نوفل سلامة يكتب/ التحوّلات السياسية في سوريا وسؤال المصير أو عطب الذات: وقفة مع المفكر برهان غليون

كتب: نوفل سلامة
المفكر والأستاذ الجامعي والمتخصص في علم الاجتماع برهان غليون، هو معارض سوري لنظام بشار الأسد كرّس حيزا كبيرا من عمره في مقاومة الفكر الاستبدادي وتفكيك منظومة الحكم الفردي السلطوي، كما تخصص في الدفاع عن الديمقراطية كأفضل حل سياسي للنظام العربي والمجتمعات العربية المسلمة..
تحدث غليون مطوّلا عن أهمية المجتمع المدني والدولة المدنية، ودعا بقوة إلى تبني منظومة حقوق الإنسان في مناصرة لا مشروطة للحقوق والحريات التي يراها غير متوفرة بالقدر المطلوب في الأنظمة العربية..
قاد مجلس المعارضة
هذه الشخصية الفكرية التي قضت جزءا من حياتها في الغرب مناضلا ضد حكم بشار الأسد وكاتبا في قضايا الدولة الحديثة تمت دعوته واختياره إبان اندلاع الثورة السورية في شهر مارس من سنة 2011 بعد أن برز اسمه كأحد أهم الأسماء المرشحة لقيادة المعارضة السورية وتوحيد شتاتها وحشدها وراء ثورة شعبية لترأس المجلس الوطني السوري الذي جمع تحت لوائه أوسع فئات المعارضة وممثلي نشطاء الثورة الميدانيين…
اعتراف..ثم استقالة
وقد لقي المجلس وقتها ترحيبا كبيرا في الداخل والخارج وتم الاعتراف به من قبل أكثر حكومات العالم ممثلا للشعب السوري غير أن برهان غليون، قد قرر التخلي عن رئاسة المجلس بعد عام واحد من تعيينه وقدم استقالته في 17 ماي 2012 بعد أن رأى الثورة قد بدأت تأخذ مسارا منحرفا وتبتعد عن الأهداف التي من أجلها قامت، وبعد أن رأى أنه لم يعد قادرا على تحقيق آمال الشعب السوري في بناء دولة ديمقراطية مدنية وتعددية تُحقق المساواة بين جميع السوريين بصرف النظر عن الدين والقومية والطبقة الاجتماعية والجنس، هدفها تعزيز وحدتهم وتضامنهم…
تنازع قوى المعارضة
يقول غليون عن استقالته من رئاسة المجلس أنه كان احتجاجا منه على ما رآه من تنازع قوى المعارضة وانقسامها الذي شل نشاط عمله وجعل الثورة تدخل في نفق غير محسوب العواقب، و خيّر الانسحاب لما راى الأمور بدأت تنفلت نحو مسارات غير ما طالبت به الثورة ليعود إثر ذلك إلى العمل في صفوف النشطاء السياسيين يُنسّق الجهود والمبادرات من أجل مواجهة ما سماه انقلابا دمويا بدأ يتشكل على الشرعية الشعبية، وبالتوازي مع هذا النشاط سخر جهدا آخر للقيام بمراجعة نقدية لمسار الثورة السورية وكل تجارب ثورات الربيع العربي واستخلاص دروسها التاريخية التي تحتاج إليها الشعوب في معاركها القادمة من أجل الكرامة والحرية.
في هذا الإطار من مراجعة الأخطاء ونقد الذات وفي هذا السياق من البحث عن بدائل أخرى لمقاومة الدكتاتورية والتخلص من الحالة الاستبدادية التي عرفها العالم العربي و منعت من حصول التغيير كتب برهان غليون كتابين مهمين الأول صدر في سنة 2019 عنوانه ” عطب الذات وقائع ثورة لم تكتمل سورية 2011 – 2012 ” وكتاب ثاني صدر في سنة 2023 عنوانه ” سؤال المصير قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية ” والكتابان من حيث المدة الزمنية متزامنان مكملان لبعضهما البعض بل إن الكثير من القضايا متداخلة وهي تُعاد بطريقة مختلفة ولكن الجامع بينهما هو النقد الذاتي والمراجعة والمحاسبة لما حصل في مسار الثورة السورية وكل التجارب العربية الحديثة من انكسارات وتصدعات وخيبات حتى وصلنا إلى الحديث عن فشل كل ثورات الربيع العربي.
