صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ في تسعينية وفاة الشاعر أبو القاسم الشابي: أي راهنيّة وأي معنى وأي حضور؟

slama
كتب: نوفل سلامة

توج منتدى الفكر التنويري التونسي التابع لوزارة الثقافة والذي يشرف عليه الصديق محمد الميّ نشاطه الثقافي لهذه السنة بندوة فكرية احتضنتها مدينة الثقافة يوم السبت 12 أكتوبر 2024 احتفاء وتكريما للشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي في ذكرى وفاته التسعين (24/2/1909- 9/10/1934)

أثثها على فترتين صباحية وأخرى مسائية عدد من أساتذة الجامعة التونسية المتخصصين في دراسة أدب الشابي ومنجزه الفكري.

هواجس مطروحة

كان الهاجس الذي رافق هذه الندوة الفكرية سؤال الحضور والغياب لشخصية الشابي والقلق في عملية الاستذكار والاستعادة لشخصية فذة حفها النسيان والغياب واليوم يُعاد الحديث عنها بعد ما يقارب عن القرن من الزمن والحال غير الحال والزمان غير الزمان…
لقد كان هاجس الراهنية والمعنى والقيمة حاضرا بقوة في هذه الندوة التي لم تعتن في رأينا بأبي القاسم الشابي الراهن والحاضر وغفلت ربما عن اختيار أكاديمي مفهوم ربطه بقضايا العصر الحارقة وما يمكن أن يضيفه الشابي اليوم في راهن متقلب ومتسارع وحاضر معقد ومركب وفي زمن أجياله تبحث عن طريق و رؤية لخلاصها واختيار تقديم عروض فكرية ركّزت على الجوانب الفنية الأدبية اللصيقة شديد الالتصاق بالدرس الجامعي وما يقدم للتلاميذ والطلبة في قاعات الدرس..

انتلجنسيا منضبطة

والحال أن المطلوب اليوم على الرغم من قيمة ما استمعنا إليه ونحن نستعيد علما من الأعلام التونسيين عرف بالثورة والتمرد وقامة أدبية وفكرية قاومت الجمود والتخلف والاستعمار ورفضت مشروع التحكم في إرادة الشعوب وحاولت تأسيس وعي في صفوف الشعب يؤهله لاسترداد سيادته والعيش بكرامة وحرية، ومثل الشابي مع ثلة من الشباب التونسي المثقف في ثلاثينات القرن العشرين كان من بينهم طاهر الحداد ومحمد الدرعي ومحمد علي الحامي وغيرهم انتلجنسيا منضبطة وملتزمة بقضايا عصرها وخيرت أن لا تكون نخبة مثقفة فوضوية على شاكلة جماعة تحت السور ليلها كنهارها ونهارها كليلها وانخرطت في مشروع إصلاحي تحرري وفق رؤية عصرية للعالم وللواقع المحلي كان الشابي أحد أبرز هذا التيار الفكري التقدمي التحرري و الإصلاحي…

واقع جديد؟

ماذا يمكن أن تضيف هذه الندوة الفكرية للشاعر أبو القاسم الشابي وهو الذي أشبع بحثا، قراءة وتحليلا ونقدا؟ وماذا يمكن أن يقدم هذا الاحتفاء وهذا التكريم لشخصية أدبية خصصت لها مساحات وحيزا كبيرا في الكثير من المجلات الأدبية والمؤلفات والكتب من جديد مفيد في زمن التحولات هذا وزمن المراجعات الكبرى وفي زمن فقد عقله وتوازنه وقيمه وثوابته ونماذج إرشاده وتحول كل شيء فيه إلى فوضى يُراد لها أن تكون خلاّقة ومؤسسة لواقع جديد وأرض متحركة وأوضاع مضطربة وغامضة تفتقد الوضوح ؟ كيف يمكن أن نستعيد الشابي راهنيا وبعيدا عن الطروحات الضيقة والقضايا التي تختص بها الجامعة وتعالج في الدرس المدرسي الذي يحتاجه الطالب والتلميذ لإجراء اختبار وامتحان…

التحدي اليوم

التحدي اليوم ونحن نستعيد شابي الفكر والمعرفة وشابي العقل الناقد والروح الثائرة المتمردة شابي الحرية والإرادة.. المطلوب اليوم ونحن نعيد الحياة لهذه الشخصية التي بقيت حبيسة أسوار الجامعة التونسية وفي قاعة الدرس في المعاهد الثانوية أن ننهي تلك الصورة النمطية كونه شاعر الحب والرومنطيقية وأن ننهي غربته الطويلة التي اشتكى منها واتعبته وأن نؤسس لخطاب فكري ورؤية أدبية جديدة لا تجعله شاعر المناسبات كما حصل في أيام الثورة التونسية حين تم تذكره واستجلابه من مرقده واستعادته استعادة يتيمة في بيت شعري وحيد تحول لفترة إلى شعار للثورة قبل أن يتناسى من جديد ليعود الشابي من حيث جاؤوا به..

منظومة قيم مجتمعية

المطلوب اليوم إن كنّا حقا غيورين على هذا الشاعر الذي تنكر له الدهر والواقع والشعب وإن كنا حقا نريده راهنيا حاضرا باستمرار كما فعلت شعوب أخرى مع رموزها المؤثرين أن نجعل من أفكاره واشعاره والقيم التي آمن بها ودافع عنها ونادى بها وهي قيم إنسانية لا تزال إلى اليوم صالحة ومفيدة حركة للمجتمع ونهجا نسير عليه ونحى عليه و لحظة وعي جماعي يؤطر ويوجه السلوك والتصرفات…
أن نرى القيم التي ناضل وصارع من أجلها تتحول إلى منظومة قيم مجتمعية ومرجعية ومثلا وقدوة لكل الأجيال فـ الضعف والوهن اليوم والتراجع الحضاري من بين أسبابه غياب القدوات وفقدان المرجعيات وتتفيه الرموز المؤثرة وإبعادها عمدا من مضمار القيادة ومن المشهد العام وإحلال بدلا عنها التافهين وفاقدي الجدارة.
اليوم لا يمكن أن نستعيد صورة الشابي التي عرف بها وانتشر، ومن خلالها تعرّف عليه العالم إلا إذا جعلناه راهنيا وحاضرا بقوة مثلما حصل مع المفكر الإيطالي اليساري أنطونيو غرامشي وطرحه الفكري حول الكتلة التاريخية القائدة للتغيير وفكرة المثقف العضوي وإعادة إنتاج الهيمنة والمفكر عبد الوهاب المسيري و مؤلفاته التي اشتغل فيها على المسألة اليهودية ومالك بن نبي وفكرته حول الاستعمار وقابلية الشعوب لاستعادة الهيمنة والاستعمار وإدوارد سعيد ومشروعه حول نقد الاستشراق وتصديه لهيمنة الفكر والثقافة الغربية هؤلاء المفكرين تم استعادتهم وتذكرهم في سياق ما حصل من تداعيات خطيرة بعد حدث طوفان الأقصى وعملية السابع من أكتوبر 2023 التي هزمت العالم وأوقفت مسارات خطيرة ومشاريع ترسيم جغرافيا جديدة العالم العربي وجعلت منهم شخوصا راهنية وأفكارا ورؤى حاضرة لفهم العالم وتحليل ما يحصل فيه من أحداث.

أداة فهم وتفسير

راهنية الشابي في إحياء فكره وأشعاره وتحويلها إلى أداة فهم وتفسير وتحليل للواقع الحالي وأحداث الزمن الراهن و في التحدث بقيّمه وما ناضل من أجله .. راهنية الشابي في تحويل منجزه الفكري والأدبي إلى مشروع ثقافي وحركة حياة ونهج سلوك وطريقة عيش..
راهنية الشابي في إخراج منجزه إلى الحياة وإلى الشعب وإظهار أشعاره وتحويلها إلى قيم ومبادئ ومثل يسير عليها الجميع ويتبناها الشعب استعادة الشابي في إنهاء غربته وما حصل من قطيعة بينه وبين الشارع وإنهاء ثنائية أن الشابي هو بيت الشعر “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر” وأن هناك متلازمة وحيدة عرف بها الشابي ذلك أن هذا الشاعر وهذا العلم هو أكبر من ذلك بكثير وأهم من ذلك بكثير وأكثر إفادة من ذلك بكثير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى