاضونه قصد تشجيعهم على القدوم إلى تونس..

كشف الثعالبي في كتاب تونس الشهيدة أن سلطة الاستعمار تعمل على تغيير هيئة المجتمع وتغيير صورته من خلال إدخال عادات غير مألوفة وسلوكيات مخالفة لثقافته وعوائد السكان .. اتهمها والإمعان في ترويج المخدرات في المجتمع وفي كل قرية .. تعرض إلى ظاهرة إدخال الدعارة إلى الأوساط الاجتماعية وحرص المستعمر على تقنينها حتى يجهلها مشرعة ويسهل الولوج إليها .. كشف عن حقيقة رعاية سلطة الاحتلال لبيوت الدعارة وندد بتنظيم سلطة الحماية لممارسة الزنا بمقابل مادي وتنظيم وضع العاهرات مع صدور قانون ينظم هذه التجارة سنة 1904 وقبل ذلك خرجت مظاهرة شعبية سنة 1845 للتنديد بسياسة الاستعمار والتصدي لقرارها فتح بيوت الدعارة كل ذلك في محاولة لتحوير وجهة المجتمع وفك ارتباطه عن نفسه المحافظة.

تنديد بنظام الحماية

في كتاب تونس الشهيدة تقرأ تنديدا من الثعالبي ومن ورائه كل النخبة التونسية في زمانه بسياسة نظام الحماية التي لم تكن يوما في صالح الشعب والبلاد وإنما الحقيقة التي قالها الكتاب بصوت عال أن فرنسا قد قدمت إلى تونس من أجل ثرواتها ومقدراتها وأنها تعمل بكل الوسائل على التغيير من نمط عيش الناس والتبديل من هيئته وفك ارتباطه عن هويته وجذوره وتاريخه الطويل وأن حضورها استعمار وليس حماية.

الكتاب من زاوية أخرى يكشف عن صورة المشهد التونسي والبيئة التونسية في السنوات الأولى من القرن الماضي .. صورة طبقة مثقفة لم ترض يوما بالاستعمار وهي تناضل بكل وسائلها المتاحة لرد الوافد المحتل وصورة طبقة من الزيتونيين كان مطروحا عليها تحديات مضاعفة.. كان مطروحا عليها تطوير المجتمع التونسي وإدخاله إلى العالم الجديد عالم التقدم والنهضة والحداثة ومقاومة رواسب التخلف والتخلي عن ما من شأنه أن يعيق هذا المطمح .. كان مطروحا عليها القيام بثورة مجتمعية تطال التعليم والمجتمع والمؤسسات وتنظيم الدولة والمرأة والأسرة وتقدم مشروع اصلاح لتطوير أحوال المجتمع الذي يعيش تحولات مؤثرة في طريقها إلى العصف بكل القديم المحافظ .. كان مطروحا عليها تغيير المعرفة السائدة وتغيير طريقة تفكير مؤسسة الزيتونة و علمائها ومشايخها وكان مطروحا عليها مقاومة دعاة الجمود والتقليد والفكر الخرافي الذي ما زال مهيمنا و الذي يؤمن ويروّج لثقافة عبادة القبور والأضرحة ويقدس الزوايا وانتظار المخلص القادم من خارج المجتمع والاتكاء على فكرة المشيئة الإلهية القادرة لوحدها على الفعل في التاريخ والإنسان…
ولعل نزعة الشيخ الاصلاحية وثورته على السائد المكبل للعقول والمانع من التطور هو الذي جلب له سخط بعض المشايخ الذين يسميهم بـ المفتونين بالعادات القبورية ..

مشروع إصلاحي

إلى جانب هذا التحدي الكبير في صياغة مشروع إصلاحي لتطوير المجتمع وتغيير العقول كان مطروحا على النخبة التونسية معضلة الاستعمار والبحث عن طريق للخلاص من هيمنته المتزايدة التي تجسد في مطالب التونسيين التي تضمنها كتاب تونس الشهيدة توجه بها الشيخ الثعالبي إلى سلطة الاحتلال وخاطب قادتها بلسانهم الذي يفهمونه.
قيمة الكتاب إلى جانب الشهادة التي يقدمها على نضال الطبقة المثقفة من التونسيين الذين تصدرت لمقاومة الاحتلال الفرنسي والمتاعب التي تعرضت لها في طريق التحرر والانعتاق .. يكشف عن جوانب غير معروفة من حياة الشيخ الثعالبي و نزعته الانفتاحية واحتكاكه بكل التيارات الموجودة وجهده للتقريب بينها من أجل القضية التونسية و لعل قربه من الجمعيات ذات الميولات الاشتراكية وصداقته مع بعض قادة الفكر الشيوعي مثل منظمة ” الذب عن حقوق الإنسان ” ومحاولته الاستفادة من فكرها وتوظيفه لصالح النضال الوطني هو الذي جلب له سخط بعض الزيتونيين وتأليب التيار التقليدي عليه ..

وذكر الدكتور فتحي القاسمي أنه يحتفظ بصورة يظهر فيه الشيخ الثعالبي بجانب منزله في وضع مأساوي وحالة لا تليق بشخصية مثله بعد أن تمت إهانته خلال جولته التي قام بها في ربوع البلاد وخاصة في جهة الساحل في محاولة منه للتقريب بين اللجنة التنفيذية للحزب القديم والديوان السياسي للحزب الجديد حيث تم رميه بالطماطم حينها شعر بأن الصحب والرفاق قد خذلوه وكادوا له المكائد حتى يتم اضعافه وإثر هذه الأحداث ونشر الشيخ نصا مزلزلا سماه ” الكلمة الحاسمة ” فضح فيه الديوان السياسي جلب له عداوة خصوصه من أتباع الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة الذين عملوا على التخلص منه نهائيا و دبروا له محاولة اغتيال في أواخر شهر ديسمبر من سنة 1937..

إقصاء الشيخ عبد العزيز الثعالبي

المفيد الذي نخرج به هو أن كل ما حصل للشيخ عبد العزيز الثعالبي من إبعاد وإقصاء من تاريخ الذاكرة الوطنية ومن تعمد القفز على مرحلته ومنجزه النضالي والفكري من قبل دولة الاستقلال ونخبتها التي كتبت تاريخ الحركة الوطنية وراءه صراع خفي بين مرجعيتين واحدة عربية إسلامية وثانية غربية…
وأن هذا الصراع قد أظهر صورته الحقيقية بعد الاستقلال وأن جذور المأساة التي تعرض لها الثعالبي ورفاقه من أفراد الحزب الدستوري القديم تعود إلى الأيام الأولى التي عادت فيها نخبة من الخارج كانت قد تلقت تعليمها في فرنسا تحديدا وتشبعت بالثقافة الغربية وحملت معها مشروعا للبلاد يقطع كل صلة مع الهوية ومع الثقافة والتاريخ العربي الإسلامي ويقدم عرضا جديدا لتأسيس دولة جديدة من دون مؤسسة الزيتونية ولا مشاركة للزيتونيين ولا يرى في الحداثة إلا من واجهة الغرب وبوابته في الوقت الذي كان فيه كتاب تونس الشهيدة دليلا على أن البلاد يمكن أن تبلغ درجة من التقدم وتحقق نهضتها المنشودة من خلال هويتها والاعتراف بأن الزيتونيين وإن وصفوا بكونهم تقليديين محافظين يمكن أن يتنفسوا من خارج مؤسستهم ويمكن أن ينتجوا مشروعا لإصلاح البلاد من دون إقصائهم وإبعادهم…

لهذا كان كتاب تونس الشهيدة خطرا على المستعمر في زمن الاستعمار ومحرجا للدولة الزعيم بعد نهاية الاحتلال الفرنسي .. راهنية هذا الإصدار الذي تحتفي به مؤسسة التميمي فيما كشفه الدكتور فتحي القاسمي من قضايا وأفكار ورؤى علها تعيد الاعتبار لرجل حاولوا اسقاطه من تاريخ الحركة الوطنية والقفز على مرحلته وتصحح جزء من ذاكرتنا الوطنية المشتركة التي عانت كثيرا من النسيان والإقصاء.

ولعل أفضل ما ننهي به هذه التغطية لهذه الندوة ما قاله الدكتور احميدة النيفر في تقديم كتاب عن جده البشير النيفر ” العالم والزعيم المؤسسة الدينية في تونس : سنوات الاحتضار ” من ” أن القطيعة التاريخية في حياة الشعوب هو قرار خطير وله كلفته وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال الذهاب نحو بناء دولة جديدة من دون ذاكرة ولا هوية ولا تاريخ وأن التاريخ اليوم لم يعد يكتبه المنتصر وإنما التاريخ اليوم تكتبه الذاكرة حتى وأن تم القفز عليها وتجاوزها»…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى