صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب: المرشد الشابي (1947-2023) أحد أعتى العمرانيين كما عرفته..

ISSA BACCOUCH ce
كتب: عيسى البكوش

لقد وافى يوم الأحد 13 أوت 2023 الصديق والزميل المرشد الشابي أجله المحتوم، و’كلّ من عليها فان’، والفقيد يعدّ ـ بالنظر لأعماله الجليلة في المجال ـ من أكبر العمرانيين ومخططي المدن في بلادنا وربّما في قارّتنا السمراء.

ولقد تجاوزت شهرته آفاقنا الضيّقة لتنتزع لها مكانا ضمن أهل الاختصاص في العالم، ولقد أهّله مقامه العلمي للتدريس في جامعات أوروبية وبالخصوص في سويسرا حيث درّس في بداية الألفية بـ زيوريخ وجنيف.

النشأة

ولد المرشد الشابي يوم 2 ماي من سنة 1947 بتونس وهو ينحدر مثلما يدلّ عليه لقبه من عاصمة الجريد توزر وهو ابن الأديب المنعّم لأمين الشابي (1917-1974) أوّل وزير للمعارف بعد الاستقلال (1956-1958) وأخ الشاعر الخالد أبي القاسم.
ومن علامات برّه بوالده سعيه إلى نشر مذكراته “Journal d’un député ” عند دار نيرفانا وهي نفس الدار التي أصدرت سنة 2014 أهم كتابين للمرشد “L’urbanisation dans la grand Tunis” و “L’urbain en Tunisie”.
لقد ربطتني والفقيد وشائج القربى والنضال منذ ستينات القرن الماضي، فلقد عرفته وهو طالب بقسم علم الاجتماع بجامعة 9 أفريل وكان حينذاك “يتزعّم” قوى اليسار في الجامعة وكان هو وأترابه من مناصريّ في مؤتمر اتحاد الطلبة المنعقد بالمهدية سنة 1969 والذي تحمّلت إثره أمانة الاتحاد..

لمّ الصفوف

ولقد ساهم من موقعه في المكتب الفدرالي في كليّة الآداب هو ورفاقه وأذكر من بينهم رؤوف حمزة ومصطفى بن ترجم والمنصف الشابي ومصطفى التليلي في لمّ الصفوف ضمن هذه المنظّمة العتيدة التي ولدت شامخة ذات 13 جويلية من عام 1953 ثمّ فتر بريقها لفترة ما ثمّ استنهضت هممها بعد ذلك بفضل دعامات عديدة ومن ضمنها هؤلاء الأفذاذ من أمثال من افتقدناه اليوم.
لقد تمكّن الصديق المرشد من علمه الذي أحرز بفضله على أعتى الرتب الأكاديمية فهو من الأوائل الذين تحصّلوا على شهادة التأهيل للإشراف على البحوث في مجال العمران والتهيئة الترابية بعد أن نال شهادة الدكتوراه في ذلك الشأن عام 1986 بجامعة باريس وكان من ضمن مؤطريه الأستاذ الأبرز في مجال العمران والمدير السابق لمعهد الجغرافيا بباريس Michel Rochefort ولقد تخرّجت على يديه عديد الكفاءات التونسية ومن بينها الوزير المنجي بوسنينة، ولقد نالني بدوري شرف التتلمذ عليه ثمّ أصبحت أحد أصدقائه عندما أعددت أطروحتي حول مدينة أريانة إلى أن وافاه الآجل سنة 2016.

حالة حي التضامن

لقد تناولت أطروحته الجريئة حالة نعلمها جميعا ولكننا لم ندرك خفاياها ولا تعقيداتها، هي بالتحديد ظاهرة حي التضامن، وكلمة حيّ ليست في محلها فهي مدينة كبرى تعدّ المثل “الأسمى” في البناء التلقائي الذي أتى على كلّ المجال الذي يحيط بالعاصمة وضواحيها من جهة الغرب.
وفي أطروحته الشهيرة التي أهداني نسخة منها والتي تحمل عنوانا ” لطيفا ” إذ أنه ينأى بنفسه عن الحديث عن البناء الفوضوي: Une nouvelle forme d’urbanisation à Tunis : L’habitation spontanée péri-urbaine.، يؤكد بالدليل والبرهان والصورة عملية اجتياح هذا الفضاء في زمن قصير ويشير إلى الفاعلين المختفين والذين ينعتهم بالمختلسين Les lotisseurs clandestins.

جمعية مخططي المدن

وبالطبع فلقد استفاد المرشد من تجربته الطويلة في إقليم تونس هذا المكسب الرائد في مجال الدراسات العمرانية والذي وا أسفاه وقع وأده في أواسط الثمانينات، وقد تقلّد ضمنه إدارة الدراسات والتخطيط، وقد كان عمل من قبل ذلك من سنة 1973 إلى سنة 1975 بجمعية صيانة مدينة تونس وأنجز ضمن المجموعة مشروع اليونسكو للنهوض بالمساكن بالمدينة العتيقة، كلّ ذلك أهّل الفقيد إلى تأسيس جمعيّة أخرى سيصبح لها شأن صحبة ثلّة من خيار المختصين ومن ضمنهم جلال عبد الكافي وأحمد السماوي وهندة القفصي وهي الجمعية التونسية لمخطّطي المدن.
ولقد نالني الشرف أن عملت إلى جنبه في المكتب المدير لهاته الجمعيات لمدّة ست سنوات، لقد تمّت دعوتنا من طرف المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في فترة إدارة الوزير الطيب الحضري، فعرض المرشد لبّ دراسته حول المدن التونسية في أفق عام 2030 وعرضت أنا حيثيات المقترح الذي كنت نشرته في مجلّة Jeune Afrique في عددها الصادر يوم 30 أوت 2009.
وإنّه لمن المؤمّل نشر هذه الحلقة من الحلقات العلمية للمعهد تعميما للفائدة.
كما نالني الشرف أن ترأست الجلسة العامة الأخيرة التي انتظمت في دار لصرم حيث كان يعمل الفقيد في بواكير حياته المهنيّة.
ولقد أسفرت هاته الجلسة على انتخاب الدكتورة هند بن عثمان باشا على رأس الجمعية وهي تعدّ من أنجب تلامذة الفقيد وقد عملت إلى جانبه في مكتب الدراسات Urba Consult الذي أسّسه سنة 1992 وهو يعدّ من أهمّ مكاتب الدراسات في حوض المتوسّط.

هل تُحفظ ذاكرة الرجل؟

لقد أعدّ الفقيد عددا من أمثلة التهيئة في تونس وفي الخارج وكتب كمّا هائلا من المقالات في عديد المجلات المتخصّصة هنا وهناك، وإني لآمل أن تحفظ ذاكرة الرجل بأن تعطى الدولة في إطار الجوائز التي تسندها بمناسبة يوم الثقافة اسم هذا العلم لمن يتميّز في مجال العمران وتخطيط المدن.
رحم الله الرفيق العزيز ورزق زوجته راضية الحلواني وأبنائه جميل الصبر والسلوان
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى