بنزرت تودّع الراحل عز الدين الشابي…بدموع الأحبّة وبكاء السماء وحضور النساء

كتب: الأمين الشابي
لا أدري كيف سأبدأ هذه الورقة، والحبر بكي قبلي، الفقيد الشاعر المتميّز والمربي القدير والخلوق والمتواضع والكبير وصديق الجميع، الشاعر عز الدين الشابي، الذي رحل يوم 16 جانفي 2025، كما يرحل كلّ العظماء في صمت ودون ضجيج.
رحل ـ رغم تقدم سنّه 87 سنة ـ ولكنه مازال في أوج العطاء. كيف لا وقبل رحيله بأيام فقط أعلمني وأنّه تمّ في مصر نشر كتابين جديدين له، الأول بعنوان ” الخاتمة ” وهي عبارة على ردّ على مقدمة ابن خلدون. والثاني موجه للطفل.
وكتب لي قبل موته بأيام قليلة واصفا حالته الصحية كما يلي ” وضعي الصحي الآن مترد منذ أكثر من شهر، الحمد لله، حالة مستقرة، ليس لي القدرة على الأكل. الآن أعطاني آخر طبيب أدوية وقال لي اشرب الماء وخذ ما استطعت من السوائل، عسل، حليب وتجنب كل ما يسبب لك أوجاع المعدة، وانتظر مدّة إلى أن تشعر بالحاجة إلى الأكل بمفعول الدواء. هذا وضعي الآن شكرا على متابعتك ولا أعرف كيف أشكرك صديقي الغالي… عز الدين الشابي ” نعم هذه آخر كلماته لي إلى أن صدمت وكلّ الأحبة والأصدقاء برحيله إلى الرفيق الأعلى في يوم بكت فيه السماء قبل عيون الأصدقاء هذا الفراق الكبير لشاعر كبير.
رحل الكبير وترك بعده ارثا ثريا
المفكر والكاتب والشاعر والفنان والمخترع والعالم، كلّ هؤلاء يرحلون جسدا ولكن تبقى أراوحهم مرفرفة بيننا عبر ما تركوه من أثر أدبي أو علمي أوفنّي. والراحل والشاعر الكبير عز الدين الشابي هو واحد من هؤلاء الكبار الذين سيعيشون أبد الدّهر بكتبهم وشعرهم ونقدهم وتأليفهم وعلمهم ومآثرهم.
لقد ترك الفقيد أكثر من ديوان شعري من بينها ديوان ” الليل والعرب ” كما كتب أيضا عديد الأغاني لفنانين تونسيين ومن أبرزهم الفنانة سلاف. وسبق أن ألف نصوص أوبريت تم التغني بها بعد إخراجها وتقديمها في أكثر من مناسبة عبر قنواتنا التلفزية. ولعلّ آخر ما صدر له بمصر، منذ أسبوعين، الكتابين الأخيرين ” الخاتمة” ومؤلفا آخر موجها للأطفال.
وله في الشعر صولات وجولات
كما له في الشعر صولات وجولات، وله شعر ذو طابع خاص وبلغة متينة وأغراض مختلفة، كما أنّه يتمتّع بقدرة على الكتابة باللغة الفرنسية التي يُحذقها بكل جوانبها وأصولها. بل للفقيد طابع فكاهي في كتابة بعض قصائده. ولعنا نؤكد هذا الطابع عبر كلمات هذه القصيدة التي يخاطب بها زوجته بطريقة مرحة. إذ يقول فيها مازحا ” أوج المصائب أنّك مرتي / لماذا عليّ تزيدين أنت / وجهلك يقتلني قبل موتي / فمذ جئت أهديت قلبي إليك / أكلته أكلا و منه شربت / و صبري عليك جهاد كبير / وحتّى حديثي ضياع لوقتي / أحاول أن أرتقي بالحياة / فيخذلني باصطحاب بختي / و يمنعني من صعود المراقي / وأفشل طبعا إذا ما نجحت / فحضنك قبر وحبك جمر / وصوتك قهر و أمر بكبتي / و خيرك شرّ وصفحك غدر / و حلمك مكر يؤدّي لمقتي / وقربك هجر وحلوك مرّ / و رفقتك الحقّ زفت بزفت / سئمت تنطعا و لا أنت تبت / و أجبرتني أن أعيش كئيبا / و أوج المصائب أنّك مرتي / صحيح خسرت حياتي و لكن / كذلك أنت الحياة خسرت / و أخطاؤنا أنني قد صبرت / عليك و أنّك عنّي صبرت / وأجمل ما قد جنينا البنون / مزاياك أنّك أنت ولدت / وأنّي الأب البرّ رغم المآسي / أقاسي الأمرّين لكن بصمت / سنبقى غريمين بالرغم منّا / كأني الـ C A B و أنت الترجي.
ذكريات لا تُنسى
يذكر الشاعر عز الدين الشابي في أحد المناسبات ” راودني الشعر وعمري لم يتجاوز 14 سنة وقلت في قصيدة بلغة مختلطة هجوت فيها آنذاك صديقتي التي آثرت عليّ شابا فرنسيا. وأنا لست شاعرا بل أنا متهم بالشعر. فكيف أكون شاعر وأنا المهوس بالعلوم والطب والكمياء والفيزياء وأحلم أن أكون طبيبا.
وعن علاقتي بالزعيم بورقيبة، فإنّ هذه العلاقة بدأت بقصيدة بالفرنسية نقدت فيها عدم تمشي بورقيبة في اتجاه الديمقراطية. وكانت هذه القصيدة بداية علاقتي مع بورقيبة. وقتها لم يمر على زواجي إلاّ بضعة أيام، لأجد أفرادا أمام بيتي وأعلموني وأن بورقيبة يدعوني حالا إلى القصر. فقلت في نفسي، هذه نهايتي مع الدكتاتور بورقيبة وربما سيكون آخر يوم في حياتي؟
وعليه منحي هؤلاء الأفراد بعض الثواني لأعلم زوجتي، ثمّ تمّ ترحيلي إلى القصر. وعند وصولنا، لم أعد قادرا على الوقوف من شدّة الخوف لهول ما ينتظرني، إلى درجة أن حملني هؤلاء الأفراد بين أيديهم وأدخلوني للقصر. عندما قدم الرئيس، كان لطيفا معي إلى أبعد الحدود ولاطفني فتبدد خوفي. ومنذ الوقت أصبحنا أصدقاء بل وشاعره المفضل خاصة بمناسبة زياراته إلى بنزرت”
تأبين من قبل مندوب الشؤون الثقافية ببنزرت
وكان يوم 17 جانفي 2025 يوم الوداع الأخير حيث حضر لتوديعه جلّ اصدقائه وأحبته وأفراد عائلته ورجال الإعلام والثقافة نذكر منهم محمد علي الخميري مدير البرمجة الثقافية بمندوبية الثقافة ببنزرت وفوزي بن قيراط مندوب الثقافة ببنزرت بل ولم تغب عند دفنه النساء اللواتي كن بأعداد هامّة، خاصة من الشاعرات وزميلات الفقيد، كما رصدنا حضور الممثل رؤوف بن يغلان بهذه المناسبة الذي أسّر وأنّه تربطه بالفقيد عز الدين الشابي علاقة وطيدة منذ زمان.
هذا و جاء في كلمة التأبين التي قرأها فوزي بن قيراط، بصفته مندوب الشؤون الثقافية ما يلي ” الله أكبر .. الله أكبر .. وإنا لله وإنا إليه راجعون، نودع اليوم بكل أسى وحسرة الكاتب والمربي والشاعر عز الدين الشابي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة من العطاء والبذل في المجال التربوي والأدبي والفني والثقافي عموما. ورغم تكوينه العلمي في مجال الطب، إلاّ أنّه اختار مهنة التدريس كأستاذ للغة الفرنسية ثمّ متفقدا للغة العربية … أمّا بالنسبة لأنشطته الاجتماعية والثقافية فهي كثيرة ومتنوعة ولا يسمح المجال لذكرها تفصيلا.
فقد تحمّل رئاسة اللجان الثقافية والجمعيات. كما شارك في الأعمال المسرحية والتلفزية وكتابة نصوص فنية من الأوبرات والمنوعات الفنية المختلفة. كما نشر عديد المقالات الصحفية وشارك في اعداد البرامج التلفزية”
كلمة أخيرة
تقبله الله بواسع رحمته وأسكنه جنان الخلد والنعيم ورزق أهله وذويه وأصدقاءه وزملاءه جميل الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.