صالون الصريح

د. المنجي الكعبي يكتب: لمحات شابية (1)

kaibi
كتب: الدكتور المنجي الكعبي

الكعبي للشابي كغار حراء للرسول صلى الله عليه وسلم .. مستلهم شعر ووحي والكعبي كما هو معلوم في توزر، بلدة الشاعر أبي القاسم الشابي، اسم صخرة كبيرة يطلق عليها هذا الاسم في منطقة رأس العين المسماة باسمها كذلك…

كما ذكر ذلك في أحدث ما قرأناه على العنكبوتية للسيد عادل الزبيدي رئيس جمعية الواحات بتوزر حيث يقول: «للتذكير “راس العين” و”الكعبي” كانت مصدر الهام الشاعر أبو القاسم الشابي.».

‏ (2) والمخلف المهجور من ثمانين عاما للشاعر أبي القاسم الشابي من مسودات ومهملات، الذي نشره أخيرا المتلقب بلقبه، وزير الشؤون الدينية في عهد بن علي، الدكتور علي الشابي دون أن يفصح عن نسبه إليه، لا يرقى الى النشر والى العنوان الذي وضعه له وهو «ظلال النخيل» كما ذكر ذلك الناقد الحصيف الشاعر القيرواني محمد الغزي في تعليقه عليه، ‏لبعده عن الحقيقة وجوهر العمل.

‏وأنه، ‏كما شهد به لسانه مما خصه به نجله جلال الشابي‏، دون وثيقة أو كتب بخطه، لتحمل المسؤولية ‏فيما يوثق أو لا يوثق، ‏واجتهد ليقول إنه استخلص العنوان من أبيات للشاعر، ولكن لا يغيب عن عارف أنه إيماء الى اسم ‏ ‏الكعبي دون تلفظ به.

(3) وللتصحيح، في المشرق ينطقون الشابي غير نطقنا المشهور في تونس، والصحيح وعلى الأصل هو نطقهم بعدم تشديد الباء ‏والياء أيضاً، وكذلك ينطقه الأجانب في لغاتهم محاكاة للنطق الصحيح، لأنه نسبة إلى بلدة اسمها الشابه قرب المهدية. فالنسبة إليها لا تكون مشددة الياء والباء بطبيعة الحال غير مشددة أصلاً.

وقل من رأيته تفطن إلى هذا الموضوع اللغوي حتى لا تنطق هذه الكلمة الشابي بين المشرق والمغرب إلا على الوجه الصحيح بتشديد الشين لا محالة لأنها من الحروف الشمسية ولكن لا بتشديد الباء لأنه ليس من شبّ يشب شبابا ‏وشبوبية.

(4) وعلاقة الشابي بالقيروان لا تجسمها تسمية هذا المكان أو الصخرة المسماة الكعبي نسبة إلى هذا القوم، الكعوب من أعراب بني هلال الذين استوطنوا القيروان فيما بعد والمناطق الواسعة حولها المسماة بالأعراض وتشملهم قبائل جلاص، بل ويجسمها أيضاً حنين الشابية إلى موطن دولتهم التي أقاموها في القيروان في القرن العاشر بصداقة الشاعر الشابي المتينة بالمربي الكبير من ذوي اللسانين ‏محمد الحليوي، ‏وأيضاً بعلاقة المصاهرة التي أقامها الدكتور علي بعد عودته من الشرق ‏بإحدى العائلات العريقة بالتعليم في المدينة في أول أمره.

(5) ولا يزال كشابي يأخذه الحنين الى تاريخ مجد هذه الدويلة التي أقامها صاحب الطريقة الصوفية سيدي عرفة حتى توجه على يد بعض تلاميذه بالكلية الزيتونية لدراسة سيرته ونشر مخطوطه الوحيد الذي وجده في وصف مذهبه وطريقته ، وقدم أخيراً الكتاب بعد اعتكاف الطالب سنوات على تحقيقه، قدمه له بمقدمة لم يتردد فيها من إبراز تفرد هذا المتصوف سيدي عرفة، بمذهب وحدة الوجود، خلافا لسائر المتصوفة قبله وفي عصره، منكراً كل تصوف لا يقوم على وحدة الوجود ومنها انطلق في تطبيقها العملي باستلام الحكم، بإقامة دولته على أنقاض الانظمة السابقة وبالانتقاض أولا على سلطة الحفصيين، ما أدى بدولته بالدخول في صراعات وحروب وإقامة أحلاف مع الإسبان لحماية ظهره من الأتراك والحفصيين معاً، وانتهت دولته بالسقوط في عهد أحد أحفاده أبي الطيب لما مالت عامة القيروان الى منافسه في التصوف سيدي عبيد الغرياني.

ونظرية وحدة الوجود التي لا تفرق بين شؤون الحكم والتصوف التى أجراها على لسانه الدكتور علي الشابي بدعوته هو للدولة القومية إحياء لدولة جده سيدي بو مخلوف وعرفة التي يعتبرها أول دولة قومية قامت في تونس، وكان ذلك في منافسة خفية لدولة بورقيبة، لأن مقاله في هذا المعنى لم يظهر إلا في ظل تهاوي حكم بورقيبة يوم السبت السابع من نوفمبر ١٩٧٨ في جريدة العمل كأنه من غريب الصدف!

وأصبح في اليوم التالي طموحه الى الحكم كالمتحقق مع بزوغ فجر الدولة الجديدة دولة بن علي الذي كان من أول أنصاره في الحكم منصر الرويسي اليساري المعروف وأحد بلديات الدكتور علي بتوزر وهو الذي أخذه الى تولي رئيس جامعة الزيتونة ثم تدريجياً إلى كاتب دولة فوزير للشؤون الدينية فرئيس المجلس الاعلى الإسلامي أخيرا.

(6) وهذه العصبية الى الدولة ومؤسسها بصفته متصوفاً وصاحب سلطة ومؤلف كتاب، اجتهد الدكتورعلي الشابي مقدم كتاب «ظلال النخيل» أن يقمصها جبة الشاعر الشابي واجتهد في جعله يتماهى في التصوف كجده في أكثر من بيت أو قصيد من مخلفه أو ديوانه الذي انكب كما يقول ‏على درسه وتحليله ‏بما وجده فيه من تصورات وأخيلة..

وهو يعلم كما نعتقد أن معاملة مفاهيم الشاعر بمفاهيم المتصوف دقيقة للغاية لأنها في عمومها مناقضة في ذهن عامة أهل السنة لوحدة الخالق والمخلوقات أي بتمايز الخالق عما سواه من المخلوقات.

‏‏(7) والشابي شاعر الخضراء ، بلقبه المفرد بل الأفرد، رفع سماء اللغة العربية بشعره إلى قمة إعجازها مجدداً في أغاني الحياة وفي ظلال النخيل، ولا مشاحة في الألقاب .

(8) ‏وأهمية هذه الأشياء أو الأشعار المتناثرة والرسائل المتبادلة لا تخفى، ولا تزيد في شهرة الشابي ولكنها قطعاً تزيد في معرفة الناس بشخصيته الفريدة وحالته في ساعات مرحه وترحه وعلاقاته بالناس من قريب ومن بعيد، ولعل بعضها كان من أسراره التي يجب أن يخفيها ولكن عامل الزمن وفضول الناس كشف عنها تحت قلم قريبه وأديب مثله، الدكتور علي الشابي الذي كان هو نفسه في شبابه الأول يكتب الشعر وله القصائد القليلة المنشورة تحت اسم علي الدريدي والذي يقول زميله وصديقه الأستاذ إبراهيم شبوح إنه استبدله لما عزم على الدراسة في مصر وشهرته تسبقه هناك لعلمه بإعجاب الناس في الشرق بعبقريته وتجديده فاتخذ لقبه كأحد بلدياته ولمَ لا القرابة الشديدة كدريدي من أنصار الولي الصالح الصوفي سيدي عرفة الشابي صاحب الدولة بالقيروان الذي ينتمي اليه القوم.

تونس في 13 صفر 1445هـ‍‍‍ / 30 أوت 2023 م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى