عيسى البكوش يكتب/ ومضات من تاريخ مدينة تونس: إزالة تمثالي جول فيري ولا فيجري من باب بحر..

كتب: عيسى البكوش
إنّ للاستعمار الذي رزحت تحت نيره بلادنا منذ ذلك اليوم المشؤوم 31 ماي 1881 رموزا فيها المتحرّك وفيها الجامد.
فإلى جانب المعمّر والجندرمي والمقيم العام، هناك الأصنام التي وضعتها ‘الدولة الحامية’ بكلّ صلف تبتغي من وراء ذلك إذلال ما أشار إليه الميداني بن صالح (1929-2006) في ديوان قرط أمّي: الأنديجان”:
“وتقولين غبيّا
عربيّا
قرويّا
أنديجان
إيه يا سخف الزمان!
أهكذا المجد يهان؟”
وشرح الشاعر الملهم هاته الكلمة ” لبني فرنكون”: «استخدمها المستعمرون لتحقير السكّان الأصليين».
إذن ارتأت الإقامة العامّة الحاكمة بأمرها بمقتضى معاهدة المرسى لسنة 1883 أن تكرّم الرجل الذي حرّض على احتلال تونس ثمّ أنجزه وهو يسوس فرنسا من خلال رئاسته لحكومتها سنة 1881 في عهد الجمهورية الثالثة مع احتفاظه بحقيبة وزارة التربية التي من خلالها أنشأ المدرسة العمومية اللائكية، ولذلك ما زال الفرنسيّون وخاصّة اليساريّون يكنّون له الاعتراف الأزلي، غير أنّه كان استعماريّا وحتى عنصريّا فكرا وإنجازا.
فلقد كان يردّد جملته الشهيرة ” إنّه لمن واجب الأعراف العليا تحضير “الأعراف السفلى”، ولكنّ الرجل الذي أرسل 30 ألف جندي لاحتلال تونس أقرّ عند زيارته لها يوم 23 أفريل 1887 وهو المترشّح للانتخابات الرئاسية أنه إذا وقع تملّك تونس (فلأنّنا أردنا تملّك بنزرت). وهكذا أفصح جول فيري (1832-1893) عن السبب الحقيقي لامتلاك تونس كما يحلو له فلا ‘تحضير’ ولا هم يحزنون.
جول فيري هذا تقلّب في عديد المسؤوليات في بلده وابتدأها بترأسه لبلدية باريس زمن الكومون سنة 1871 التي أفلح في محقها.
فهو إذن من الغلاة الذين لا يخلو منهم تاريخ الاستعمار الذي ابتليت به فرنسا بلد الأنوار.
طلب من أحد النحّاتين واسمه (Antonin Mercié) (1845-1916) أن يصنع صنما على مقاس جول فيري ولكنّه لم يكتف بنحت الجسم بل أردفه عند قدميه بلوحة مهينة تجسّم امرأة بلباسها البدوي وهي تسعى لتكريم الغاصب بمدّه بغصن زيتون وعرجون تمر وكذلك بطفل فوق رأسه شاشية وهو يتابع ما يقرأه طفل فرنسي متأنّق.
وقع تدشين هذا التمثال يوم 24 أفريل من سنة 1899 وصرّح المقيم العام René Millet (1849-1919): ” هذا أوّل تمثال في تونس منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية أي منذ 14 قرنا ونصف”.
استباحوا أرضنا وتاريخنا ثمّ ديننا
لقد تكفلت الحكومة التونسية بمصاريف هذا العمل الفني (هكذا) الذي توسّط شارع البحرية الذي أصبح يحمل منذ دخول المستعمر اسم هذا الفاتح القادم من الشمال.
لقد استباح مريدوه أرضنا وتاريخنا ثمّ ديننا.
لقد عنّ للمقيم العام Lucien Saint (1867-1930) أن يخلّد ذكرى أسقف تونس والجزائر Charles Lavigerie (1825-1892) بوضع نصب له بجانب باب بحر أو باب فرنسا كما أصبح يسمّى زمن الاحتلال فتوجّه لأحد النحاتين Elie-Jean Vezien (1890-1982) لإنجاز هذا التمثال فتمّ ذلك عام 1925 وأضحى Lavigerie مؤسس الآباء البيض ركنا صلبا قائما في مدخل المدينة العتيقة حاملا في يد الصليب وفي الأخرى الإنجيل، ولعلّ هذا المقيم القدّيس Saint أراد بفعلته الانخراط في حركة التبشير ببلادنا ناسيا أو متناسيا أنّ شعبنا الذي دخلت أسلافه أفواجا في الإسلام لن يرضى بغيره بديلا.
ولقد قام ـ غداة تدشين هذا التمثال يوم 23 نوفمبر من تلكم السنة ـ طلبة جامع الزيتونة بحركة احتجاجية فما كان من سلطات الاستعمار إلا التنكيل بهم والحكم على اثنين منهم بـ20 سنة أشغال شاقة والبقية ومن بينهم الطاهر الحداد وقع توقيفهم عن الدراسة.
حبل الظلم قصير
ولكن حبل الظلم قصير والقيد لا بدّ أن ينكسر والحق لا بدّ أن ينتصر ولو بعد ثلاثة أرباع من القرن، فما إن بزغ فجر الاستقلال حتى انبرى رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة المعيّن يوم 14 أفريل 1956 إلى إزالة هذين الصنمين حتى يعود لباب بحر صفاؤه بانجلاء هذا النشاز.
فتوجّه يوم 2 ماي برسالة إلى السيد Perrin أسقف قرطاج يعلمه فيه بضرورة نقل تمثال الكاردينال Lavigerie – وقد عيّنه في تلك الخطّة البابا ليون الثالث عشر الذي ينسب البابا الحالي نفسه إليه، ولقد تولى لقب ليون الرابع عشر- إلى كنيسة قرطاج فكان الردّ إيجابيا وتولت مصالح بلدية تونس القيام بالأشغال ليلة السابع والعشرين من رمضان الموافق للسابع من ماي على أنّ الزعيم بورقيبة أومأ وهو يحي الليلة في الجامع الأعظم إلى المصوّر الحبيب عصمان بالتوجّه قرب باب بحر حيث سيعاين حدثا تاريخيا لم يفصح عنه، وبذلك تمكّن من تسجيله في الذاكرة وتناولته الصحف من الغد.
أمّا بالنسبة للصنم الثاني فلقد اغتنم بورقيبة إعطاء اسم الشارع له بدلا عنه Jules Ferry غرة جوان 1956 للسعي إلى اقتلاعه فأوحى إلى المسؤولين في بلدية الحاضرة بتقديم عرض للجهات الفرنسية بإهداء هذا التمثال إلى المدينة التي ولد فيها Jules Ferry أي Saint-Dié فهي أولى به. وتمّ بالفعل ردّ هذه البضاعة “الثمينة” إلى أصحابها دون غوغاء ولا شوشرة يوم 18 أكتوبر 1956.
ومن بعد ذلك بعقدين وبالتحديد يوم 18 جانفي 1978 وُضع غير بعيد عن مكان التمثال المزال تمثال للرئيس الحبيب بورقيبة وهو يمتطي صهوة جواد من صنع الصديق النحات الهاشمي مرزوق وتلك حكاية أخرى…..