صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: الإعلام في تونس هل يحتاج إلى إصلاح أم إلى منظومة بديلة؟

nawfel slama
كتب: نوفل سلامة

يذهب الباحث في قضايا الإعلام الدكتور صادق الحمامي في دراسة أعدّها و قدمها مؤخرا أن منظومة الإعلام في تونس عليلة وتعيش مرحلة صعبة وانتقلت من وضعية الموت السريري إلى وضعية الموت الحقيقي… نحو الإعلان عن انهيارها بالكامل…

مقاربة جديدة

ولتوضيح مقاربته هذه يقدم جملة من المعطيات هي عبارة عن مؤشرات يفسر بها كيف أن منظومة الإعلام الحالية في تونس بما هي صحف وإذاعات و تلفزات قد انهارت بالكامل ولم تعد تؤدي الدور المطلوب منها، والذي من أجله وجدت وأهم علامات هذا الانهيار الذي يتحدث عنه أن عناصر ومكونات المنظومة الإعلامية المتكونة من إطار قانوني تشريعي وهيئات تعديلية و سياسات عمومية و مؤسسات إعلامية ومهنة الصحافة وسوق إشهارية و منظومة التكوين والتدريب لم تعد تشتغل في تناسق فيما بينها.. وحصل لها عطب أثر على قدرتها على المواصلة وهي عناصر ضرورية للمنظومة من المفروض أن يؤدي تناسقها إلى مخرجات ضرورية من وراء العملية الإعلامية لتقديم خدمة إعلامية للمواطن إما عالية الجودة أو متوسطة الجودة أو بجودة محدودة…

الصحافة المكتوبة ماتت وانتهت..

اليوم الصحافة المكتوبة ماتت في تونس بعد موتها السريري و ما بقي منها من الصحف فهو يشتغل بطريقة تكاد تكون اصطناعية بما أنها لا تتغذى بطريقة طبيعية من سوق الاشهار، واليوم هناك إذاعات تحتل مراتب محترمة في قيس نسب السماع غير أنها على حافة الإفلاس ولم تعد قادرة على دفع أجور صحفييها وموظفيها ويُقطع عنها البث بشكل دوري وتعيش أزمات مالية خانقة…

من خلال هذا الخلل الذي حصل في مدخلات المنظومة الإعلامية وتفكك عناصرها أضحى هذا النظام الإعلامي عاجزا عن تحقيق الوظيفة التي من أجلها أُنشئ وهي تقديم خدمة إعلامية وبرمجية معقولة في الحدها الأدنى اليوم هناك قنوات دون مراسلين و تشتغل بعد المساء دون برامج وهناك قنوات خاصة وإعلام عمومي يشتغل في الغالب وبنسبة 70 بالمائة ببرامج معادة ودون هيئات صحفية…
واليوم لدينا إعلام ومؤسسات إعلامية غير قادرة على تشغيل صحفي واحد وأكبر دليل على انهيار منظومة الإعلام في تونس وكيف أصبحت لا تُقدم الخدمات المطلوبة منها وكيف أصبحت لا تعبر عن مشاغل الناس ولا تعكس حقيقة اهتماماتهم ما حصل خلال الليلة الفاصلة بين العاشر والحادي عشرة من شهر جانفي 2024 في معتمدية الحنشة من ولاية صفاقس من غرق لأربعين تونسي في البحر الأبيض المتوسط من دون أن نجد حديثا عنهم في وسائل الإعلام بالقدر المطلوب، ومرّ هذا الحدث الذي ذهب ضحيته عدد كبير من التونسيين مر الكرام في اذاعتنا وتلفزاتنا وكأن الأمر لا يعني أحد أو أن المسألة لا تكتسي أي خطورة…

انهيار شامل

يعتبر الصادق الحمامي أن مسألة الانهيار الإعلام هي حالة عامة في العالم ولا تختص بها بلادنا بسبب عوامل طارئة وأخرى هيكلية فالكثير من الصحف في بريطانيا مثلا كانت تتغذى ماديا من الإعلانات القصيرة هذه البيئة الإشهارية قد افتكتها منها شبكات التواصل الاجتماعي وتحول الفايسبوك إلى البيئة التي تنتعش فيها المعلومة وتتجها وهي حلقة الوصل اليوم بين الجمهور وواقعه ومشاغله وما يبحث عنه لذلك فإن الكثير من الباحثين قد اعلنوا موت الصحافة الورقية ونحن في تونس فإن النظام البيئي بالمعنى الطبيعي في الاعلام قد اختل وتدهور إلى درجة لم يعد يسمح إلا ببعض المؤسسات الإعلامية النادرة جدا من المحافظة على وجودها.

حالة من اللا مبالاة

المشكل أن هناك حالة عامة من اللامبالاة فلا أحد مهتم بهذا الموضوع والحال أن انهيار نظام إعلامي يعني انهيار نظام أساسي في المجتمع ومن نتائجه أننا نعيش في مجتمع تسوده الأنانية والفردانية وتراجع القيم و اليوم الفرد التونسي أصبح غير معني إلا بنفسه لا يريد أن ينظر إليها أو يهتم بأحواله ولا يريد أن يعلم ماذا يحصل فيما حوله في أماكن أخرى من الجمهورية ولا يريد إلا تحقيق مصالحه الخاصة جدا والضيقة وهذا مؤشر خطير فحينما نفقد مجالنا العام ومرآتنا التي ننظر فيها ومن خلالها إلى أنفسنا فهذا مؤشر خطير على انهيارات أخرى في المجتمع منها إمكانية أن يتم التلاعب بالجمهور والتحكم في عموم الشعب فحينما تفقد الثقة في الإعلام باعتباره مرآة المجتمع والأداة التي يتواصل من خلالها الناس مع مختلف الفضاءات ويتم التشكيك في مصداقية مختلف المؤسسات الإعلامية فإننا نجد أنفسنا أمام نتائج خطيرها منها أننا فتحنا المجال أمام القوى الخارجية للتلاعب بالشعوب والباب أمام قوى أجنبية للتحكم في المعلومة وتقديمها على أنها اصدق مما يقدمه الإعلام المحلي ونحن اليوم قد فرطنا في الراي العام التونسي لصالح قوى التضليل في شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت هي المصدر الأول للمعلومة ولقوى الخارج لتوجيه الرأي العام بعد أن أصبحت اكثر حظوة عنده وبعد أن صرحنا بأننا لا نحتاج إلى رأي عام ولا إلى مواطنين لهم أراء في السياسة والاقتصاد والمجتمع وهذا فعلا ما بينته دراسات كثيرة تحدثت عن ثقة التونسيين في المؤسسات عموما أوضحت أن 7% فقط من الشباب التونسي يثقون في الإعلام والصحافة المحلية وأن ثقتهم في المؤسسة الأمنية أكثر بمرتين من ثقتهم في الإعلام.

انتهى دور الإعلام؟

من الواضح اليوم أمام ما نشهده من انهيار في النظام الإعلامي التونسي أن أهل المهنة والمهنة في حد ذاتها لم تعد قادرة على أن تلعب دورها وإنجاز مهامها وأن الجمهور غير قادر على تلقى خدمة معقولة وأن المؤسسات غير قادرة على الحياة وأن الدولة التونسية غير معنية بإصلاح الإعلام وإنقاذ منظومته وهذه كلها مؤشرات على انهيار منظومة الإعلام في تونس
صحيح أن مهنة الاعلام تشكو غياب صحفيين واعلاميين جيدين وأن منظومة التكوين والتدريس تحتاج إلى عملية اصلاح ومراجعة وصحيح كذلك أن الصحفي قد فقد اليوم سلطته وسيطرته على الاخبار والمعلومة لأسباب كثيرة أتينا عليها وأن البيئة التي تنتج الاخبار الجيدة لم تعد موجودة لأن الصحافة الجيدة هي نتاج المؤسسات الجيدة وعندما تكون المؤسسات غير قابلة للحياة فإن ذلك ينعكس سلبا على أدائها وعلى جودة العمل وجودة ما تقدمه من مادة إعلامية واخبارية وصحيح أن الإعلام والصحافة قد تم توظيفهما لخدمة أغراض سياسية نتيجة الدخلاء الذين اقتحموا قطاع الإعلام ونتيجة أن بعض أصحاب المؤسسات أصبحوا غير معنيين بالشروط التي تعمل فيها الصحافة هذا كله موجود و مؤثر في استمرار الاعلام لتقديم مهمته لكن الفاعل الرئيسي في عملية الإصلاح هو الدولة لإشرافها على مؤسسات عمومية وتعود لها مسؤولية سياسية في وضع السياسات و رمزية و سيادية إزاء قطاع الإعلام وحينما يقع التفريط في قطاع الإعلام وعدم التدخل لإصلاحه وانقاذه وتركه ينهار حينها تكون الدولة قد أعطيت رأيها العام إلى قوى أخرى مؤثرة من قبيل قوى التضليل على شبكات التواصل الاجتماعي والقوى الخارجية لكن الاخطر من كل ذلك وجود استراتيجيات لتوظيف الصحافة والاعلام لفائدة غايات اتصالية وتحوله إلى حلقة وصل في خدمة بعض السياسيين والترويج لأنشطتهم وتحوله إلى أحد عناصر الآلة التسويقية لرجل السياسة وهي وضعية كانت موجودة قبل الثورة وتواصلت بعدها لا يمكن معها أن نؤسس لإعلام قوي يثق فيه الناس و يحقق أهدافه ويكون في خدمة الشعب لذلك فإن السياسي الجيد هو الذي يؤمن بأن من مصلحته ان تكون هناك صحافة جيدة وقوية وأن يبتعد عن فكرة اضعاف الإعلام أو الانتفاع من أزمته فحماية المجتمع تحتاج إعلاما قويا مهنيا قادر على تقديم المعلومة وعكس ذلك وفي حالة انهيار منظومة الإعلام المحلي يحصل التضليل والتلاعب بالعقول ويتم انتاج مجتمع متقلب تتحكم فيه قوى الكذب والتضليل ويصبح الراي العام قوة تتغذي من الأكاذيب يصعب التحاور معها أو اقناعها لأنها كتلة بشرية غير عقلانية وعاطفية إن انهيار و الاعلام بالصورة التي قدمناها مؤشر خطير على وجود خلل كبير في المجتمع لأن الإعلام هو أحد الروابط التي تجمع الشعب وتوحده وعندما يتحلل رابط الإعلام يفقد المجتمع صلابته ووحدته.

وجوه جديدة ومضامين مختلفة

فهل يمكن الحديث عن ضرورة إرساء إعلام بديل عوض الإعلام الحالي والذي فضلا عن مشاكله الهيكلية وحالة الانهيار التي يعيشها يعرف انتقادات كبيرة من أبناء الشعب حول أدائه بعد أن فقد الثقة فيه؟ وهل نحتاج اليوم إلى مؤسسات إعلامية جديدة بوجوه جديدة ومضامين مختلفة تكون أكثر التصاقا بالجماهير وتعبر عن المرحلة والسياق الجديدين الذين تعرفها تونس ولا تنشر التفاهة و الرداءة والضحالة التي أثرت على قيم المجتمع وسلوك أفراده وكانت من بين أسباب فشل الثورة؟ وهل حان الوقت للتفكير في منظومتنا الاعلامية برؤية مختلفة عن السائد وما تقدمه المنظومة الحالية؟

إعلام بديل؟

يذهب الصادق الحمامي إلى أن فكرة صناعة ‘إعلام بديل’ هي فكرة تم تجربتها منذ سنة 2011 وخلال مرحلة الانتقال الديمقراطي الذي عرفته الثورة ولم تنجح وإنما جاءت بإعلام بديل خاص أيديولوجي مرتبط ببعض الأحزاب لذلك فإن الحل في وجود إرادة سياسية واضحة وصادقة في إصلاح المؤسسات الإعلامية الحالية وتكفل الدولة بتقديم رؤية وبرنامج لإنقاذها بدل تركها تموت شيئا فشيئا فالجهة المؤهلة لإنقاذ الاعلام هي الدولة وأهل المهنة لا يمكن لهم أن تصلحوا منظومتهم لأنهم لا يملكون السيادة عليها أهل المهنة يمكن أن تصلحوا ويتصدوا إلى بعض الأشياء الحاصلة كالتلاعب بمهنة الصحافة ومسألة التكوين وأن وضع منظومة قيس الجمهور ولكن عملية الإنقاذ برمتها وخاصة في جانبها الإشهاري والهيكلي لا يمكن أن تحصل إلا من خلال الدولة .. هذه رؤية يقدمها الأستاذ الصادق الحمامي تحتاج الكثير من التفاعل كانت مدار ندوة عقدت يوم الخميس 21 مارس الحالي بمدينة الثقافة طرحت سؤال منظومة الإعلام التونسي: أزمة قطاع أم انهيار منظومة؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى