عيسى البكوش يكتب/ حسين الجزيري (1896-1974): رائد الأدب الهزلي

كتب: عيسى البكوش
فرحت بمقدمه بطون الناس… شهر تحــــنّ لذكره أضــراســــي
من منّا لم تستوقفه أثناء دراسته الابتدائية تلك الأبيات ‘الرمضانية’ التي تحتفل بحلول شهر الصيام الذي استحال هكذا إلى شهر الطعام.
لقد تفنّن صاحب هاته الأرجوزة حُسين الجزيري في تبيان ذلك في عديد من القصائد التي ضمّها ديوانه الصادر سنة 1971 عن الدار التونسية للنشر، خذ مثلا
‘مسألة’ البريك:
كم بلعنا مع البريك عظاما
وأضفنا من الصحون اللقاما
نحن قوم متخمون وإن كنّــا
خلقنا لكي نموت (بشامى)
ثـــــمّ
لا تنس صاحبي (البريك) فإنّه
رأس وكلّ طعامنا لأبدان
إنّ الصيام بلا بريك قد يرى
حليّا جفاه الدرّ والمرجان
وقس على ذلك أطباق أخرى “هام في أعطافها الولهان”
البدايات
هو حسين الجزيري المولود بمدينة تونس يوم 17 ديسمبر 1896 وهو مثلما يذكره أبو القاسم محمد كرّو في ترجمته “من عائلة أصلها من الجزائر، درس بالزيتونة ولكنه عصامي كوّن شخصيّته الأدبية بالمطالعة المتنوعة »..
اشتغل بالصحافة في جريدة “اللواء” ثمّ “المنار” و”الفاروق” الجزائرية.
ثمّ توجّه إلى الصحافة الهزلية فانضمّ إلى أسرة “المُضحك” ثمّ “جحا” ثمّ انطلق في مغامرة حياته ألا وهي بعث جريدة ‘النديم’ سنة 1921، ولقد واصل إصدارها على امتداد عشرين عاما وهو ليس بالأمر المعتاد في تلك الحقبة من تاريخ الصحافة في بلدنا… ولقد كانت زاخرة بالجرائد الهزلية من أمثال “الزهو” لصاحبها عثمان الغربي و”جحجوح” لابن عيسى بن الشيخ أحمد، و”المُضحك” لمصطفى عصمان و”السردوك” للشاذلي الفهري و”النسناس” للمختار سعادة، علاوة على “السرور” لـ علي الدوعاجي و”كلّ شيء بالمكشوف” للهادي السعيدي.
أمّا عن “النديم” فلقد كتب المنعّم نور الدين بن محمود (1914-1990) في العدد الثالث من مجلة الثريا – فيفري 1944- : ” هذه الصحيفة من الصحف الرائجة كثيرا بتونس وبالخارج وكثيرا ما نقلت فصولها الصحف السيّارة التي تصدر بأمريكا، ولقد أثنى محمود بيرم على خصال الجزيري الصحافية مع أنه بثنائه ضنين”.
كاتب سياسي
كان الجزيري من خلال مقالاته ينتقد سلطة المستعمر ولكن بطريقة فيها الكثير من الدهاء، وعلى كلّ حال لم يكن يخف انتماءه للحزب الدستوري القديم بل وميله للثعالبي حتى أنه لم يستسغ ” الانشقاق المبارك” الذي وقع في قصر هلال يوم 2 مارس 1934 من طرف جماعة بورقيبة. ولقد كتب افتتاحية في الغرض يوم 29 سبتمبر 1934 إثر اعتقال بورقيبة تحت عنوان مشاكس: “ماذا ربحنا … بهكذا عمل؟”.
ولقد أسرّها الزعيم في نفسه ولم تطبّع العلاقات بينهما إلا سنة 1958 عندما تمّ إلحاقه من جديد بالإذاعة مكلفا بمتابعة النصوص الأدبية، ولقد كان انتمى لهاته المؤسّسة منذ انبعاثها في 14 أكتوبر 1938 حيث كان يزوّد المونولوجيست صالح الخميسي بأشعاره الفكهة، ولكنّه انقطع عن العمل عند اندلاع الحرب العالمية الثانية.
سُجن بسبب مواقفه
وللإشارة فلقد ناله نصيب من الظلم إبّان الحرب العالمية الأولى بسبب مواقفه الوطنية وسُجن من أجل ذلك، وقد حمل ديوانه قصيدة تحمل عنوان “عجائب السجن”.
ومن الديوان يلذّ لي أن أقتطف لك عزيزي القارئ هاته الشذرات:
وقيل يجدر بالإنسان حين يرى
شخصا على فركة في الحي قد ركبا
بأن يقول له هذا الجواد به
ستسبق الرتل بل قد تبلغ الشهبا.
ثـــــــمّ
عندما دقّ جرس التلفون دنا
من بوقه العبد لله وقال ألو
فقال لي سامعي (بردون مون شيري)
(دوما متان) بختان الابن نحتفل
فقلت له من أنت يا “مسيو” فقال أنا
“مهمود بن صاله” عندي غدا حفل
فقلت إنّي حزين من عقولكمو
وهكذا الناس أعداء لمن جهلوا”
وأخـــيـــرا وليس آخرا
“ما بين موقف بقال وجزّار
ضاع الشعور فلم أظفر بأشعاري
قد كنت أنظم أشعاري فأحذقها
واليوم حذقي لأسوام وأسعار”
يقول المنعّم الحبيب شيبوب في حق هذا الشاعر: ” الجزيري يجمع إلى سعة الأفق وخفّة الروح وتوقّد الذهن صدق العاطفة وصحّة البيان، وهو رائع في تصيّد النكتة وصياغة الفكاهة”.
إلى جانب ذلك فلقد انخرط الجزيري في موكب المسرح التونسي إذ أنّه شغل خطّة كاتب عام بجمعية الشهامة العربية، ولقد قدّم للإذاعة عددا من المسرحيات من أشهرها ” منامة عتارس” كما أنّه كانت له حصّة دورية على أمواج الأثير “من صميم الحياة”.
رحيل حسين الجزيري
لقد أدركته في أواخر الستينات وهو يتمشّى في أروقة مبنى الإذاعة 71 شارع الحرية تونس متأنّقا بطربوشه “الاسطنبولي” وعلى كلّ فلم تنقطع صورته من هذا المكان، إذ أنّ الفنّان زبير التركي قد خلّد ذكراه في الجدارية التي تحلّي البهو الأفقي لمقر الإذاعة صحبة أساطين الأدب والفنّ في القرن الماضي وتراه بزيّه التقليدي وعنقه مشرئب إلى شيخ الفنانين الجالس على يمينه خميس ترتان وهو يداعب آلة العود.
توفي حسين الجزيري يوم 30 ديسمبر 1974 وهو القائل في قائم حياته:
“في كلّ يوم نلتقي بجنازة
والناس بين مشيِّع ومشيَّع
والموت باب في انتظار جميعنا
فلنستعدّ إذن ليوم المصرع”
رحمه الله رحمة واسعة وجازاه عنّا كلّ خير.