أسباب فشل الثورة
في كتاب عطب الذات يقف برهان غليون عند أسباب فشل الثورة السورية، وكيف سيطرت الدوافع الشخصية والتوجهات والأساليب السلبية، وكيف تلبست الخيارات الضعيفة التي أدت إلى ما آلت إليه الثورة السورية التي بدأت سلمية وانتهت مسلحة دموية مما رسخ لديه القناعة من أن معايشته اللصيقة للمشاكل التي واجهتها المعارضة والفصائل المسلحة، والتي عجزت عن حلها يعود بالأساس إلى الشخصية السورية كذات وفاعل جمعوي يقول: لقد كشفت تجربتي في المجلس الوطني عن الكثير من عوامل الفشل التي حوّلت ثورة تحررية سلمية مدنية إلى مواجهة مسلحة واسعة النطاق بين شعب متمرد ونظام قاتل قبل أن تسقط الثورة نفسها في مواجهة إقليمية ودولية ذات ابعاد جيوستراتيجية كبرى لتنتهي إلى كارثة كبرى وحرمان شعب من تحقيق حلمه…
فهل كانت الثورة ضرورية أم كان من الممكن تجنبها؟ هل كانت هناك فرصة للنجاح خاصة وأن تناقضات النخبة العلمانية والسياسية وعموم سكان المناطق وسكان الأرياف والمدن والقوى الاجتماعية قد جعلت من الاستحالة ايجاد حل لكل هذه التناقضات فكريا وسياسيا بصورة مسبقة واختزال الواقع وتغييره في كلمات جاهزة ونظريات مؤدلجة قديمة عششت في الكتب و رؤوس أصحابها.
صعوبة التغيير
يتساءل برهان غليون عن صعوبة التغيير في الوطن العربي وعن مكامن تعثر الإصلاح وتراجع إحلال الديمقراطية وغياب الأنظمة العادلة فيقول هل أن المشكل فيما نراه من فشل مقولات كثيرة في العالم العربي من اشتراكية وحرية وديمقراطية و إسلام و ووحدة عربية .. إلخ مرده ضعف في عقولنا أم أن الضعف يعود الى واقعنا المريض؟
يقدم برهان غليون إجابات أولية عن أسئلته المقلقة فسر بها هذه الخيبات التي منيت بها الكثير من الشعوب العربية والإسلامية في إرساء حكومات تعكس همومهم وحياة كريمة تليق بهم، فيُرجع ذلك إلى أن الأنظمة العربية قد تبنت في فترة من تاريخها الفكرة الماركسية التي تؤمن بضرورة الإعلاء من شأن الوعي الثوري مع وجود طليعة حاملة لهذا الوعي يحق لها هي فقط أن تقود وتحكم لأنها هي فقط تعلم بما لا تعلمه الأمة وهذه الفكرة تقوم على اعتبار أن الشعب في عمومه جاهل بأحواله وأن الطليعة الثورية هي فقط العالمة بمصلحته، لكن هذه النظرية في قيادة الامة قد انتهت إلى إعلاء مصلحة القيادة والطليعة على حساب مصلحة الجمهور…
إرسال القمع والديكتاتورية
واتضح أن الطبقة الواعية كانت تبحث عن مصلحتها الذاتية وليس المصلحة العليا لجميع الطبقات الشعبية، ومن هنا تم الذهاب نحو خيار إرساء سلطات قمعية وأنظمة حكم استبدادية استحوذت على الثروة، وأفادت أتباعها وانصارها، وتفنّنت في إهانة وتعذيب المعارضين وقامت على حكم الفرد الواحد ومعها وُلدت نخب تبنّت هي الأخرى الفكر التسلطي ودافعت عن خياراته وبررت أفعاله فحصل العجز لدى هذه النخب عن التغيير الديمقراطي وبناء الدولة العادلة.
وهكذا يٌرجع برهان غليون عدم تحسن أحوال الشعوب العربية وتواصل تخلفها وفقرها إلى نخبها التي تسلمت الحكم وانحرفت او كانت ذات وعي منحرف عن الأهداف الأولى حينما سمح لها أن تتكلم باسم الشعب لأنها تعرف مصلحته أكثر من نفسه.
قناعات واهمة
ينتقد برهان غليون ما روجته الطليعة القائدة التي حكت الدولة ما بعد الاستقلال من أن لها أهدافا كبرى وأن في بلوغها سوف يجلب الخير والرفاهية والسيادة لشعوبها وهي قناعات موهومة وواهمة وأن هذه القناعة وهذه الغاية لا تحتاج معها النخبة الملهمة إلى تفويض من الأمة ما جعلها تحتفظ بالسلطة إلى أجل غير محدود في سعيها الدائم لتحقيق هذه الأهداف الكبرى وهي في ذلك تستبطن التفويض وتفترضه حقا ثوريا لها وبذلك تحولت النخبة الملهمة إلى أن تكون صوت الشعب والمتكلمة باسمه وقدمت نفسها على أنها صوته المقموع وهي تمثله حتى من دون تفويض وبذلك تحرز النخبة الملهمة على مقبولية عامة وتحولت إلى أمل وخلاص للأمة ومن هنا يصبح كل من يعترض على السلطة إنما هو يعترض على الشعب وعلى هذه الأفكار العامة قبل أن يعترض على سلطة النخبة وشيئا فشيئا انكشف حقيقة هذه النخبة وأدركت حقيقتها من أنها لا تمثل الأفكار التي تتكلم بها وأنها لا تتوفر على تفويض شعبي، ومن هنا استعمال آلية جديدة هي استخدام مقدرات السلطة التي تمنحها جهاز الدولة من أجل الديمومة اللانهائية في السلطة.
صراع الوعي والثورية
الحل الذي أفرزه هذا الواقع كان في تغيير هذه الطليعة الحاكمة المنحرفة لإحلال محلها طليعة أخرى ثورية تكون أكثر صدقا في التعبير عن رغبات الناس وأكثر انعكاسا لشواغل الجمهور ومن هنا بدأ الصراع حول من يكون أكثر وعيا وثورية واكثر تعبيرا عن الواقع من غيره فحصل الانحباس والمأزق التاريخي والصراع حول من يكون الممثل الحقيقي لهذا الشعب ” الجاهل ” الذي لا يعرف مصلحته والاسوأ من ذلك أن هذا النوع من الصراع لا ينفتح على حلول توافقية فلا يمكن للحقيقة أن تتوافق مع الزيف و لا الثورية أن تتوافق مع الانحراف.
سؤال المصير
يصل الكاتب في كتابه سؤال المصير إلى تحليله في تشخيص الحالة العربية والبدائل الممكنة المطروحة للتغيير الى إشكالية عصيّة عن الفهم تقوم على فكرتين متناقضتين الأولى تقول بأن التقدم العربي يحتاج إلى إعادة بناء النظم السياسية على أسس ديمقراطية وعلى الحرية واحترام إرادة الشعوب والتداول المتواصل عن الحكم والسلطة وفكرة ثانية ترى أن هذا التقدم العربي يتطلب التساهل مع الاستبداد حيث أن كل محاولات النهوض قد قامت على أيدي أنظمة غير ديمقراطية أخذت على عاتقها تحقيق عملية تحديث المجتمع والخروج به من التخلف واتفقت على أن ذلك لن يتحقق سريعا إلا بسلطة قوية لا تقف في وجه تصميمها أي شيء مما تسببه الديمقراطية من معوقات ( احتجاجات شارعية، معارضات سياسية، معارك برلمانية … ألخ )
حيرة العطب
في كتابه عطب الذات يلمح برهان غليون إلى وجود حالة من العطوبة في الذات المفكرة للطبقة المثقفة التي يراها لم تفهم جيدا مجتمعاتها ويلقي باللوم على التيار العلماني الماركسي الذي أمام عجزه تغيير الواقع والاستفادة من الثورة فعاد إلى الدين يلقي عليه فشله وما حصل من انحراف للثورة و يلقي على الموروث الثقافي وكل التراث القديم المرتبط بالهوية فشله بعد أن اعتبره عاملا معطلا ومانعا ثقيلا يحول دون التغيير وتحقيق التقدم والنهضة ويلقي بالمسؤولية على الشعب الذي عده جاهلا لا يفهم التحديات وفي أحسن الأحوال تحولت هذه النخبة إلى اديرة ثقافية للتحليل والكلام إن لم ترتمي في احضان الأنظمة الحاكمة المستبدة.
مع برهان غليون في هذين الكتابين نقف على حيرة العطب الذي بات عليه المثقف العربي والعطوبة التي ميزت الثقافة السائدة وحيرة أخرى حول المصير والمستقبل الذي يراه لا يتحدد من خلال النظريات والأفكار المسبقة وإنما من خلال الممارسة والتجربة العملية التي تبقى في عالم الغيب وعالم المؤثرين بقوة في هذا العالم الغامض و المركب والمعقد.