صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب/ محمد سعيد الخلصي (1898- 1962): الترجمان والشاعر الولهان

ISSA BACCOUCH
كتب: عيسى البكوش

هو محمد السعيد بن حميدة الخلصي المولود يوم 12 فيفري 1898 بحومة نهج الباشا بمدينة تونس في عائلة تعدّ ضمن أسلافها العلامة والولي الصالح إبراهيم الرياحي وهو أحد أجداد السعيد للأم.

التحق ككل أترابه في ذلك العصر بالمدرسة القرآنية حيث أنهى تعليمه الابتدائي ثم واصل تعليمه الثانوي على عكس ربما بقية أترابه بمعهد كارنو.

وهنا تكمن المفارقة الأولى في حياة الفتى ولكن مثلما يؤكد عليه كرّو “كان الخلصي لا يجيد من الفرنسية إلا كلمات وبسرعة غريبة وبفضل ذكائه الوقاد التحق بمستوى أقرانه في الفرنسية بل وتفوّق عليهم حتى بات يجيدها ويجيد معها اللغة الإيطالية فضلا عن تفوّقه ونبوغه في اللغة العربية”.

سافر إلى باريس

إثر تحصله على شهادة الباكالوريا خيّر السفر إلى باريس لمواصلة تعليمه العالي هاته المرة في شعبة الحقوق ولكنّ شأنه شأن كل من رمت به الأهواء في هذه المدينة التي كتبت في شأنها “ومن المدن ما فتن:
” باريس حسناء تتبختر على ضفاف السين
ساحرة تأخذ بلب العاشقين
إنك إذا أحببتها ملكتها وإذا راودتها أتتك طائعة
وإنّ غادرتها فهي لا تغادرك”.
إذن غرق الخلصي في باريس بين الدروس والكتب بين الهدوء والصخب بين الفنون والأدب.
هكذا هي مدينة الأنوار فيها مثلما كتب ذات مرة طه حسين “عناء وغني” .
ولقد تغنى صاحبنا السعيد بمن ضمّته إلى حضنها فهنئ وسعد واستمال وجادت قريحته بقصيدة نشرها في مجلة الثريّا عنوانها باريس تشتمل على 54 بيت.
مطلعها :
باريس يا بلد الإعجاب والعجب
دامت محاسنك الكبرى مدى الحقب
تفجّر النور من جنبيك منتشرا
في سائر الأرض عن نأي وعن كثب
فلا أثينا ولا روما تضارعها
في روعة الفن أو في قيم الكتب
وبابل دونها في السحر مرتبة
باريس في الكون حلّت أرفع الرتب

ولكن مثلما نبهنا إليه أبو البقاء الرندي:
” لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغرنّ بطيب العيش إنسان”.
إذ يعود الخلصي إلى تونس بسبب وفاة والدته هاته التي رعته منذ أن نكب في وفاة والده في بواكر طفولته فاستقرّ في أرض أجداده ولكن لم يطل مقامه بسبب ماذا؟ أو بالأحرى بسبب من؟ ابحث معي عن المرأة. نعم هي ابنة من بنات حوّاء ولكنها من أشهرهنّ حسنا وغناء.
هي حبيبة مسيكة الفنانة الأسطورة التي اكتوى بلهيبها عاشق مفتون مثلما اكتوى بلهيبها العاشقون في عصره .
لقد ارتبط الخلصي بحبيبة لمدة وككلّ الغواني التي خدعوها بقولهم حسناء فلقد صدّت ثم نفرت، ففرّ صاحبنا بجلده وبعقله نحو الغرب هاته المرّة إذ يمّم وجهه نحو مدينة الدار البيضاء حيث قضّى فيها الثلث من عمره من سنة 1924 إلى 1947.
سنة 1930 وفي يوم 23 فيفري 1930 تعرّضت محبوته إلى مصاب جلل إذ أقدم أحد عشّاق مسيكة على حرق معشوقته فغرّد صاحبنا:
” عشت عيشة الأزهار في الجنات
وتوفيت في ربيع الحياة
كنت بين الحسان وردا نضيرا
باسم الثغر ذائع النفحات
أحرقوا جسمك اللطيف
فليت النار عليك بالنسمات
كنت في هذه الحياة ملاكا
ما عهدنا الأملاك بين الرفات
يا حمام الرياض، غابت عن الرو
ض، فكوني لفقدها نائحات
وانزلي فوق قبرها ساجعات
فعساها ترتاح للسجعات ”

دخل المحاماة

انخرط هناك بعد إتمام دراسته في الحقوق في سلك المحاماة إلى جانب اشتغاله مترجما محلفا.
وفي هذه العبارة المركـّبة التي قد تكون هي المفتاح الذي تمكـّن بفضله الخلصي من فتح أكثر من باب خارج لغته الأم، قلت في هذه العبارة وبالضبط في كلمة محلـّف إقرار بتوخى المترجم حدود النزاهة أو على الأقل الأمانة في تحويل الكلام منطوقا كان أو مكتوبا.
ولعلكم تتذكرون تلك المقولة المأثورة المنسوبة للإيطاليين والتي مفادها ” من ترجم فقد خان” Traduire c’est trahir

ولج صاحبنا إذن عالم الترجمة لا القانونية فذلك شغل يقتات منه بل ترجمته للأدب بقسميه النثر وخاصّة الشعر ومنه ما خلد منه وأعني القصيد الذائع الصيت والذي قام بتلحينه وأدائه شيخ الفنانين في بلادنا خميس الترنان :
” يا زهرة غضّت وذاع أريجها
فقطفتها قرب المياه صباحا
واللّيل أذرف دمعه مترقرقا
في كمّها فبدا به وضّـــاحا
وتزخرفت بزبرجد وبعسجد
وبفضة زانت ربى وبطاحا
ما للنسيم يئن حزنا بعدما
ألقى عليك من الحنان جناحا
يهواك … لكن ساءه يا زهرة
ألاّ يقبّل ثغرك الفوّاحــــــا
لمّا درى أن الفراق بلا لقا
جعل الهبوب على الفراق نواحا
يا ليت كفّي ما جنتك قساوة
آه … لقد هيّجت لي الأقراحـــــا
ذكرتني تلك التي عنّي نأت
ومضت … وأبقت دمعي سفاحا
وهذه الأبيات الثمانية هي منقولة بتصرّف لا محالة من قصيد بالفرنسية لرجل السياسة زعيم الحزب الدستوري القديم صالح فرحات وقد صدرت ضمن ديوان يحمل عنوان “Les chants de l’amour”.
Petite fleur douce et parée
D’émeraude, d’argent et d’or
Pourquoi le vent qui t’a bercée
Maintenant gémit-il si fort ?
Oh fleur ! Je t’aime et me lamente
D’être sevré de tes baisers
Il te pleure dans sa tourmente
Car il t’a perdu à jamais
Je m’en veux de t’avoir coupée
Suave fleur. Oh nos amours !
Semblable à toi bien-aimée
S’éloigne, belle parfumée
Et me laisse pleurant toujours.
.
لقد لاقت هاته الأبيات وما تحمله في ثناياها من معاني حبلى بالزفرات والأنين، لاقت هوى في نفس الخلصي الذي نكب ولم يكن المنكوب الوحيد في معشوقة زمانها حبيبة مسيكة التي وقع اقتطافها قبل الأوان.
لم يكتف الخلصي بنقل شعر فرحات بل صاغه في ذلك القالب البديع وأصبغ عليه من شعره حتى يكاد لا يصدّق أنه من نظم غيره فكان شعرا على شعر وصناعة على صناعة أجاد فيها الشاعران فكانت المحصّلة هذه القلادة التي قدّت من كريم الحجارة وبليغ العبارة.
طبعا كما لاحظنا من خلال هذه القصيدة ثنائية البناء فالخلصي متأثر بالنزعة الرومانطيقية السائدة في عهده في الشرق كما في الغرب. يقول أبو القاسم محمد كرو في هذا الشأن : “إن الخلصي تأثر تأثرا واضحا عميقا بالأدب الغربي وتأثر أيضا بالأدب العربي الجديد لاسيما مدرسة خليل مطران المتأثرة بدورها بالأدب الرومنطيقي الغربي وخاصة منه الفرنسي”.
ولا غرابة إذن أن تجد الخلصي يترجم لزعيم فطاحل الشعر الفرنسي فيكتورهيقو Victor Hugo
وإني على يقين من أنه لم يختر هذا الشاعر جزافا بل لأن Hugo هو أعظم أهرامات فرنسا شعرا ونثرا وفكرا وفنا وسياسة أيضا.
ولقد خصّه شعب باريس بجنازة عند وفاته سنة 1885 لم تشهد مدينة الأنوار نظيرا لها من قبل ولا من بعد وللرجل مدونة شعرية تحتوي على آلاف الأبيات كلها تلهج بمشاعر الحب والرأفة والحنان والأمل، ومدونة روائية تؤرّخ في صفحاتها المؤلفة من أسطورة الإنسان عبر الأزمان.
ولقد اختار الخلصي بعض روائع Hugo لنقلها إلى العربية.

Á ma fille Adèle
Tout enfant, tu dormais près de moi rose et fraîche
Comme un petit Jésus assoupi dans sa crèche
Ton pur sommeil était si calme et si charmant
Que tu n’entendais pas l’oiseau chanter dans l’arbre ;
Moi, pensif, j’aspirais toute la douceur sombre
Du mystérieux firmament
إليك يا ابنتاه !
لقد نمت قربي في هناء ولذة
كما نام من قبل المسيح على المهد
نعاس كما شاء الصفاء محبب
وجسم بلا سقم وقلب بلا وجد
وأذنك لم يقرع من النوم سمعها
أناشيد أطيار على الأغصن الملا
وقد كنت في بحر التفكر سابحا
أراعي وحيدا أنجم النحس والسّعد .
يذكر الصادق الزمرلي في كتابه “أعلام تونسيون” أنّ الخلصي نقل أيضا إلى الفرنسية قصيدة “البحيرة” Le Lac وهي لـ Alphonse de lamartine
ومفتتحها كما يعلم البعض
Oh temps suspend toi vol
أوّاه يا زمن كفّ عن التحليق .
كما أن الزمرلي يفيدنا بان الخلصي شرع من قبل في ترجمته رواية غادة الكاميلا لـ Alexandre Dumas الابن ولكنه لم يستوف ذلك العمل.
هذا وإنّ للخلصي مساهمة جليلة في العمل الذي قام به البارون ديرلانجي من خلال تأليفه لكتاب “تاريخ الموسيقى العربية” الذي صدر سنة 1933 بمساعدة المنوبي السنوسي.
كما أنّ للخلصي إنتاجا آخر في مجال الشعر الغنائي بالعامية.
خذ مثلا لذلك أغنية : غنّي يا عصفور.
غني وابدع في التلحين
غني للمسرور
غني للباكي الحزين
وهي من تلحين الشيخ خميس الترنان وأداء المطربة صليحة. وله أيضا قصيدة عصماء نظمها سنة 1944 بمناسبة مرور 1000 عام على ميلاد أبي العلاء المعري ونشرها بمجلة الثريا، يقول في مطلعها :
ماذا تقول أبا العلاء – وتزعم
وحقيقة الأشياء سرّ مبهم
لم يا رهين المحبسين قنعت من
دنياك بالأدنى وغيرك يغنم.
سنة 1947 عاد إلى تونس وتولى منصبا سياسيا في ديوان الوزير الأكبر مصطفى الكعاك وذلك إلى غاية سنة 1950 عندما تمّ تعويض وزارة الكعاك بوزارة محمد شنيق التفاوضية فبقي ملحقا بالإدارة مع مواكبته للأنشطة الثقافية سواء كان ذلك في جمعية الرشيدية أو في نوادي أخرى مع التذكير بأنه ولو لم ينتمي للمعهد الصادقي فلقد كان أوّل رئيس تحرير مجلة الصادقية عند صدورها سنة 1920.
توفي رحمه الله يوم 23 ديسمبر 1962.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى