صالون الصريح

هادي دانيال يكتب: هل يحتاج القادة العرب تأشيرة من واشنطن لحضور القمة العربية ـ الروسية؟

HEDI DANIEL
كتب: هادي دانيال

بعدَ عشرين شهراً من جرائم الإبادة الجماعيّة وتسوية مُدُن وبلْدات وقُرى قطاع غزة بالأرض وإخضاع سكانها الفلسطينيين لأقسى وأبشع هولوكوست عرفته البشريّة عبر العصور…

حيث تُعجَن دماء الأطفال بسراب أرغفة الخبز بعد أن عُجِنَت أشلاءُ أجسادهم بردم البيوت ورماد الخِيَم، واستمرار هذا الهولوكوست إلى هذه اللحظة غير آبه باحتجاجات الرأي العام ممثّلا بالشعوب لا بالحكومات، وخاصّة الشعوب الغرْبية التي انهارت في عقولها ووجدانها السردية الإسرائيليّة انهيارا تامّاً.

مشهد سريالي!

وبعد أقلّ من عام من إيصال التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في سورية لـ المدعو (أبو محمد الجولاني) إلى سدّة الحكم في دمشق تتواصل جرائم الإبادة الجماعية للأقليّات في سورية الذين تسيل دماؤهم على أسلحة “الأمن الإرهابيّ العام”، بينما دبابات العدو الإسرائيلي تتقدم بدون رادع لتسيطر بعد الجولان بأكمله على الجنوب السوري بمحافظاته (ولاياته) الثلاث، في مشهد سياسي سريالي لم تعرفه المنطقة سابقا. وكأنّ تكيُّف الشارع العربي المازوشي مع مجازر غزّة اليومية بات طبقا يوميا للروح العربية الذابلة تمهيداً لفلسطنة الدول العربية ترابا وشعوباً وصولاً إلى إقامةِ “دولة إسرائيل اليهودية الكبرى” مُحاطةً بكيانات فاشلة بمكونات ما قبل الدولة، على خلفيات عرْقية ودينية وطائفية.

عدوان متواصل

ومنذ أيّام يشنّ الكيان الصهيوني الذي يمتلك أكثر من مائة رأس نووي والرافض للتوقيع على الحدّ من انتشار الأسلحة النووية هجوماً وحشيّاً “استباقيّاً” على إيران “لمنعِها من امتلاك سلاح نووي” علماً أنّ طهران وقّعت على معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، وتمّ هذا العدوان المتواصل بتواطؤ من الأرجنتيني “رافايل غروسي” مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي قدّم تقريراً مُغرِضاً أوْحى بأنّ طهران ربّما تسعى إلى امتلاك سلاح نووي اتخذته تل أبيب ذريعة لتغطية عدوانها ثمّ نفى “غروسي”، بعد حصول العدوان، وُجُودَ أيّ دليل لديه عن سعي طهران إلى امتلاك سلاح نووي…

استعراض الحماقة!

وكذلك بالتنسيق مع واشنطن التي ناورت على طهران وخدعتْها على مراحل (قبل العدوان المشترك الأمريكي الإسرائيلي وخلاله وبعده) إلى أن أخذ ترامْب على عاتقه ضرْب المواقع النوويّة الإيرانيّة الثلاثة، وخاصّة موقع “فوردو” بالقنابل الخارقة للتحصينات. وعندما تبيّنَ للمُعتدين أنّ هذا الاستعراض السادي الصهيو ـ أمريكي للقوّة الإمبريالية قوبِلَ بصمود وتحدٍّ سيادي إيراني، وجّه المُعتدون دميتهم الأرجنتينيّة “غروسي” إلى أن “يطالب إيران بالكشف عن المواقع السرّيّة التي نقلت إليها طهران اليورانيوم قبل العدوان الأمريكي “!. وهذا طلبٌ لا يوازيه عنجهيّة وحماقة في آن إلّا قول “كير ستارمر” رئيس وزراء بريطانيا: ” مِن حقّ إسرائيل أن تُهاجِمَ إيران ويجب على إيران أن لا تردّ”.

هذه بعض الملامح الحادّة لكوكبنا الذي حوّلته العولمة الأمريكيّة ليس إلى قرية كبيرة كما كان يُقال، بل إلى غابة تُفَصْفِصُ فيها الدولُ المُفترِسة القويّة عظام الدول التي توهّمت أنّها محميّة بسراب القانون الدولي وحقوق الإنسان وإلى غير ذلك من الإنشائية التي باتت أشبه بـ ثغاء الحملان خلال سوقهم إلى المسالخ.

تعدّدية قطبية

لقد حلمنا بأنّ العالم ربما يتغيّر إلى الأفضل عندما طرأ على المشهد الدولي تغيُّرٌ بدا معه وأنّ العالم يتجه اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا إلى تعدديّة قطبيّة بنهوض روسي ـ صينيّ يُقوي الشرعية والقانون الدوليين ويستقوي بهما لحماية سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصائرها عبْر العالم، وفي هذا السياق تشكلت تكتلات اقتصاديّة سياسيّة على غرار البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، إلّا أنّ اختراقها من حلفاء المعسكر الصهيوني الغربي (الهند، تركيا، الكيانات الخليجية.. إلخ)
حوّلها إلى “منتديات مهذّبة للتصريحات” على حدّ تعبير الفيلسوف الروسي “ألكسندر دوغين”، كي لا نقول إلى مشاريع لم تُفَعَّل أصْلاً كي نَختبِر مدى نجاعتها في مواجهة سُعار الليبرالية الغربية المتوحشة التي تستهدف الدولة الوطنية عبْر العالم بشراسة المُفترِس المسعور، كون الدولة الوطنية العريقة حضارياً وثقافيا المستقلة سياسياً التي أنجزت اكتفاءها الذاتي اقتصاديا وتقنيا المتماسكة اجتماعيا والمعتزّة بكونها ذات سيادة، هي الجدار الأخير في مواجهة العولمة الأمريكية المتغطرسة.

ولذا دفعت واشنطن أدواتها من الكيانات الوظيفية اللقيطة كحكومات الكيانين الصهيونيين في فلسطين المحتلة وأوكرانيا وغيرهما من الحكومات الأوليغارشية والإرهابية، دفعتها للتحرُّش بالدوَل الوطنية ذات السيادة في سوريا وإيران وروسيا والصين كي تشملَ الفوضى الخلاّقة جنوبَ العالم، وخاصة جنوبه الشرقي لإعادة صياغته ديمغرافيا وجغراسياسيا بالقوة العسكرية وتوزيع حكومات تابعة على عواصمه الجديدة بما ينسجم مع المصالح الصهيو ـ أمريكية تحديداً وفقط.

في هذه اللحظة الفارقة تأتي دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جميع قادة دول جامعة الدول العربيّة، إلى عقد القمّة الروسيّة – العربيّة الأولى في روسيا يوم 15 أكتوبر المقبل.
وأكّد الرئيس الروسي أنّ هذه القمّة ” ستسهم في زيادة تعزيز التعاون متعدّد الأوجُه، ذي المنفعة المُتبادَلة للدوَل، وستساعد في ضمان السلام والأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”. بالتأكيد ما دعا إليه الرئيس الروسي في ما اصطُلِح على تسميته “دبلوماسية القمة” مع الدول العربية، كان بوتين قد جرّبه واختَبَرَ بعض نتائجه عندما عقد قمتين مع الدوَل الإفريقيّة (الأولى في سوتشي عام 2019، والثانية في سانت بطرسبرغ عام 2023). وربّما على هذا المنوال عقدت الصين ثلاث قمم (سعوديّة، خليجيّة، عربيّة) في أكتوبر 2022، وإذا كانت موسكو وبكين ترميان بمثل هذه القمم الدبلوماسية إلى اقتراح علاقات ندّيّة تعزّز استقلال هذه الدول العربية وتُمكّنها من الحفاظ على سيادتها على ترابها الوطني وثروات شعوبها، والمساهمة في تأسيس عالم جديد متعدّد الأقطاب، تصبح الدول العربية في سياقه قطبا مستقلا يعتمد التعاون الاقتصادي البراغماتي مع بقية الأقطاب، ويجعل من الرأسمال العربي التريليوني قوّة لحلّ مشاكل المواطن العربي الاقتصادية والاجتماعية من جهة وللضغط من أجل حلّ قضاياه الوجودية التي يتصدرها رَفْعُ المظلمة التاريخيّة عن الشعب الفلسطيني واستعادة حقوقه المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الحرة المستقلة وعاصمتها القدس، وبالتالي تعطيل المشروع الصهيوني وإزالة خطره الذي يهدّد شعوب المنطقة العربية بأسرها تهديدا وجوديا…

نجاح مشروط

إذا كان ذلك كذلك، فإنّ نجاح موسكو وبكين مشروطٌ بأن تكون حكومات دول الجامعة العربية التي وُلِدَ مُعظمها على يد القابلة الأمريكية، معنيّة حقاًّ بوضع حدّ لمعاناة الشعب الفلسطيني واستعادة حقوقه كاملة، ومنْع الإرهاب الصهيوني والإرهاب التكفيري في فلسطين وسوريا المحتلتين من مواصلة جرائم الإبادة الجماعية قتلاً وتهجيراً ضدّ سكّان فلسطين وسوريا الأصليين الذين يوصفون الآن بالأقليات العرقية أو الدينية والمذهبية. ومشروطٌ بأن لا يكون “البنتاغون” قد أقال العقيد “ناثان ماكورماك” لأنه صرّح أنّ تريليونات الدولارات التي تسلّمها الرئيس “دونالد ترامب” من حكام خليجيين لم تكن من أجْل إيجاد فرَص عمل للأمريكيين، بل للإنفاق على حربٍ إسرائيلية ضدّ الدولة الإيرانية.

الأمل اليائس

وعلى الرغم من ذلك ليس أمامنا غير الأمل اليائس بأن تتمكّن مبادرة الرئيس الروسي من إقناع النخب السياسية العربية الحاكمة منها أو الطامعة بالوصول يوما إلى الحكم، بأنّ معادلة “حماية العرش بالقرش” تكون صحيحة عندما يُعطى القرش للشعب لا لترامب، وهذا يكون أيضا عندما يكون للشرعية الدولية والقانون الدولي اللذين تدافع عنهما موسكو والصين نيوب ومخالب تحمي الدول ذات السيادة وحكوماتها الوطنية من نيوب ومخالب القوى التي ضربت عرْض حائط الأمم المتحدة بميثاقها عندما أطاحت حكومات وطنية في العراق وليبيا وسوريا والآن تحاول في إيران، بالقوة الغاشمة العسكرية والإعلامية والمالية (الغربية الأوربية والأمريكية الأطلسية والتركية والإسرائيلية، مجتمعة فعلا بغض النظر عن تباين القول أحياناً).

لا للأعذار

وفي جميع الأحوال، نرجو لهذه القمة الروسية – العربية النجاح، ولو في حدّه الأدنى، آملين أن لا تخضع هذه الحكومة العربية أو تلك للضغوط الأمريكية، فتختلق الأعذار لعدم المشاركة في القمّة المذكورة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى