صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ كتاب جديد: بورقيبة في خطاباته زعيم على غير مثال مهوس بالزعامة والنصر والقوة

slama
كتب: نوفل سلامة

هل مازال هناك حديث أو ما يُقال حول الرئيس الحبيب بورقيبة بعد أن أشبع بحثا وتحليلا وكتابة؟ وهل مازالت هناك جوانب أخرى في حياة وشخصية الرجل لم يقع التطرق إليها وهو الذي حظي بعناية كبيرة من قبل الكُتّاب والباحثين الذين شرّحوا الرجل طولا وعرضا وتحدثوا عن كل شيء تقريبا في مسار حكمه ومساره السياسي وحياته الشخصية والنضالية زمن الاستعمار ومرحلة بناء الدولة الحديثة…

حتى أصبح الحديث عن الحبيب بورقيبة في بعض الأحيان ممّلا لكثرة ما تتكرر المحاور التي يتم التركيز عنها في هذه المؤلفات حتى باتت معروفة عند الجميع خاصة وأنه لا تكاد تمر سنة إلا و نرى كتابا جديدا عن بورقيبة قد صدر ولعل آخر هذه الإصدارات رباعية لطفي الحجي عن بورقيبة ضمن سلسلة بورقيبة من الداخل، وكتاب عدنان المنصر ‘دولة بورقيبة فصول في الأيديولوجيا والممارسة 1956 – 1970 وكتاب فتحي ليسير ‘بورقيبة مؤرخا’..

خطابات الرئيس

ولكن رغم هذا الكم الكبير من الكتب عن الرئيس الحبيب بورقيبة فإن الحديث عنه لا يزال متواصلا، ويبدو أن قدرنا معه أن يظل حاضرا باستمرار في حياتنا وأن يظل الحديث عنه مفتوحا لا ينتهي وهذا ما جعل الباحث هشام عبد الصمد يُصدر كتابا جديدا عن الزعيم بورقيبة عنوانه ‘المجد والقوة مقتطفات من خطابات الرئيس الحبيب بورقيبة’ صادر باللغة الفرنسية في 620 صفحة مع تقديم للكاتبة والمؤرخة التونسية الفرنسية صوفي بسيس تم تقديمه يوم السبت 28 جوان في المكتبة الثقافية طريق قمرت تناول فيه المؤلف زاوية طريفة في شخصية الرئيس بورقيبة وهي زاوية وإن كنا نجدها في بعض الكتب التي تحدثت عنه إلا أنها لم تشبع بحثا وتأليفا هذه الزاوية هي خطابات الرئيس التي كان قد ألقاها في العديد من المناسبات وفي المؤتمرات التي كان يحضرها وما يكشف عنه تحليل شخصيته والتعرف على مواقفه من خلال تفكيك البناء اللغوي لهذه الخطابات…

صورة غير نمطية

فالكتاب حاول أن يقدم للقارئ صورة غير نمطية عن الرئيس بورقيبة من خلال كلامه وحديثه ومعجمه اللغوي الذي يستعمله ويبتعد قدر الإمكان عن تأثير التحاليل الأخرى التي تناولت حياته من خلال مواقفه وأدائه السياسي…

فالكتاب ابتعد عن كل ذلك وركز على الكلمة ودورها في بناء زعامته وإرساء سلطته و تقديم صورة عن الزعيم الحبيب بورقيبة بالعودة إلى أهم خطاباته وتفكيك البناء اللغوي والمفردات والمعجم المستعمل ومحاورة الأفكار التي احتواها مضمونه ويبدو من خلال المطلعين أن هذا الكتاب هو من الكتب القليلة في مجاله التي بحثت في شخصية الرئيس الحبيب بورقيبة بكل تناقضاتها وسبر أغوار رجل شغل الدنيا في زمانه بكثرة ثرثرته التي عرف بها و التي اقلقت زعماء كبار في زمانه من خلال الكلمة وقوة خطابه.

اختار هشام عبد الصمد ستة عشر خطابا كان الرئيس بورقيبة قد القاها في مناسبات مختلفة وهي خطابات منتقاة عن قصد من المؤلف لكون كل واحد منها كان مؤثرا ويمثل منعطفا مصيريا في حياة الرجل، وفي تاريخ تونس ما بعد الاستقلال، تناولها الباحث هشام عبد الصّمد بالتّحليل والتّفكيك في قراءة غير مسبوقة لدلالات الخطاب ووظيفته لدى صاحبه، وعلاقة بورقيبة بالكلمة ودورها في بناء زعامته وإرساء سلطته.

خارج المعايير والأنماط

يبدو من خلال تحليل هذه الخطابات أن الذي أدخل بورقيبة إلى التاريخ ليست سياساته التي اتبعها ولا مواقفه فيما يخص الشأن العام والقضايا الدولية وإنما الذي وضعه في قلب التاريخ هو هذه الخطابات التي جعلت منه لأكثر من نصف قرن زعيما على غير مثال و خارج المعايير والأنماط المعروفة في الحكم، وجعلت منه حديث التاريخ وموضوعه ولا يزال وبقدر ما أبرزت هذه الخطابات جانبا كبيرا من صورة وشخصية الرئيس فإنها رسمت حيرة الرجل وهواجسه واسئلته القلقة وأجوبته التي كثيرا ما كانت صادمة ومثيرة للجدل ورهاناته وأحلامه في أن يصبح رئيسا فوق الكل، وزعيما في صورة ملك وحاكما في صورة ديكتاتور.

خطابات مفصلية

في رحلته لسبر أغوار شخصية الرئيس الحبيب بورقيبة من خلال تحليل الخطاب ودلالة الكلمة وقوة المعنى يأخذنا الكاتب في سفر شيق وعودة إلى التاريخ واستحضار الذاكرة و ما دار في خطاب مؤتمر صفاقس 1955 وخطاب القيروان الذي ردّا فيه على صالح بن يوسف في سنة 1955 وخطاب إعلان مجلة الأحوال الشخصية في سنة 1956 الذي عد خطابا في نهج الإصلاح الاجتماعي وخطاب الإعلان عن الجمهورية في شهر جويلية 1957 الذي يصنف في خانة الإصلاح السياسي وخطاب 1963 حول المؤامرة والقضية اليوسفية وخطاب أريحا في 1965 حول المسألة الفلسطينية، وكل الضجيج الذي أحدثه وخطاب أنقرة في نفس السنة خلال زيارته إلى تركيا الكمالية، وهو خطاب غير معروف ولكنه في غاية من الأهمية لكونه يتناول مسألة طبيعة الدولة وموقف بورقيبة من اللائكية والعلمانية وكثيرا ما يتم تناسيه ثمّ خطاب المنستير 1968 الذي خصصه بورقيبة للرد على اليسار الجامعي وخطاب مؤتمر المنستير 1971، وخطاب البالماريوم الشهير الذي ألقاه في سنة 1972 بحضور الرئيس الراحل معمر القذافي وخطاب بورقيبة بمعهد الصحافة وعلوم الاخبار وهو محاضرات القاها سنة 1973…واعتبرت مرجعية ومنعطفا كبيرا في مسار الرجل الفكري فجر من خلالها الكثير من القيم التقليدية والقضايا الاجتماعية السائدة إلخ.

شخصية معقدة

كل هذه الخطابات قام هشام عبد الصمد بالتعليق على سياقاتها التاريخية وخلفيات الأحداث التي برّرت وجودها، ودرس المدلولات اللغوية ومعجم الكلمات المستعملة والمختارة وطريقة بورقيبة في التّعامل مع منعطفات التاريخ ليكون منها صورة أقرب ما تكون إلى حقيقة شخصية الرئيس الحبيب بورقيبة التي توصف بكونها شخصية غير مستقرة ومعقدة ومثيرة وعلى غير مثال وفريدة من نوعها.

الزعامة والقوة

أهم الاستنتاجات التي انتهى إليها هشام عبد الصمد من خلال هذا البحث أن كل الخطابات موضوع الدراسة تدور حول محور رئيسي هو السلطة والسياسة والزعامة والقوة والتفوق والبروز، فكل أحاديثه كانت تدور حول إشكالية الحكم وممارسة السياسة وحول كيف يمكن أن يكسب السلطة وكيف يحقق النصر، وكيف يكون زعيما أوحدا فقوة بورقيبة تدور حول هذه المعاني وخاصة ثالوث النصر والقوة والزعامة فمعركته الحقيقية كانت حول الدولة والزعامة والرئاسة ولم تكن يوما معركة من أجل الحزب مثلا وكل القضايا الأخرى تأتي في المرتبة الثانية فهو كثيرا ما يعلن في خطاباته أن قوته متأتية من قوة شخصيته وكان هاجسه فيها كيف يقدم للناس حديثا يقتنعون به ويستهويهم لذلك كان حريصا على الاتصال بالشعب كل يوم خميس للحديث عن أفكاره.

بورقيبة والدولة العلمانية

هل كان بورقيبة لائكيا ويدعو إلى بناء دولة علمانية على شاكلة علمانية تركيا الكمالية؟ الواضح أن خطابه خلال زيارته إلى تركيا يبرز أن بورقيبة لم يكن موافقا على مسار العلمنة الذي نهجه كمال أتاتورك ولم يكن ليقبل أن تتحول تونس إلى دولة علمانية، وما فُهم منه من حديثه أنه يرفض الدولة العلمانية ولكن السؤال المحير كيف نفهم بورقيبة في هذه القضية وهو الذي لم يكن قابلا بحضور الدين في المجال السياسي وفي الدولة وكانت له رؤيته لعلاقة الدين بالسياسة من خلال موقفه من التعليم الزيتوني وقضية الحجاب وصوم رمضان ربما كانت هذه القضية من بين القضايا التي حيرت الباحثين حيث هناك اعتبره علمانيا وهناك من نفي سعيه لتأسيس دولة لائكية وهناك من جعله علمانيا أول النهار وضد اللائكية آخره وهناك من دعا إلى معرفة موقفه من الإسلام والدولة العلمانية من خلال علاقته بالقرآن والسيرة النبوية وما قاله في خطاب أنقرا وهو الموقف الذي ذهب إليه أحمد المستيري ورجحه حينما قال بورقيبة لم يكن علمانيا كما تظنون ويمكنكم أن تعودوا إلى خطابه في أنقرة.

عقيدة راسخة

لكن الموقف الواضح حول مسألة علمانية بورقيبة من عدمها أن الرجل كانت له عقيدة راسخة من أن الدولة غير معنية بإيمان الناس ولا تتدخل في معتقداتهم ولكنه في نفس الوقت لم يكن معاد لكمال أتاتورك، بل على العكس كان معجبا به ولكن في نفس الوقت لم تكن تعجبه مواقفه بخصوص الدين و المحدد في هذه القضية تحليل خطاباته حول الزعامة والنصر والقوة لذلك ما كان يعجبه في أتاتورك، هو هذا الجانب كان معجبا بقوته في الحكم وسيطرته على الدولة وقوة شخصيته التي جعلت منه زعيما قوميا للأمة التركية أما غير ذلك من المواقف فلم يكن موافقا عليها.
في علاقته بالعالم العربي نقف على كثير من الغموض في الموقف ومراوحة بين الذهاب نحو الغرب والانبهار بحداثة أوروبا بل وتقليدها وعودة نحو العالم العربي والانتماء للامة العربية والدفاع عن هوية البلاد التي يجب أن تبقى مسلمة مع سيرها نحو التقدم والنهضة..
وهنا تبرز علاقته بجمال عبد الناصر التي حددها موضوع صالح بن يوسف الذي كان يلقى الدعم من عبد الناصر و تراوحت هذه العلاقة بين الود والتفاهم والخصام والخلاف وخطاب القاهرة قد أظهر أن الخلاف كان حول الزعامة ومع ذلك كان بورقيبة قريبا من اشتراكية عبد الناصر، وفي هذه القضية لم يكن هناك اختلاف كبير حول تبنى الدولة النهج الاشتراكي وتبنى الاشتراكية خيارا اقتصاديا للدولة .
السؤال الذي هيمن على هذه الندوة الفكرية التي اثثت بمناسبة تقديم الكتاب كان ماذا بقي من بورقيبة لتونس اليوم؟ وهل مازالت تونس متأثرة بخطاباته وتسير على رؤاه؟ وهل تونس اليوم لازالت وفية لبورقيبة أم أن الجيل الحالي قد ولى ظهره نحو أفكار أخرى ومقاربات جديدة ؟ ماذا بقي من بورقيبة في زمن اتضح أن كل ما قاله هذا الرئيس لم يعد مفيدا لأبنائنا ولا يعنيهم في شيء؟
بورقيبة لم يكن مفكرا ولا فيلسوفا وإنما كان رجلا مهوسا بالزعامة ومولعا بالثرثرة وزمانه ليس بالضرورة زماننا…كان حقيقة زمانه التي تبقى محددة في فترة تاريخية ولت وانتهت. كان له حضور بارز في مرحلة من تاريخنا كان ديمقراطيا غير مكتمل.
واليوم هل يمكن أن نستعيد بورقيبة وأفكاره رؤاه إذا ما اتضح أن نقطة ضعفه هي مسألة الحريات وتنكره للحكم الديمقراطي..لقد حاول أن ينجز تحديثا للبلاد ولكنه فشل في تحقيق حداثة فعلية للبلاد.

رجل نرجسي

ماذا بقي من بورقيبة؟ ما بقي منه هو نهجه السياسي القائم على التسلط شرط للإصلاح والتقدم والإصلاح وسيلته للحكم. بقيت صوة الزعيم التي طغت على صورة الحداثي. بقي الاعتراف له بالكثير من الإنجازات لكن في الأخير كان رئيسا تسلطيا مارس الديكتاتورية.
ما بقي هو أنه للذهاب نحو المستقبل لا يمكن أن نبني على إرثه ومنجزه الذي حوله الكثير من الأسئلة الغامضة منها أن بورقيبة ليس فقط ما حققه من مكاسب للمرأة وسنّه لمجلة الأحوال الشخصية، وإنما هو أيضا رجل نرجسي كان يرى أن الشعب لا قيمة له من دون زعيم وكان كثيرا ما يتحدث عن نفسه وشخصه وغيّب الكثير من الرموز والشخصيات الوطنية وغيّب الشباب وغيّب المرأة ليبقى وحده فوق الركح…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى