صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ القمة الإيطالية ـ الافريقية: كنّا عربات مجرورة واليوم نريد أن نقود القاطرة معكم…

slama
كتب: نوفل سلامة

الحدث البارز هذه الأيام كان في انعقاد القمة الإيطالية الافريقية التي احتضنتها مدينة روما يومي 28 و 29 جانفي المنقضي بدعوة وحرص من جورجيا ميلوني رئيسة الحكومة الإيطالية التي كانت تشتغل منذ فترة على بناء علاقات جديدة من التعاون والشراكة مع البلدان الافريقية تقطع مع النظرة القديمة للقارة السمراء المبنية على نظرة استعمارية وهيمنة كولونيالية دائمة.

برنامج جديد

في هذه القمة التي حضرها 23 رئيس دولة وحكومة أفارقة كان من بينهم الرئيس التونسي قيس سعيد اقترحت ميلوني على القادة الأفارقة برنامجا مغريا لبناء مستقبل مشترك تستفيد منه الدول الإفريقية في المقام الأول في مجالات استراتيجية عديدة تشمل موضوع الهجرة غير النظامية ومجال الأمن واستقرار المنطقة والغذاء وما يرتبط به من تحقيق الأمن الغذائي ومسألة التحول الطاقي والطاقات المتجددة والتغيرات المناخية وما تمثله من مخاطر على البشرية وعرضت خطة عمل من أجل تنمية إفريقيا أطلقت عليها إسم ” ماتي لإفريقيا ” نسبة إلى مؤسس مجموعة الطاقة الإيطالية ‘إيني إنريكي ماتي’…

وراءها فكرة رئيسية هي اليوم الهاجس الكبير لكل الدول الأوروبية تتمثل في إيجاد حلول للحد من ظاهرة الهجرة غير النظامية ووسيلة للتقليل أو تنظيم تدفقات الأفارقة جنوب الصحراء عبر المتوسط ومنع وصولهم إلى أوروبا وخاصة إيطاليا التي لم تعد ترغب في استقبال المزيد من أبناء القارة السمراء القادمين إليها بطريقة عشوائية عبر تسللات بحرية في قوارب الموت.

فكرة واضحة لدى ميلوني

تنطلق ميلوني في مقاربتها التي قدمتها في هذه القمة لإرساء شراكة جديدة مع الدول الافريقية من فكرة واضحة تقول بأن المشكل الرئيسي في موضوع الهجرة غير النظامية الذي جعل الأفارقة جنوب الصحراء، وكذلك الشباب المغاربي يفكرون في مغادرة بلدانهم الأصلية بحثا عن حياة أفضل وواقع أحسن في أماكن أخرى هو مشكل غياب التنمية المنتجة لفرص عمل ومشاكل فقدان الحظوظ والامكانيات لبناء مستقبل في بلدان المنشأ، وعدم توفر مواطن شغل بالقدر المطلوب تكون قادرة على استيعاب العدد الكبير من خريجي الجامعات والشباب العاطل عن العمل الذي فقد كل أمل في بلده الأصلي وذهب للبحث عن حل فردي لوضعه الاجتماعي في دول أخرى وخاصة في الدول الأوروبية بعد أن تعطل الحل الجماعي الذي من المفروض أن توفره الدولة…

أربعة محاور

خطة ‘ماتي’ التي تقترحها ميلوني تشتمل على أربعة محاور تدور جميعها حول بعث استثمارات كبرى ومشاريع تنموية بقيمة 5 .5 مليار يورو من بينها مشاريع في تونس في مجال معالجة المياه المستعملة بأساليب غير تقليدية وتحسين التصرف في المياه وإنشاء مركز للتدريب في مجال الغذاء الزراعي وإنتاج الطاقة البديلة وخاصة إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية ومشاريع أخرى في برامج تنموية لفائدة الشباب العاطل عن العمل.

تأمين الإمدادات

واضح أن جورجيا ميلوني تقدم عرضا مغريا لرؤساء إفريقيا يقوم على تأمين إمدادات الاتحاد الأوروبي من الطاقة القضية التي باتت تؤرق البلدان الأوروبية بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا وما حصل بسببها من تراجع في الحصول على الغاز الروسي في مقابل تعهدها والتزامها بتحقيق مشاريع تنموية في الدول الافريقية في محاولة لتركيز الشباب الإفريقي في بلدانهم وضمان استقرارهم في موطنهم وإيجاد حل لمشكل الهجرة غير النظامية والحد من تدفقات المهاجرين.
الحدث في هذه القمة التي أرادتها رئيسة الحكومة الإيطالية مناسبة للدخول إلى إفريقيا من الباب الكبير وفرصة لتقديم رؤيتها ومقاربتها لبناء شراكات استراتيجية مع حكومات دول إفريقيا تجني من ورائها مكاسب يستفيد منها المكون الأوروبي والحكومة الإيطالية، الحدث كان الكلمة التي ألقاها الرئيس قيس سعيد في هذه القمة وهي كلمة على أهميتها لم تلق من الاهتمام الإعلامي ما تستحق وغابت من النقاش العام ولم يقع العودة إليها لتحليلها ومناقشتها حيث قدم الرئيس قيس سعيد خطابا مرجعيا في مفهوم الكرامة والسيادة الوطنية وحدد معنى الشراكة الثنائية المتوازنة والعادلة وفق منطق التعاون الند للند وتبادل المنافع وتقاسم المخاطر بعيدا عن الهيمنة والاستعلاء الكولونيالي.

القطع مع النظرة القديمة

يعتبر الرئيس قيس سعيد أن ما تقترحه رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني لا يجب أن يجعلنا كأفارقة نكتفي بإقامة شراكة وتعاون معها من أجل بعث مشاريع في ميادين مختلفة فقط كما لا يمكن أن يجعلنا نكتفي بما تقترحه من إقامة مشاريع تنموية في مجالات مختلفة من أجل وقف تدفقات الهجرة نحو المتوسط لا غير، وإنما الذي نصبو إليه ونطمح من وراء هذه الشراكة مع الطرف الإيطالي والمكون الأوروبي هو تغيير النظرة إلى إفريقيا و الاتفاق على وضع بناء فكري جديد وإرساء رؤية فكرية مختلفة عما هو سائد ومطبق بجهاز مفاهيمي مختلف وبأدوات تفكير جديدة تقطع مع النظرة القديمة للمركزية الأوروبية لإفريقيا باعتبارها قارة تم استعمارها لعقود وهي اليوم تعرف إدامة لهذا الاحتلال ولكن بأشكال وأساليب مختلفة متحيّلة. يقول الرئيس ” إننا نريد شراكة جديدة تقوم على رؤية فكرية جديدة تفتح أفاقا جديدة يتساوى فيها البشر ولا ترتب وضعا تفاضليا للمجتمعات والدول ولا تمييز بينها على أساس الاحتقار والاستغلال والهيمنة.”

أفريقيا تعاني

ذكّر الرئيس قيس سعيد رئيسة الحكومة الإيطالية ومن ورائها قادة الاتحاد الأوروبي بأن إفريقيا التي عانت في الماضي من المآسي الكثيرة وكبلها الفقر والحروب والمجاعات تمتلك ثلث ثروات العالم حوالي 4.2 تريليون دولار أمريكي وهو رقم وفق كل التقديرات في طريقه نحو الارتفاع ومع ذلك فإن كل المؤتمرات التي عقدت من أجلها لم تفدها في شيء ولم تجن منها القارة السمراء إلا المزيد من التخلف والتراجع لتبقى إفريقيا حتى وقت قريب عربات مجرورة تقودها أطراف لا تريد لها الخير ولا تراعي مصلحتها تسير بها مرة إلى اليمين وأخرى نحو اليسار واليوم فإن إفريقيا لم تعد ترضى أن تكون مجرورة في عربة وانما تريد أن تقود القاطرة كما يقودونها.

نظرة جديدة

يقدم قيس سعيد في خطابه هذا حول معنى السيادة الافريقية والاعتداد بالنفس نظرة جديدة لمعنى الشراكة مع الأوروبيين ورؤية جديدة لمفهوم الشراكة العادلة البعيدة عن الهيمنة والنظرة الكولونيالية واستغلال المركزية الأوروبية المتحكمة، رؤية تقوم على مقاربة تستحضر خيبات الماضي وآلامه و تستشرف المستقبل لا بمنطق العربات المجرورة ولكن بمنطق سياقة القاطرة وقيادتها الند للند من أجل مجتمع إنساني جديد يقوم على العدل والانصاف، مجتمع إنساني يتم فيه القضاء على الفقر والبؤس والتهميش والإقصاء وتكريس الهيمنة المتواصلة المجحفة.
المفيد في حديث الرئيس قيس سعيد أنه تجاوز الاغراءات المادية لميلوني وتجاوز نظرتها للأشياء وتجاوز النظرة القديمة لإفريقيا، ولمعنى الشراكة التي كانت تفرضها أوروبا وتخطى الرؤية التي تركز على معالجة موضوع الهجرة غير النظامية من خلال تقديم الدعم المادي والمساعدة على إقامة المشاريع التنموية وتحسين الأوضاع الاجتماعية للمهاجرين في بلدانهم الأصلية وانتقل بالتفكير إلى مستوى آخر أكثر عمقا حيث نبّه بكل وضوح وجرأة إلى أن مشكل إفريقيا مع أوروبا هو مشكل معرفي ومشكل منظومة فكرية غربية متحكمة ومشكل رؤية يتبناها الغرب مستعلية ونافذة ومشكل مقاربة كولونيالية دائمة لا تريد أن تتغير وتصور ما زال يرى إفريقيا عربات مجرورة تابعة ومتحكم فيها ..

زمن جديد

لقد قال لهم بكل وضوح إن عهد العربات المجرورة قد انتهى وإن زمانا كانت فيه افريقيا تابعة ومهيمن عليها قد ولّى وانقضى وإن الأفارقة اليوم يريدون أن يكونوا سائقين للقاطرة ويطالبون بحقهم في قيادة العربة..
إنه زمن جديد وميلاد عالم جديد وروح عصر مختلف بفكر جديد وعقل جديد وإرادة جديدة .. فالمشكل كما يراه الرئيس قيس سعيد يتجاوز المسائل المالية ليجعل منه مشكلا ثقافيا ورؤية فكرية ومنظومة معرفية ولا مجرد إعانات مادية ومشاريع تنموية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى