نوفل سلامة يكتب: الممارسة العنيفة عند المراهقين وخطورة غياب المهمة التربوية للمدرسة

كتب: نوفل سلامة
اليوم هناك حديث مكثّف حول تراجع الكثير من منظومات المجتمع وقلق متزايد من تدهور الكثير من الروابط والعلائق الاجتماعية وخوف مشروع من تفكك أواصر المجتمع المؤذن حسب العلامة بن خلدون بانهيار الدولة وانهيار مؤسساتها الحيوية نتيجة تفكك الكثير من المنظومات التي تقوم عليها الحياة والعيش المشترك بين جميع الأفراد..
منظومة تربوية مريضة
واليوم هناك إجماع كبير على مرض المنظومة التربوية، بل وموتها وغيابها من مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية في جميع مراحلها وإجماع آخر على أن المدرسة التونسية تعاني الكثير من الضعف، وهي مرهقة ومتعبة وتحتاج إصلاحا سريعا ومتأكدا نظرا لأهمية وخطورة مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمدرسة واحدة منها في العملية التربوية و على تكوين شخصية الطفل ونموها وتأثيرها المباشر في سلوكه وتصرفاته وحياته ومستقبله…
سلوك عنيف
والذي دفعنا إلى طرح موضوع المنظومة التربوية ظاهرة السلوك العنيف عند الشباب وكمية العنف البادية في تصرفات التلميذ والشاب المراهق بكفية أصبحت لافتة ومقلقة خاصة وأن منسوب السلوك الخطير الذي تجاوز العنف اللفظي العادي إلى المادي والجنسي من حالات قتل واغتصاب وتحويل الوجهة، الصادر من طرف هذه الفئة من الشباب في مرحلة عمرية حساسة للغاية هي في ارتفاع مستمر وكل الدراسات التي تناولت هذه الظاهرة قد دقت ناقوس خطر قادم يهدد المجتمع والأسر والدولة إن لم تتدخل الجهات المعنية بمرافقة ومتابعة هذه الفئة الشبابية التي اصطلح على تسميتها بالمراهقين والتي تحولت مع الوقت ولأسباب مختلفة إلى جزء عنيف وأحيانا خطير من الشعب.
العنف الخطير
اليوم بإمكاننا أمام تفشي ظاهرة العنف الخطير عند تلاميذ المدارس وفي سلوك الشباب المراهق الذي لم تتجاوز أعماره العشرين سنة أن نقول دون خوف ولا تورية ولا تخف أننا أمام فشل كبير كمجموعة وطنية، دولة وشعبا وأسرا في الاضطلاع بالجانب التربوي وخاصة الاعتراف بأن مدرستنا قد فشلت في تأدية مهمتها ودورها التربوي الذي قامت عليه وسميت به.
اليوم علينا مصارحة أنفسنا والاعتراف بأن جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية المحمول عليها القيام بدورها التربوي والتوجيهي و الرعائي قد فشلت وخاصة المدرسة التي تخلت كليا ونهائيا عن القيام بدور التربية واكتفت بدورها التعليمي فقط. اليوم كل الدراسات التي أجريت حول مسار المدرسة التونسية وقيّمت أدائها ومدى نجاعة الاختيارات المطبقة ونجاعة المنظومة التعليمية قد انتهت إلى أن المدرسة التونسية قد تخلت نهائيا ودون رجعة عن القيام بمهمتها التربوية واكتفت فقط بدورها التعليمي وفكت كل ارتباط مع فكرة أن المدرسة من مهامها تربية الناشئة أو المساعدة مع مؤسسات أخرى على إنجاح هذه المهمة..
تغيّرت المهام والمسؤوليات
فما نشاهده اليوم هو تركيز كبير على التعلّم وإعطاء الأولوية إلى ايصال المعلومات وعلى الاعتناء بالمنهج والمضمون والمقرر الدراسي واعتناء آخر بإصلاح التعليم في جوانبه البيداغوجية والمنهجية والمضمونية لا غير مما جعل الإطار المدرس يكتفي فقط بالتواصل مع تلاميذه من خلال الدرس والمقرر الدراسي لا غير ولم يعد من حقه ولا من مسؤولياته الاعتناء بالجوانب التربوية داخل القسم لتقويم السلوك وتوجيه التصرفات وتعليم الآداب والأخلاق والقيم المتفق عليها اجتماعيا ودينيا وثقافيا، فهذه كلها ليست من مشمولاته ولم تعد من مهامه بل أن تدخله في حديث جانبي مع تلاميذه حول بعض جوانب السلوك التي يراها لا تستقيم ولا تليق سواء فيما يتعلق بالهندام أو بمعجم الكلام أو التصرفات أو ردود الأفعال وغيرها يعرضه إلى التتبعات من طرف الولي والإطار المشرف على المدرسة.
واقع خطير
هذا الواقع الخطير الذي تشهده مدرستنا حينما تخلت عن دورها الرئيسي كونها مؤسسة تنشئة اجتماعية من مهامها الأساسية تربية الناشئة إلى جانب تعليمهم، وهذا التحول الخطير الذي تعرفه منظومتنا التعليمية ولا نقول منظومتنا التربوية لأنه ليست لنا منظومة تربوية..
وهذه التداعيات الخطيرة التي تسبب فيها هذا الخيار السياسي الخاطئ الذي يعود إلى مرحلة ما قبل الثورة والذي يعد إجراما في حق هذا الشعب وحق الأسر وحق الدولة ، هو في العمق نتاج تبني مفهوم ‘التعلّم التحرّريّ’ الذي أسسه خبراء الغرب ومفكريه بعد مرحلة الاستعمار وتم فرضه على دول الجنوب ومجتمعات الاستعمار القديم و تبنته الدول العربية والإفريقية والإسلامية عن طواعية في عملية تبعية للغرب المهيمن ثقافيا وتعليميا ومعرفيا وعلميا وفي مواصلة للهيمنة الأطلسية على العالم وخاصة هيمنته على دول الجنوب والمستعمرات القديمة للدول الأوروبية التي تسعى إلى إدامة استعمارها من خلال التعليم ومن خلال خيار فصل التربية عن العملية التعليمية، وهو خيار مسقط ومفروض من الدول الأوروبية وفلسفة تعليم تقوم على فصل التربية عن الأخلاق و نظرية غربية محضة تفرضها اليوم منظومة العولمة الثقافية على المدرسة وتقدمها لنا على أنها أفضل ما وصل إليه العقل الأوروبي والمعرفة الغربية في مجال التعليم.
خطر فصل الأخلاق عن المجتمع
كل هذه المخاطر التي تعاني منها مدرستنا وهذا التحول الذي تعرفه منظومة التعليم في بلادنا قد نبّه إليها وتناولها المفكر إدوارد سعيد في كتابه ‘الثقافة والإمبريالية’ ونبّه إلى خطورة المنطق الاستعماري و الاستشراقي الأوروبي الذي يعمل دون هوادة وبصفة مستمرة أحيانا واضحة وأخرى متخفية وخفية على إظهار تفوق الرجل الأبيض وتفوق مقارباته التي تهم مختلف الميادين وخاصة ميدان التعليم والثقافة والمعرفة التي يروج لها ويسوق على أنها الأفضل والأرقى والأحسن والاجدى والتي من دونها يحصل التخلف والرجوع إلى الوراء في عملية تعال مفضوحة واعتبار أن المدرسة لا يمكن أن تكون إلا نتاجا للمركز الأوروبي الغالب و المتغلب وما على الهامش العالمي المغلوب والدول التابعة له ثقافيا وتاريخيا إلا الانصياع لكل خياراته التي صنعها للعالم ضمن سياق طويل من عنفه الرمزي لإعادة انتاج الهيمنة وإنتاج استعمار جديد من بوابة التعليم ومفهوم المدرسة الحديثة القائم على فكرة ” التعلّم التحرّري’…
والأخطر من ذلك إعادة إنتاج طبقة من الشعب وفئات اجتماعية مقتدية به وتابعه له و متبنية لخياراته الفكرية والفلسفية والمعرفية، وهي خيارات اتضح اليوم أنها لا تصلح لنا وكانت وراء الكثير من المصائب التي نعاني منها، ومن هذه المصائب تبني سياسة تعليمية خالية من كل محتوى تربوي وقائمة على فك الارتباط بين العملية التعليمية والعملية التربوية داخل المدرسة و هي مواصلة في خيار العلمانية فصل الدين عن المجتمع وفصل الكنيسة عن الناس و فصل الاخلاق عن المجتمع وتحويل القيم والأخلاق مسألة خيار شخصي لا تتدخل فيه لا الدولة ولا المجتمع ولا مؤسسات التنشئة الاجتماعية وجعلها أي الأخلاق والتربية والقيم قضية فردية تخص الفرد وحده يستقيها من أي مصدر ومنبع شاء.