صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: كيف تحوّلت الشعبويّة من ظاهرة هجينة إلى برنامج حكم لأوروبا؟

slama
كتب: نوفل سلامة

إلى وقت غير بعيد لم يكن مصطلح الشعبوية متداولا في الأوساط المفكرة إلا باعتباره يعبر عن ظاهرة فكرية معزولة يؤمن بها قلة من المفكرين الخارجين على المنظومة السياسية القائمة، وعلى ما يعبر عنه بـ ‘السيستام’…

وهي تعبيرة فكرية وسياسية تنتمي إلى التيارات الفكرية الفوضوية المنحدرة من الفكر الشيوعي الماركسي والمتمردة على أفكار الاشتراكية العالمية والرافضة لمنظومة الديمقراطية التمثيلية، كما تشكلت وطُبقت في الفضاء الغربي الرأسمالي من أحزاب سياسية وجمعيات مجتمع مدني وانتخابات على القائمات ومختلف الوسائط من وسائل إعلام و نقابات وغيرهما…

توجّه جديد

هذا التوجه الجديد الذي عاد إلى الساحة السياسية وبدأ يفصح عن نفسه خيارا جديدا للشعوب وبديلا فكريا وسياسيا منذ عقد من الزمن تقريبا، ويقدم نفسه تيارا سياسيا يقوم على الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية ويتبنى خطابا سياسيا قائما على معاداة مؤسسات النظام السياسي القائم ونخبه المجتمعية والمنحدر من تنظيرات فلاسفة الاشتراكية الغربية الذين انتقدوا الماركسية والممارسة الشيوعية للدولة والمجتمع من أمثال المنظر الفرنسي ” جوزيف برودون ” و المفكر الروسي ” جوزيف باكونين ” والقس الانقليزي ‘ويليام غودوين’…

مسار جديد في أوروبا

قد تنبه إليه المفكر الياباني الأمريكي ” فرانسيس فوكوياما ” صاحب نظرية نهاية التاريخ الذي اعتبر أن ما حصل في أمريكا بعد فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، وتقدم اليمين المتطرف في الكثير من البلدان الأوروبية ومنها فرنسا وإيطاليا وهولندا وآخرها تقدم اليمين الشعبوي في الانتخابات الألمانية وإحرازه المرتبة الثانية في الانتخابات الأخيرة بنسبة من الأصوات هامة وصلت إلى حدود 20 بالمائة متقدما على الأحزاب اليسارية التقليدية مؤشر واضح على أن مسارا جديدا بصدد التشكل في أوروبا وأن تغييرا يحصل في العالم، وأن التاريخ يسير في اتجاه عودة القومية و النزعة الشعبوية…

فاليوم الأحزاب الشيوعية وكل الأحزاب التقليدية تخسر أصوات ناخبيها لصالح الأحزاب القومية واليمينية والنزعة الشعبوية فالريف الغربي الذي كان دوما مع اليسار وكان دوما يصوت للأحزاب الشيوعية قد غيّر من وجهته وأصبح ينتخب أحزاب أقصى اليمين، وينزاح نحو الخطاب القومي الشعبوي الذي يحدثه عن الداخل ويطرح له برنامجا يلتصق بهموم الناس القطرية وشواغل الفقراء والمحرومين وحتى الطبقات الوسطى من المتعلمين والمثقفين والمحافظين بدأت هي الأخرى تميل نحو التيار القومي الشعبوي.

عودة الهوية القُطرية

يعتبر فوكوياما أن التجربة التاريخية قد بينت أنه كلما حدثت أزمات اجتماعية كبرى إلا وتجد الطبقات العاملة وعموم الناس تحتمي بكل ما هو ذاتي وتعود إلى كل ما يشدّها إلى الوطن وتجد قوتها في كل ما هو نزعة قومية، وتبحث عن السند في هويتها الثقافية المحلية واليوم العالم نتيجة كل الأزمات التي يعيشها يشهد عودة الشعوب نحو هوياتها القُطرية وإحياء لنزعاتها القومية وترامب لا يمكن فهمه إلا في هذا السياق الجديد الذي يشهده العالم فهذا الرجل هو واضح المواقف وأفكاره ثابتة ومشروعه معروف وهو ” أمريكا أولا ” إنه يركز على النزعة القومية في الاقتصاد والاهتمام بكل ما يحتاجه المواطن في الداخل.

الشعبوية خيار جديد

هذا التطور الحاصل في المشهد السياسي العالمي، وخاصة ما يحصل داخل البيت الأوروبي من تقدم الأحزاب الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف وتصويت الشعوب لصالحها يفيد بأن الشعبوية لم تعد مجرد ظاهرة كلامية معزولة ولا خيارا فكريا منبوذا وإنما الذي يحصل اليوم في العالم من تراجع رهيب للفكر الديمقراطي التقليدي و التشكيك في كل مؤسسات الديمقراطية ومنظوماتها المتحكمة وفكرة العولمة والحقوق الكونية والحريات الفردية يقدم الدليل على أن الشعبوية قد تحولت إلى منظومة سياسية ثابتة وخيارا وبديلا يزاحم بقوة الخيار الديمقراطي كما قدمته الحداثة الغربية على أنها افضل ما وصل إليه العقل الغربي في العصر الحديث لإدارة الاختلاف وتحقيقي التداول السلمي على الحكم والسلطة.

اكتساح غير مسبوق

فالشعبوية اليوم بعد اكتساح أحزابها وأفرادها الانتخابات المختلفة يجعل من هذا التيار العائد بقوة بديلا سياسيا وفكريا للإنسانية لتحقيق طموحاتها وأحلامها والحفاظ على حقوقها .. اليوم الشعوب أصبحت تميل بكل وضوح إلى كل من يحدثها عن مصالحها الضيقة، وكل من يناهض الهيمنة الغربية ومؤسساتها المتحكمة التي اتضح أنها منافقة لا تخدم الشعوب بقدر ما تخدم مصالح جهات مالية واقتصادية نافذة وإلى كل من يقدم لها عرضا يدغدغ مشاعرها ويكون ملتصقا بهمومها وحاجياتها الذاتية.

الشعبوية نظرية ونظام حكم

اليوم لم يعد من الممكن التعامل مع الشعبوية بخطاب التقليل من شأنها أو بتهميشها ونعتها بشتى النعوت واتهامها بالتحايل على الجمهور و بكونها تقدم الوهم للشعوب بما تقوم به من تبسيط لقضايا مجتمعية معقدة والتحدث بإسم الشعوب واللعب على عواطف الناس وأفكارهم لإقناعهم وكسب أصواتهم، فما يحصل اليوم مع هذا التيار هو أنه رغم كل ما يُقال بخصوص خطابه ونظرته للأشياء ورؤيته لإدارة الشأن العام والتعامل مع مختلف القضايا الحارقة قد أصبح رؤية وخيارا وبديلا تؤمن به الشعوب وتدافع عنه وتقبل به بل وتخيره على غيره من الحلول وتقدمه على الخيار الديمقراطي ومنظومته الفكرية والسياسية.
اليوم الشعبوية هي نظرية ونظام حكم و خيار مجتمعي شأنها شأن النظام الديمقراطي تقوم على منطق وتحليل ورؤية ومقدمات ونتائج وخيارات نجد الشعوب في الكثير من أقطار الكرة الأرضية تميل إليها وتعدّها طريق الخلاص لكل مشاكلها وكل طموحاتها وآمالها وطريق سعادتها.
فهي في نظر الكثير من الناس ليست أكثر سوءا من الديمقراطية ولا أكثر سوءا من النظام العالمي المتحكم بمؤسساته وهياكله وأفكاره كما طبقتها الأنظمة الرأسمالية الغربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى